في مواجهة التعصب التعاون من أجل البقاء

في مواجهة التعصب التعاون من أجل البقاء

يستعرض ريتشارد سينيت، مؤلف كتاب «في مواجهة التعصب... التعاون من أجل البقاء»، الصادر عن دار الساقي 2016 ، ترجمة: حسن بحري، كيفية الوصول إلى مجتمع أفضل عبر مهارة الإصغاء الصادق والتعاون مع الآخرين، حتى ولو كانت مصالحنا تتضارب مع مصالحهم. 

 

يذكر أنه خلال كتابته لهذا الكتاب كان مأخوذاً دوماً بميزة اجتماعية خاصة ودائمة التكرار خلال أداء أي عمل، إنها التعاون، إذ يسهّل التعاون إنجاز الأشياء، ويمكن للتشارك مع الآخرين أن يعوض عن نقص قد يكون موجوداً لدينا كأفراد. 
إن التعاون موجود في جيناتنا – يقول المؤلف– لكنه لا يستطيع البقاء محشوراً في سلوك روتيني، بل يلزمه تطوير وتعميق ضروريان، وهذا أمر يكتسب أهمية خاصة عندما نتعامل مع بشر لا يشبهوننا، وحيث يكون التعاون جهداً متطلباً. 
يركز المؤلف كثيراً على الاستجابة للآخرين، من قبيل مهارات الإصغاء خلال الحديث مع الآخر، وعلى التطبيق العملي لهذه الاستجابة في ميدان العمل أو في وسط المجتمع، وهناك بالتأكيد جانب أخلاقي للإصغاء الجيد للآخر والعمل بأسلوب متعاطف معه، ولكن التفكير في مسألة التعاون كقيمة أخلاقية فقط يعيق فهمنا، ويمكن أن يكرس عالمٌ متمرسٌ في حرفته جل طاقاته لصناعة أكثر القنابل الذرية فظاعة، كما يمكن أن يكون سبب تعاوننا أن مواردنا الخاصة غير كافية للاستمرار. 
بعيداً عن الآخرين، ولكن في علاقات اجتماعية كثيرة، لا نعرف بالضبط ماذا نريد من الآخرين، أو ماذا يريد الآخرون أن نقوم به من أجلهم. 
لهذه الأسباب يدرس المؤلف التعاون كحرفة تتطلب من البشر مهارة في الفهم والاستجابة للآخر كي نفلح في العمل معاً، إلا أن التعاون يبقى حرفة شائكة مليئة بالصعوبات ويكتنفها الغموض، وتقود في أحيان كثيرة إلى عواقب هدامة. 

التجربة والتواصل
تؤكد تجربة المؤلف أن التواصل مع الآخرين ينطوي على مهارة معيّنة وعبر تعاون أفضل بين الأطفال، تتضافر المهارات الاجتماعية والإدراكية فيما بينها.
المهارتان اللتان ركز المؤلف الضوء عليهما هما التجربة والتواصل، تنطوي التجربة على القيام بعمل أشياء جديدة، وعلى إعادة هيكلة هذه التغيرات مع مرور الزمن، ويتعلم الصغار بهذا الأمر عن طريق التكرار والتوسع فيه عبر الممارسة، ويكون التواصل المبكر ملتبساً، كما هي الحال عندما يرسل الرضيع إشارات ملتبسة، ومع تمكّن الأطفال من مناقشة قواعد اللعب يصبحون قادرين على مناقشة الالتباسات وحلها. إن فكرة إريك أريكسون الهائلة ذات معنى بالتأكيد بالنسبة إلى المؤلف، بمعنى أن الوعي الذاتي يتخلق عبر سياق التجريب والتواصل مع الآخرين، كما أن المؤلف وافق اليسون كوبنيك في تركيزها على أن التطور يتكون من تكرارية الممكنات.
وحول عدم وجود اتزان كبير لدى الإنسان المعاصر، يقول المؤلف إنه في أتون حرب كل واحد ضد الجميع يكون العقل البشري ضعيفاً، لأنه ليست هناك حالة اتزان تحكم حياة الإنسان الطبيعي، وأن المقدرة البشرية للتعاون المسالم ضئيلة. 
ويشير المؤلف إلى أن التعاون مطبوع في جيناتنا، وأنه يحصل، كما قال اختصاصي السلوك روبرت إكسيلر ود، «من دون صداقة أو تبصّر»، لكن التعاون لا يمكن أن يكون ثابتاً أيضاً وللأسباب نفسها، ولم يحدث أن كانت البيئة الطبيعية ثابتة، وعلى سبيل المثال ترجع النحلة إلى الخلية، وتتواصل مع زميلاتها بالرقص لتقوم بالإخبار عن موقع الرحيق، ويمكن أن تكون النحلة تعبيراً عن حيوان أتقن التعاون، بالفعل إن النحل راقص تواصلي مدهش، ويصف عالِم الحشرات توماس سيلي هذا الرقص التعبيري المدهش للنحل الذي «يشير بزاوية رقصته إلى الاتجاه المباشر بين الخلية وطول أجزاء مسافة الطيران».
ومع ذلك فإن نحل العسل لا يعرف حتى
الآن كيف يؤدي رقصة تعبّر عن مخاطر تلوث البيئة.

مهارة توليف التوازن
يبين المؤلف أن التوازن بين التنافس والتعاون لا يحدث بشكل طبيعي، أي كأمر لا مفر منه، بل يلزمه الإرادة والجهد، سواء كان ذلك في صفقات تجارية أو في أي مجال آخر من مجالات الحياة. إن توليف التوازن بدقة هو إحدى مهارات التفاوض، وتعد هذه المهارة حرفة في حد ذاتها.
على سبيل المثال، يتعلم المفاوض الجيد كيف يحرف المواجهة عندما تزداد الأمور سخونة إلى درجة أن يهدد أحد الأطراف بترك طاولة الحوار.
ويتحدث المؤلف عن الورشة، قائلاً عنها إنها إحدى أكثر مؤسسات المجتمع البشري قدماً، وإن لأحد أسباب قِدمها علاقة بالمكان الذي يجري فيه العمل الحرفي. وتكشف لنا آثار ورشات عثر عليها في بلاد ما بين النهرين، وترجع إلى ستة آلاف عاما، خلت، أن العمل المشترك قد يجتمع في مكان واحد، وأن ورشات الحرفيين قد أنهت -كما فعلت الزراعة - أسلوب الترحال في الحياة، حيث تنتج تلك الورشات سبل
بقائها في المكان، بينما ترتحل القبائل بحثاً عن قوتها. 
ويشير المؤلف إلى وجود مدونة قوية في الصين للتماسك الاجتماعي، هذه المدونة يدعوها الصينيون «غوانكسي»، ويصف محلل النظم، يوان لو، الـ «غوانكسي» بأنها «شبكة من العلاقات المعقدة والمراوغة يحترمها الصينيون بحماس ودهاء وإبداع». غوانكسي هي مثال عن الكيفية التي يمكن فيها للتكافل الاجتماعي أن يشكل الحياة الاقتصادية، في الجوهر هذا التكافل غير رسمي الطابع، ويؤسس شبكة دعم خارج دوائر القوانين والأنظمة الصارمة، وهنالك اعتقاد لدى الصينيين الآن بأن «غوانكسي» بدأت بالتفكك مع ازدياد تشبُّه الصين بالغرب أكثر فأكثر في أساليب تربية الأولاد والعمل والاستهلاك. 
ويبين المؤلف في لحنه الختامي لكتابه المذكور آنفاً أن فرضيته كانت بشأن التعاون أننا لا نفهم دوماً ما يدور في قلوب وعقول الآخرين الذين ينبغي علينا التعامل معهم، لكن تماماً، وكما استمر مونتين في اللعـــــب مع هرتــــه لعبتـــه الغامضة، أيضاً يجب ألا يمنعنا غياب الفهم المتبادل من الانخراط مع الآخرين، فغايتنا إنجاز أمر ما مشترك ■