عندما ينتصر الإنسان على نفسه بالخيال

عندما ينتصر الإنسان على نفسه بالخيال

منذ أن خرج الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الأصوات إلى اللغة، ومن القطيع إلى الجماعة الإنسانية، متسلحاً بأدواته الحجرية، وبالأسماء التي يطلقها على كل ما يحيط به، فينقله من الغفلية إلى الوجود، عرف أهمية الخيال والمتخيل وخطورتهما، فبواسطتهما منح الإنسان معنى لنفسه ومعاني لكل ما يحيط به. لم يكن الإنسان البدائي يحتمي بالمغارة والنار فقط، فدرعه الآمنة كانت دوماً تكمن أيضاً في الخيال؛ تلك القدرة التي يصوغ بها عالماً، كل شيء فيه يذهله ويخيفه ويعذبه، فبالخيال روّض الإنسان كل هذا، وجعل مفهوماً له، في انسجام معه. وفي براءة الأيام الأولى تلك، كان كل شيء يكلّم الإنسان، الغيمة والمطر والأحجار والماء والحيوانات، وكان ينصت لذلك الكلام ولا يعتبره تنفيساً عن قوى الطبيعة، بل رسائل من ذوات متخفية يهمها أن تحدثه. أسر الإنسان العالم في متخيله وشكّله كما شاء. لم يكن يهمه سؤال، هل ما ينسجه صحيح؟، بقدر ما تهمه قدرته على تجاوز - وبوساطة الخيال - عجزه وضآلته وقصوره. المتخيل هو القدرة الجبارة التي امتلكها الإنسان لينتصر على نفسه، هو الأداة التي مكنته من فتح مسارات ودروب في جدار جهله، هو ملكة جعلت كل شيء ممكناً ومتاحاً. لكل هذا، كان الإرث العظيم الذي تناقلته البشرية، ليس هو أحجار المعابد ومآثر الملوك ومنجزات الدول، بل هبات المتخيل الإنساني التي سكنت أبيات ملحمة أو قصيدة، وتفاصيل تمثال أو لوحة، وأحداث حكاية أو رواية، إنه الإرث الذي تجد فيه الإنسانية جمعاء نفسها، وتتعرف بداخله على مخاوفها وأحلامها وتطلعاتها ومآسيها. لا تقتسم البشرية حقاً إلا المتخيل وفواكه الخيال.
منذ ابن خلدون، على الأقل، ونحن نعرف أن التاريخ عموماً يعيد صياغة الماضي لحساب الحاضر، إننا لا نكتب الماضي أبداً كما جرى، بل نكتب فقط ما احتفظت به الذاكرة، وما ولّده النظر لما فات، نظر تسكنه بالضرورة المصلحة والهوى والرغبة في قول شيء ما عن الحاضر من خلال الماضي.
إننا لا نكتب الماضي إلا بقدر كبير من الخيال، يملأ فجواته، يشخّص ما وقع فيه، يبحث عن الدوافع والرغبات التي كانت كامنة فيه وحركت تجاربه. يسعفنا التخييل دوماً في بناء ما يتعذر بلوغه، وما لا يمكن استعادته إلا داخل اللغة ومتخيلاتها، فالماضي برمته ينحل في اللغة، بما أنها «مسكن للكينونة» كما قال هايدغر، وبما أن اللغة مشاعة، مطروحة في الطرقات، وبإمكان الجميع الوصول إليها واستخدامها، فإن واجب كل كاتب حقيقي هو أن يصارع داخل هذه اللغة ليخلق حيزه الخاص، وليترك ميسمه، لا نستعمل اللغة، وخصوصاً في الكتابة الأدبية، إلا باستخدام كل متخيلات اللغة ولا نهائية الإمكانات التي يتيحها لقاء كلمة بكلمة لتشكيل جملة كاملة مكتفية بذاتها.
لا متخيل، إذن، إلا داخل الذات، فالجماعات لا تتخيل إلا من خلال أفراد، لهم ميزات خاصة، سحرة، كهان، شعراء، رواة، حكاؤون... وهي تتبنى ما شكّله خيالهم، فالتخييل دوماً عمل ذاتي.
كل ما يحيط بالإنسان مجزأ، متشرذم، متناثر، فحتى تجارب الإنسان تتوالى في مجرى الزمن الذي يلتهم كل شيء كجزر معزولة عن بعضها البعض، ولا شيء يربط بينها إلا قدرة الإنسان على بناء - وعن طريق التخييل - كلية متعالية بداخله، لكل ما يفتقد الوحدة والانتظام، والأهم من كل هذا لكل ما يفتقد المعنى ■