تراجع المجلات الثقافية في الوطن العربي

في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية الحالية في الوطن العربي، سادت ثقافة «الإنترنت» وطغت على ثقافة المُعَلّم والكتاب، فلم يَعُد للبحث العلمي والأدبي متابعاً سوى متخصص رام الاستزادة أو مثقف أراد الاستفادة. وفي الوقت الذي توافرت فيه كل وسائل البحث والاطلاع بسهولة ويسر، قلّ حُسن اختيار المفيد أو انتقاء الأفضل.
ولعل هذا الزخم المعرفي الذي طغى على شاشات الحواسيب وانتشر عبر الهواتف الذكية، ليس إلا وجبات سريعة، تُسْكن جوع العقل ولكنها لا تغنيه أو تُشبع تفكيره.
إنّ التطور السريع في وسائل التواصل الاجتماعي أوجد التزاحم في تناول المعرفة، فغدا الغثّ أكثر من السمين، وجعل التنوير عُرضة للتزوير. لن نندب الحال، أو نبكي على الأطلال، فلاتزال هناك بارقة أمل، إن عزمنا على الجدّ في العمل.
مجلة العربي
ها هي مجلة العربي يقترب عمرها من الستين عاماً، ليحكي تاريخاً من التنوع الثقافي، مرّ بمراحل مختلفة، فيسطر على صفحاتها من أقلام كبار وصغار الكتّاب العرب إبداعات، في الرؤى الفكرية والاجتهادات، رسوم ولوحات وقصائد شعر ومقالات في كل المجالات. لم تنجح مسيرة مجلة العربي إلا بتوجهها العربي الأصيل، واتخاذها من الثقافة فضاء واسعاً ومتجدداً، تلتقي في رحابه إبداعات الأقلام العربية في مساحة عالية السقف، سادت بها حرية الرأي.
وعلى مدى ستة عقود تقريباً، تقف مجلة العربي في مقدمة المطبوعات العربية، في الوقت الذي تتراجع فيه كثير من المجلات العربية.
ولا شك في أنّ الدعم الحكومي السخي لتكاليف إعداد المجلة وطباعتها وتوزيعها في جميع أرجاء الوطن العربي، ثم بيعها بأسعار زهيدة، أدى إلى انتشار «العربي» من ناحية، ومن ناحية أخرى، فتح المجال للأقلام الجادة والواعدة للمشاركة بالمادة المعرفية والفكرية، الأدبية منها والفنية، لتكون بذلك جزءاً من وعي المثقف العربي.
لم تكن السياسة همّاً لمجلة العربي، ليس لأنّ السياسة تأخذ من الوقت ما يمكن أن يبني ثقافة الأجيال، بل لأنّ السياسة لها صفحاتها في الجرائد اليومية والمجلات التي تخصصت بها.
لذا، يتملكك إحساس عند تقليبك لصفحات «العربي» لتأخذ نَفَسًاً نزيهاً هادئاً، لا تعصب فيه أو تطرف أو غلو. مثل هذا النَفَس، يكون وعاء للجدّ والموضوعية والمصداقية، في خضم محيط عالمي تتلاحق وتتلاطم أمواجه صعوداً ونزولاً، انكساراً ونكوصاً، بين المواكبة والانسحاب والتفكك والانشقاق والفتن، كمستجدات تُغيّر الواقع العربي، فتجعل حلمه كابوساً ووحدة شعبه وهويته مأزقاً. لم تقف مجلة العربي موقفاً سلبياً تجاه كل هذه المتغيرات، فقد ناصرت حقوق الإنسان في كل مكان وزمان عبر صفحاتها، بمقالات تنويرية وكتابات موضوعية، بعيدة عن التشنج والعصبية الدينية والطائفية والمذهبية، لتفتح باباً وسطياً يستطيع القارئ من خلاله رؤية الحقيقة من كل الزوايا بحجمها الحقيقي وليس فقط بسطحها أو شكلها الخارجي.
أسباب تراجع المجلات الثقافية
في الوطن العربي
إنّ المعاناة التي تعانيها المجلات الثقافية لا تختص بالعالم العربي وحده، بل تشمل جميع المجلات الثقافية في العالم، حين انشغل المثقف بمواكبة الأحداث العالمية السريعة والكثيفة، من خلال توافر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي شغلت جزءاً كبيراً من حياة ووقت الإنسان في كل مكان، فغدت المجلة - أي مجلة - وبكل محتوياتها، بالنسبة إليه أرشيفاً متقادماً من المعلومات والأفكار، ما يجعل المجلة الثقافية تعتمد في إصدارها على الجديد والمفيد في الفنون والآداب والعلوم والتربية والثقافة العامة.
وفي عالمنا العربي، نرى التركيز على استكتاب أقلام الكتاب المشهورين والمعروفين، عوضاً عن تشجيع الأقلام الشابة المُبدعة. ونعزو أسباب تراجع المجلات الثقافية في العالم العربي إلى أسباب عدة، أهمها:
الرقابة على المطبوعات بين الدين والسياسة
الحرية ليست الفوضى، واحترام القانون أصل في ثقافة الإنسان واستمرار الدول في مسيرتها الحضارية، وعلى ذلك فإنّ الالتزام ليس قيداً، بل حصن ضد العبث والتعدي على حريات الآخرين وحقوق المجتمع. والمثقف هو من يلتزم بحماية حقوق الغير، ويرى ذلك مبدأً سامياً وواجباً إنسانياً. قد يختلط على كثير من الكتَّاب والمؤلفين مثل هذا الأمر، فيميل إلى التشهير أو التجريح، أو السبّ والقذف، أو استخدام النابي من الألفاظ بما لا يقبله المجتمع ولا ترتضيه الأخلاق. وفي الدول العربية هناك مساحات متفاوتة من الرقابة على المطبوعات، بحكم الدين والسياسة والأعراف العامة، فالرقابة الجادة والهادفة على المطبوعات تضع بعين الاعتبار عدم السماح بالتعدي أو الاستهزاء بقضايا أساسية، ومن أهمها: عدم التعدي والمساس بالذات الإلهية أو بالرسل والأنبياء، وتقف ضد العبث والتجريح بثوابت الفكر الإنساني في حرية العقائد وممارسة شعائر العبادات، كما لا تسمح بنشر ما يمكنه إثارة الفتن في المجتمع، خاصة الدينية منها أو الطائفية أو المذهبية، وذلك وفقاً لنصوص دساتيرها وقوانينها التي تكفل الحريات. إلا أن هناك فئات ذات تأثير على القرار السياسي أو الإعلامي، وتملك سلطة نافذة على شريحة كبيرة من المجتمع، لا تسمح في أحيان كثيرة بنشر ما يختلف أو ما لا يتوافق مع توجهاتها، في كتاب أو مطبوعة، وقد يكون ما ينشر ليست له علاقة بالتعديات على القانون أو ما ذكرناه سلفاً، ولكن، يكون هذا المنع من باب درء الشبهات وإيثار السلامة، ليصبح المسموح به والمتداول خطاباً فئوياً يرفض الرأي الآخر. أما في السياسة، فحدِّث ولا حرج، ولأنّ الموظف الذي يقوم بشؤون الرقابة عادة ما يكون غير ملم بكثير من التخصصات الفكرية، خاصة الفلسفية، ولكونه أيضاً ليس من متخذي القرار في تقييم الفكرة بين الرفض والقبول، فإنه ينزح إلى المنع أكثر من الإفساح، خشية المحاسبة من رؤسائه. وهكذا، تشكل الرقابة قيداً على الكاتب والناشر والموزع، السبب الذي تتراجع معه كمية النسخ المطبوعة إذا ما قارناها بدول أكثر تقدماً وأكثر أمناً واستقراراً.
التقدم التكنولوجي في استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي
أصبحت «الإنترنت» ووسائل التواصل الاجتماعي تشكل جزءاً مهماً من صياغة الفكر الإنساني، ووفقاً لما تفرضه دلالات التعبير الافتراضي لمستخدمي تلك الوسائط، نرى نوعاً من الصياغة الجديدة قد أخلّ بمنهجية التفكير العقلي، القائم على أساس التجربة والمشاهدة والاستنتاج، بطريقة تكاد تكون حشوية تستند إلى الانطباع الأول لتلقي المعلومة، معنىً كان ذلك أم صورة، فالمتلقي بات لا يفحص نَصّاً أو يتحرى عن صدق صورة، وصار يقبل ما يُعرض على الشاشة بأنّه غالبا ما يكون صدقاً، حتى تأتيه معلومة، بالطريقة نفسها، تدحض أو تلغي سابقتها.
المعضلة الأساسية في هذه الوسيلة أنّها ضيّقت حدود دائرة التفكير الإنساني، حيث اقتضى الأمر الركون إلى التلقي بدلاً من التخيل الخلاق والتفكير المبدع.
لقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي منافساً قوياً للمجلات الورقية، وذلك لسرعة نشر المعلومات واستقبالها بسهولة ويسر، من دون أي تحقيق علمي أو تدقيق لغوي، أو حتى مصداقية في نقل المعلومة، إلا أنّ ذلك قد لاقى هوىً وترحاباً لدى شريحة كبيرة من أفراد المجتمع، هي شريحة الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 سنة. السبب الذي أثر على نسبة قراء المجلات الورقية لتقتصر على من هم فوق ما ذكرناه عمراً. من أجل ذلك ارتأت كثير من المجلات أن تقرن إصدارها الورقي بإصدار مماثل إلكتروني، وقد أرهق ذلك كثيراً من المجلات تكلفة في الوقت والجهد والمال.
التكلفة المالية الباهظة
في إصدار المجلة الورقية
إذا استثنينا رواتب المحررين وفريق عمل الطباعة والإخراج والإنتاج الفني، تبقى مكافآت الكُتّاب تُشكّل مصدر معاناة لدى القائمين على أي مجلة. وتعتبر أسعار الورق عالي الجودة مصدر قلق آخر، حيث إنها ما فتئت بازدياد كبير، هذا بالإضافة إلى مصاريف الشحن والنقل والتوزيع. وإذا كانت المجلة المطبوعة لا تستند في تمويلها إلى دعم حكومي أو دعم وقفي خاص، فإنها تلجأ إلى الإعلانات كركن أساسي لتمويل طباعتها وتسويقها، وعادة ما تستحوذ تلك الإعلانات على أهم الصفحات المقروءة في المجلة، مما يفقدها جزءاً من مصداقيتها الثقافية أحياناً، هذا إذا كانت معظم تلك الإعلانات إعلانات تجارية يكون الهدف منها تسويق سلعة لا تلقى رواجاً.
ضعف شركات التوزيع في العالم العربي
لا يصل كم طباعة أي مجلة عربية، باستثناء مجلة العربي، إلى خمسين ألف نسخة. وعلى الرغم من ذلك نرى ضعفاً في التوزيع، يكاد يكون عائقاً في نشر الثقافة والفنون والآداب على مستوى العالم العربي.
ولو ألقينا نظرة سريعة على جدول مقارنة الأسعار الذي يعتمده اتحاد الموزعين العرب، لرأينا عجباً، حيث لا يزال الموزع العربي يعمل بأسلوب بدائي يعتمد على نظام «دكاكين الكتب والمجلات»، وقد فتحت معارض الكتب العربية له أبوابها، دعماً وإسناداً، إلا أننا نرى كثيراً من الموزعين لا يرى في تلك المعارض سوى منفذ للبيع، يزداد منه ربحاً وفائدة. ولا ضير في ذلك، وإنما كان الأمل أن يعمل على الأقل بوضع كتيب يحوي سير المؤلفين وملخصات موجزة عن الكتب المعروضة، وهذا لا نراه إلا قليلاً.
إن الكتابة والقراءة والنشر والتوزيع برنامج توعوي شامل، يأخذ بعين الاعتبار المستجدات في الثقافة والتربية والعلوم، وتطبيق مثل هذا الأمر ليس منوطاً بالعلماء والأكاديميين المتخصصين في مجالات العلوم المختلفة، ولا بالناشرين والموزعين فقط، بل هو مشروع متكامل، لابدّ أن يساهم فيه المثقفون والقادة من أهل السياسة، إنّه مشروع دولة تتبنى منظومة فكرية متكاملة لبناء مستقبل أجيال من المثقفين والعلماء ■