تدروشوا... تعمّموا!

تدروشوا... تعمّموا!

هذا‭ ‬عنوان‭ ‬قصيدة‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ديوان‭. ‬هي‭ ‬دعوة‭ ‬يطلقها‭ ‬الشاعر‭ ‬خليفة‭ ‬الوقيان،‭ ‬ساخرة‭ ‬مُرّة‭ ‬تلذع‭ ‬خلايا‭ ‬عقلك‭ ‬المتوثبة‭ ‬فتصعقها‭ ‬حين‭ ‬تكشف‭ ‬لك‭ ‬ذلك‭ ‬الخط‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬وطنه‭ ‬شعلة‭ ‬طموح‭ ‬فكري‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬بعين‭ ‬واعية،‭ ‬وينتقي‭ ‬كل‭ ‬فكرة‭ ‬منيرة‭ ‬متقدمة،‭ ‬فيجعلها‭ ‬مقصداً‭ ‬له،‭ ‬هدفاً‭ ‬وعملاً‭ - ‬تسلل‭ ‬إليه‭ ‬أصحاب‭ ‬فكر‭ ‬ظلامي‭ ‬فقيَّدوا‭ ‬هذه‭ ‬الانطلاقة‭. 

‭ ‬جاهد‭ ‬المتسللون،‭ ‬بل‭ ‬ونجحــــوا،‭ ‬في‭ ‬إخماد‭ ‬كل‭ ‬فكرة‭ ‬نيرة‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬يراها‭ ‬متوثــــبة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬منفذ‭ ‬تُطلق‭ ‬منه‭ ‬طاقة‭ ‬نور‭. ‬جاء‭ ‬خليفة‭ ‬الوقيان‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬ليعلق‭ ‬شمعة‭ ‬التنبيه،‭ ‬ويهز‭ ‬ناقوس‭ ‬الخطر‭ ‬ليقول‭ ‬لنا‭: ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬آل‭ ‬إلى‭ ‬نقيض‭ ‬ما‭ ‬تمناه‭ ‬ورسمه‭ ‬وعمل‭ ‬لأجله‭ ‬كل‭ ‬الرواد‭ ‬المستنيرين‭. ‬

جاءت‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬وهذا‭ ‬الديوان،‭ ‬ليشخصا‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭. ‬ولكن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬فيما‭ ‬قالته‭ ‬القصيدة‭ - ‬الديوان‭ - ‬ثمة‭ ‬قضيتان‭ ‬مهمتان‭ ‬يطرحهما‭ ‬علينا‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إليهما‭ ‬متفحصين،‭ ‬وتجب‭ ‬مناقشتهما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬عصيّاً‭ ‬على‭ ‬الألوان،‭ ‬وأضحت‭ ‬الثقافة‭ ‬السائدة‭ ‬التي‭ ‬يُروج‭ ‬لها‭ ‬ثقباً‭ ‬أسود‭ ‬يلتهمنا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يئد‭ ‬أحلاماً‭ ‬رغدنا‭ ‬بها‭ ‬زمناً‭. ‬

القضية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تواجهنا‭ ‬بها‭ ‬سطور‭ ‬قصائد‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬متصلة‭ ‬بفن‭ ‬الشعر،‭ ‬وما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مفتتح‭ ‬هذا‭ ‬القرن،‭ ‬حين‭ ‬ورث‭ ‬حالة‭ ‬التوغل‭ ‬في‭ ‬الغربة،‭ ‬فالاغتراب‭ ‬عن‭ ‬محيطه،‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬قبساً‭ ‬يستمد‭ ‬منه‭ ‬المجتمع‭ ‬نورَ‭ ‬هَدي‭ ‬لكل‭ ‬رسالة‭ ‬مستنيرة‭ ‬ناقدة‭ ‬موجهة‭ ‬محركة،‭ ‬تنفذ‭ ‬إلى‭ ‬المتلقي،‭ ‬توقظ‭ ‬فيه‭ ‬انفعاله،‭ ‬تنفضه‭ ‬بإيجابية،‭ ‬تغرس‭ ‬فيه‭ ‬دعوة‭ ‬بناء‭ ‬للمستقبل‭. ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬دائماً‭ ‬حاضراً‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الحياة‭ ‬حتى‭ ‬جاءت‭ ‬دعوات،‭ ‬يطول‭ ‬شرح‭ ‬أسباب‭ ‬ظهورها‭ ‬وحججها،‭ ‬فمنه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬فني‭ ‬ومنه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬اجتماعي‭ ‬وسياسي،‭ ‬فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬لهذه‭ ‬الدعوات‭ ‬أن‭ ‬فُصل‭ ‬الشعر‭ ‬عن‭ ‬دوره،‭ ‬وسادت‭ ‬مقولة‭ ‬الجماليين‭ ‬المفرطة‭ ‬بانفصاليتها،‭ ‬حين‭ ‬قالوا‭ ‬لنا‭: ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬غايته‭ ‬فيه،‭ ‬فقامت‭ ‬عصبة‭ ‬متدروشة‭ ‬تتعصب‭ ‬لهذه‭ ‬المقولة،‭ ‬وكأنها‭ ‬دين‭ ‬لا‭ ‬يأتيه‭ ‬الباطل‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬خلفه‭. ‬

نعم،‭ ‬نحن‭ ‬أيضاً‭ ‬نقول‭ ‬معهم‭ ‬إن‭ ‬حق‭ ‬الشعر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شعراً‭ ‬أولاً،‭ ‬يحقق‭ ‬ذاته‭ ‬ويستكمل‭ ‬جمالياته،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬حاملاً‭ ‬معه‭ ‬أنواره،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬ويُفْصَل‭ ‬عن‭ ‬دوره‭ ‬التاريخي‭ ‬باعتباره‭ ‬أميز‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬نقد‭ ‬الواقع‭ ‬واستشراف‭ ‬المستقبل،‭ ‬فهو‭ ‬دخول‭ ‬في‭ ‬عبثية‭ ‬الفعل‭ ‬والمقصد‭. ‬إن‭ ‬دعوة‭ ‬فصل‭ ‬فن‭ ‬الشعر‭ ‬عن‭ ‬وسطه،‭ ‬وجعله‭ ‬طلاسم،‭ ‬أضرت‭ ‬بالشعر‭ ‬ونفَّرت‭ ‬القارئ‭. ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬ليدحض‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬ويُنَبه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬للشعر‭ ‬قضيته‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ورسالته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬التخلي‭ ‬عنها‭. 

القضية‭ ‬الثانية،‭ ‬أو‭ ‬الطرف‭ ‬المكمل‭ ‬للسابقة،‭ ‬هو‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬الذي‭ ‬انتفخ‭ ‬بمقولات‭ ‬نرجسية،‭ ‬وزعم‭ ‬مزاعم‭ ‬ادعت‭ ‬العلمية‭ ‬والدقة؛‭ ‬فتحول‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬إلى‭ ‬معادلات‭ ‬وأقواس‭ ‬وجداول،‭ ‬فتاهت‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬الفضاء،‭ ‬فلا‭ ‬هي‭ ‬علم‭ ‬ينتفع‭ ‬به،‭ ‬ولا‭ ‬مداخل‭ ‬وإضاءات‭ ‬تحبب‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬وتزيد‭ ‬مقدار‭ ‬وعيه‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬من‭ ‬جماليات‭. 

مر‭ ‬الشعر‭ ‬والنقد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الهلامية‭ ‬حتى‭ ‬أصبحا‭ ‬مضحكة‭ ‬للضاحكين،‭ ‬ومن‭ ‬بقي‭ ‬يعطي‭ ‬الشعر‭ ‬أهمية‭ ‬يهز‭ ‬أكتافه‭ ‬متحسراً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬العريق‭ ‬الجميل‭ ‬كيف‭ ‬انزوى‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬قصيّ‭ ‬يقصده‭ ‬بقايا‭ ‬من‭ ‬محبين‭ ‬يتناقصون‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭. ‬

تجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬تلك‭ ‬الدائرة‭ ‬إلى‭ ‬الانغماس‭ ‬بما‭ ‬حوله،‭ ‬لا‭ ‬يغمغم‭ ‬ولا‭ ‬يهمهم،‭ ‬ولكنه‭ ‬يضع‭ ‬جمالياته‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬تجاربه،‭ ‬ويطلق‭ ‬رسالته‭ ‬أمامه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تردد‭. 

وجاءت‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لتقول‭ ‬لنا‭ ‬ثلاثة‭ ‬أمور‭ ‬وتكشف‭ ‬لنا‭ ‬حالات،‭ ‬تفتح‭ ‬الباب‭ ‬لتبصر‭ ‬في‭ ‬الحال‭ ‬القائم،‭ ‬لأن‭ ‬الشاعر‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُرى،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬مرئياً‭ ‬يجعله‭ ‬محسوساً،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬محسوساً‭ ‬يحوله‭ ‬عاطفة‭ ‬تُشكل‭ ‬في‭ ‬داخلنا‭ ‬فكرة‭ ‬مُدْركة،‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬تأتي‭ ‬القصيدة‭ ‬لتمس‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬الضمور‭ ‬المزري،‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الملامسة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مجسمة‭: 

تَدَروشوا‭ ‬تعمّمــــــوا

تنــــــــــــــــــــــــــــقبـــــوا‭ ‬تكمــــــــــــــــّمــــــــــــــوا

تطامنوا‭ ‬ثم‭ ‬اخنعوا

تضـــــــاءلــــــــــــــــــــــــــوا‭ ‬تقــــــــزّمـــــــــــــــوا

وطأطئوا‭ ‬رءوسَكمْ

فالسيلُ‭ ‬ليس‭ ‬يرحـــــــمُ

وكَسِّروا‭ ‬أقلامَكـــم

فالمجدُ‭ ‬أن‭ ‬تَسْتسلموا

وأن‭ ‬يسودَ‭ ‬فيكُــــم

جهــلٌ‭ ‬وحــــــــسٌّ‭ ‬مُعْــــــتـــــــــمُ‭ ‬

الدروشة‭ ‬حالة،‭ ‬بدأت‭ ‬بالتعبـد‭ ‬وأفرطت‭ ‬حتى‭ ‬فَرّطت‭ ‬بوقار‭ ‬العبادة،‭ ‬وتهاوت‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬صاحبها‭ ‬فقد‭ ‬سيـــــطرة‭ ‬العقل‭ ‬عليه،‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬حد‭ ‬الإنسان‭ ‬الســــوي‭ ‬المنسجم‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الشطحات‭ ‬التي‭ ‬دائماً‭ ‬ما‭ ‬تــــكون‭ ‬مفارقة‭ ‬للعقل‭.‬‭..‬

هذا‭ ‬وصفه‭ ‬لنتيجة‭ ‬قائمة،‭ ‬وتَتْبَعُها‭ ‬خطوة‭ ‬تالية،‭ ‬فهذه‭ ‬الدروشة‭ ‬عمَامةٌ،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬تكمن‭ ‬مفارقة‭ ‬لافتة‭ ‬للنظر‭ ‬ولكنها‭ ‬حقيقة،‭ ‬فالعمامة‭ ‬مظهر،‭ ‬في‭ ‬طبيعته،‭ ‬مُفعم‭ ‬بالدلالة‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬والتفكير‭ ‬والاحترام،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬العمامة‭ ‬المشار‭ ‬إليها‭ ‬لم‭ ‬تأتِ‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬العلم،‭ ‬بل‭ ‬جاءت‭ ‬مرتكزة‭ ‬أو‭ ‬موصلة‭ ‬للنتيجة‭ ‬السابقة‭ (‬الدروشة‭)‬،‭ ‬حينئذ‭ ‬يفقد‭ ‬العلم‭ ‬طبيعته‭ ‬لينتهي‭ ‬إلى‭ ‬الجهل‭ ‬والانغلاق‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬التفكير،‭ ‬أصبحت‭ ‬العمامة‭ ‬قيداً‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬رمز‭ ‬إشعاع‭ ‬للمعرفة‭. ‬وهذا‭ ‬القيد‭ ‬يوغل‭ ‬في‭ ‬محاصرة‭ ‬العقل‭ ‬حينما‭ ‬يحرمه‭ ‬من‭ ‬إطلاق‭ ‬مساحة‭ ‬الرؤية‭. ‬هذا‭ ‬القيد‭ ‬الدال‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مرئية‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬المخفية،‭ ‬فبعد‭ ‬العمامة‭ ‬على‭ ‬الرأس،‭ ‬يأتي‭ ‬النقاب‭ ‬والتكمم،‭ ‬وهما‭ ‬درجتان‭ ‬توغلان‭ ‬في‭ ‬فعل‭ ‬الحَجْبِ‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬والتأمل،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬التفكير‭ ‬الصافي‭,‬‭ ‬وتترتب‭ ‬عليهما‭ ‬حالات‭ ‬من‭ ‬التدني‭ ‬تأتي‭ ‬متتابعة‭:‬

تطامنوا‭ ‬ثم‭ ‬اخنعوا

تضاءلوا‭ ‬تقزّمـــــــــــــــوا

وطأطئوا‭ ‬رءوسَكمْ

التطامن‭ ‬جسدي‭ ‬ودلالة‭ ‬معنوية‭ (‬الخضوع‭)‬،‭ ‬والتضاؤل‭ ‬تدني‭ ‬القيمة‭ ‬البشرية،‭ ‬ودلالتها‭ ‬المادية‭ (‬تقزموا‭) ‬ويجتمع‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي‭: ‬طأطأة‭ ‬الرءوس‭ ‬تساوي‭ ‬تمام‭ ‬الخضوع،‭ ‬فهذه‭ ‬الرءوس‭ ‬التي‭ ‬قيدوها‭ ‬بالعمامة،‭ ‬سالفة‭ ‬الذكر،‭ ‬سقط‭ ‬محورها‭ ‬الأساسي‭ (‬التفكير‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يرفعها‭ ‬عزة،‭ ‬فإذا‭ ‬فقدته‭ ‬انحنت‭ ‬ذلة،‭ ‬والذلة‭ ‬تحطيم‭ ‬للذات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُجمل‭ ‬نتائجها‭ ‬المقطع‭ ‬التالي‭:‬

وكَسِّروا‭ ‬أقلامَكـــم‭  

فالمجدُ‭ ‬أن‭ ‬تَسْتسلموا‭ ‬

وأن‭ ‬يسودَ‭ ‬فيكُــــمُ‭  

جــهـــــلٌ‭ ‬وحـــــــــــسٌّ‭ ‬مُـــــــــعْــــــــــتـــــــــمُ‭ ‬

وأشير‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬التكامل‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬القائمة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭: ‬الجهل‭ = ‬محله‭ ‬العقل‭ ‬المفكر،‭ ‬الحس‭ = ‬الشعور‭ ‬المتلقي،‭ ‬وهو‭ ‬أولى‭ ‬حالات‭ ‬الاستقبال‭ ‬عند‭ ‬الكائن‭ ‬الحي،‭ ‬النبات‭ ‬والحيوان،‭ ‬ومن‭ ‬يفقد‭ ‬الحس‭ ‬يفقد‭ ‬الحياة‭ ‬ذاتها،‭ ‬فانظر‭ ‬كيف‭ ‬تم‭ ‬نقل‭ ‬الدلالة،‭ ‬فالعقل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يوصف‭ ‬بأنه‭ ‬معتم‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬الظلامية‭ ‬في‭ ‬التفكير،‭ ‬ولكنه‭ ‬نقل‭ ‬الإعتام‭ ‬إلى‭ ‬الحس،‭ ‬وهو‭ ‬يمثل‭ ‬الحالة‭ ‬الأولى‭ ‬للتلقي،‭ ‬ليبين‭ ‬مدى‭ ‬شمولية‭ ‬الأمر‭ ‬وفداحته‭. ‬

يلجأ‭ ‬الشاعر‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬مقارنة‭ ‬الحال‭ ‬بالآخرين‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬إلى‭ ‬المقارنة‭ ‬بالذات،‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬فيه‭ ‬وما‭ ‬أصبحنا‭ ‬عليه،‭ ‬فينكشف‭ ‬التدني‭ ‬الذي‭ ‬وقعنا‭ ‬فيه،‭ ‬المقارنة،‭ ‬أو‭ ‬المعادلة‭ ‬بين‭ ‬أمرين،‭ ‬وعرض‭ ‬النقيض‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬ملجأ‭ ‬كل‭ ‬شاعر‭ ‬إلى‭ ‬تجسيم‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬يعرضها،‭ ‬حين‭ ‬يلقي‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الأمر،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬الأنوار‭ ‬هي‭: 

مضى‭ ‬زمانٌ‭ ‬أشرقت‭  

بِهِ‭ ‬العقولُ‭ ‬فيكمُ‭ 

ثم‭:‬

وأقبلت‭ ‬جحافلٌ‭   

مِنَ‭ ‬الظلامِ‭ ‬تَرزمُ‭ 

تَحسَّسوا‭ ‬رقابَكم‭    

فللسّكاكين‭ ‬فَمُ‭   

ومن‭ ‬ثم‭ ‬تصبح‭ ‬الالتفاتة‭ ‬للوطن‭ ‬واجبة‭ ‬لكل‭ ‬متأوهٍ‭ ‬على‭ ‬الحال‭ ‬القائمة،‭ ‬أضعها‭ ‬أبياتاً‭ ‬للتأمل‭ ‬والتفكر‭ ‬فيما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬الأمر‭: 

يا‭ ‬وطناً‭ ‬قد‭ ‬شادَهُ

مِنْ‭ ‬قبلُ‭ ‬صِيْدٌ‭ ‬أَقدموا

تَقَحّمـــــوا‭ ‬مسالكاً

بها‭ ‬العذابُ‭ ‬يَجثـــــــمُ

فأقبلت‭ ‬حمائم‭ ‬الـ

حُــــــــــــــــــبِ‭ ‬بِــــــــــــــــــــــــهِ‭ ‬تــــــــــــــَرَنّــــــــــــَمُ

أتى‭ ‬الجرادُ‭ ‬بغتةً

يجتاحُ‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬عَظَّموا

يا‭ ‬وطناً‭ ‬قد‭ ‬قــام‭ ‬فيــــــــــ

ــــه‭ ‬للضياءِ‭ ‬مأْتـــــــــــمُ

يا‭ ‬وطناً‭ ‬أضاعـهُ

عجزٌ‭ ‬وصمتُ‭ ‬مُبْهمُ

عليكَ‭ ‬ألفُ‭ ‬رحمةٍ

إنْ‭ ‬لَمْ‭ ‬يَهبَّ‭ ‬النُـــــــوَّمُ

لست‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التحليل‭ ‬الأدبي‭ ‬التفصيلي،‭ ‬ولكنها‭ ‬إشارات‭ ‬تنبيه‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬كوامن‭ ‬بسيطة‭ ‬مظهراً،‭ ‬ولكن‭ ‬الناظر‭ ‬لها‭ ‬يرى‭ ‬ويرى‭. 

 

القصيدة‭ ‬والديوان‭ ‬وحيوية‭ ‬الحوار‭ ‬

لأن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬جاء‭ ‬حضورها‭ ‬مؤلماً‭ ‬موقظاً‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬المياه‭ ‬الراكدة‭ ‬فأثارت‭ ‬موجعا،‭ ‬لذلك‭ ‬تشكلت‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬حرص‭ ‬الديوان‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يسجلها،‭ ‬وتمثلت‭ ‬في‭ ‬جهتين،‭ ‬كل‭ ‬جهة‭ ‬تمثل‭ ‬موقفاً‭ ‬من‭ ‬توجهات‭ ‬القصيدة،‭ ‬الجهة‭ ‬الأولى‭ ‬تلقتها‭ ‬ظامئة،‭ ‬رأت‭ ‬فيها‭ ‬صوتاً‭ ‬جمعياً‭ ‬ينطق‭ ‬بلسان‭ ‬قلوب‭ ‬وعقول‭ ‬اختزنت‭ ‬حسرة‭ ‬تشابه‭ ‬الحسرة‭ ‬التي‭ ‬أطلقتها،‭ ‬وساءها‭ ‬ما‭ ‬ران‭ ‬ثم‭ ‬سيطر‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬جموداً‭ ‬وتخلفاً‭ ‬وعزوفاً‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬الفاعلة،‭ ‬فكانت‭ ‬الدروشة‭ ‬فيها‭ ‬دلالة‭ ‬انسلاخ‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬ومعاكسة‭ ‬لحركة‭ ‬التطور‭ ‬من‭ ‬حولنا‭. ‬

هذه‭ ‬الجهة‭ ‬الأولى‭ ‬تمثل‭ ‬تفاعل‭ ‬المجاور‭ ‬المؤازر،‭ ‬استجاب‭ ‬ليحاذي‭ ‬الكتف‭ ‬بالكتف‭ ‬كي‭ ‬يسير‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬يعيد‭ ‬للشعر‭ ‬حضوره‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬رونقه‭ ‬وبهاءه،‭ ‬فهم‭ ‬مثله‭ ‬متألمون‭ ‬أصحاب‭ ‬نظرة‭ ‬متجهة‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭. ‬أولهم‭ ‬الشاعر‭ ‬نشمي‭ ‬مهنا‭ ‬الذي‭ ‬اقتنص‭ ‬وقفات‭ ‬ساخطة‭ ‬هازئة،‭ ‬يلتفت‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬جذر‭ ‬قديم،‭ ‬نَبَض‭ ‬بالحالة‭ ‬المشابهة،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭ ‬طرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد‭ ‬قوله‭: ‬خلا‭ ‬لك‭ ‬الجو‭ ‬فبيضي‭ ‬واصفري‭ ‬فصارت‭ ‬مثلاً،‭ ‬ثم‭ ‬تناول‭ ‬الخط‭ ‬شاعر‭ ‬قديم‭ ‬آخر‭: ‬تقي‭ ‬الدين‭ ‬ابن‭ ‬العربي‭ (‬ت‭ ‬684‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬فقيهاً‭ ‬أديباً‭ ‬ظريفاً‭ ‬قال‭ ‬قصيدة‭ ‬ساخرة،‭ ‬هي‭ ‬القصيدة‭ (‬الدبدبية‭) ‬ومنها‭: ‬

أي‭ ‬دبدبـــــهْ‭ ‬تدبدبـــــي‭ ‬أنا‭ ‬علي‭ ‬المغربـــــــــــــــي

أنا‭ ‬الذي‭ ‬أسْدُ‭ ‬الشرى‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬لا‭ ‬تحفل‭ ‬بي

إذا‭ ‬تمطيت‭ ‬وفرقعــــــــــــت‭ ‬عليهم‭ ‬ذنبــــــــــــــــي

فمن‭ ‬رأى‭ ‬للهذيـــــــان‭ ‬موكبــــــاً‭ ‬كموكبــــــــــــــي

وهي‭ ‬طويلة،‭ ‬وتسلّم‭ ‬طرفها‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬الجواهري‭ ‬بوقفة‭ ‬مماثلة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مشهورة‭:‬

أي‭ ‬طرطرا‭ ‬تطرطري‭ 

تقدمي‭ ‬تأخري

في‭ ‬زمن‭ ‬الذرِّ‭ ‬إلى

بداوة‭ ‬تقهقري‭ ‬

وجد‭ ‬نشمي‭ ‬مهنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬مساحة‭ ‬دخول،‭ ‬فشارك‭ ‬محاوراً‭ ‬بقصيدة‭ ‬فيها‭ ‬نظرة‭ ‬مشبعة‭ ‬بسخرية‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬رصدت‭ ‬هذه‭ ‬السخرية‭ ‬تهاويه‭ ‬وسقوطه،‭ ‬ولتكشف‭ ‬القناع‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬أدار‭ ‬رأسه‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬وهذا‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬نشمي‭ ‬مهنا‭:‬

أيْ‭ ‬دبدبـيْ‭ ‬تدبدبـــــي‭ ‬أنا‭ ‬علي‭ ‬المغربـــــــــــــــي

كل‭ ‬البـــــلاد‭ ‬ساحتـــــــــي‭ ‬من‭ ‬مشرق‭ ‬لمغــــــرب

فكم‭ ‬أحلت‭ ‬روضكم‭ ‬مــــــن‭ ‬مُعشب‭... ‬لمجدب

وكم‭ ‬سرقت‭ ‬شمسكـــــم‭ ‬عَلَّقتُها‭ ‬في‭ ‬كوكبــــــــي‭ ‬

حديثكم‭ ‬يا‭ ‬سادتــــــــــي‭ ‬كضوء‭ ‬بـــــــــــرق‭ ‬خلب

فكل‭ ‬شيخ‭ ‬منكـــــــــــــــمُ‭ ‬وكـــــــــــــل‭ ‬أفاق‭ ‬غبي

كخادم‭ ‬بإصبعـــــي‭ ‬وخـــــــــادم‭ ‬لمطلبـــــــــــــــــــي‭ ‬

ويمسك‭ ‬أطراف‭ ‬الحوار‭ ‬شاعر‭ ‬آخر،‭ ‬انتفض‭ ‬عنده‭ ‬الوتر‭ ‬الغاضب،‭ ‬فالألم‭ ‬واحد‭. ‬كان‭ ‬السؤال‭ ‬مدخل‭ ‬الشاعر‭ ‬علي‭ ‬حسين‭ ‬الفيلكاوي‭: ‬حتى‭ ‬يفيق‭ ‬النُوَّمُ؟‭ ‬

تصنمـــــــــت‭ ‬أفكاركــــــــــــم‭ ‬وهـــــــم‭ ‬بها‭ ‬تصنموا‭ ‬

يسعون‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬عَمَى‭ ‬على‭ ‬الظلام‭ ‬أقسموا

إلى‭ ‬الــــوراء‭ ‬كلّما‭ ‬تحدثــــــــــــــوا‭ ‬تقدمــــــــــــــــــوا‭ ‬

كم‭ ‬شيدوا‭ ‬أهواءهم‭  ‬وكم‭ ‬بها‭... ‬تهدمــــوا

يا‭ ‬قلماً‭ ‬في‭ ‬سجنه‭ ‬أشرق‭ ‬حين‭ ‬أظلمـــــــــوا‭ ‬

للحرف‭ ‬حريَّتـــــــــــه‭ ‬ففــــــــي‭ ‬مداده‭ ‬الـــــــــــــدم

تعطـــروا‭ ‬من‭ ‬فُلِّــــــــه‭ ‬تزينــــــــوا‭ ‬تهندمــــــــــــوا

بصوته‭ ‬توضأوا‭ ‬بصمتـــــــــــه‭ ‬تيممــــــــــــوا

وفي‭ ‬سماء‭ ‬ضوئــــــــــه‭ ‬تحـــــــرروا‭ ‬تكلمــوا

يا‭ ‬وطنـــــاً‭ ‬نحبـــــــه‭ ‬بحبـــــه‭ ‬كم‭ ‬نأثـــــــــــــم

محاصر‭ ‬بسوطهـــــــم‭ ‬منقب‭ ‬معمــــــــــــــــم

متى‭ ‬يغني‭ ‬حزنه‭ ‬لجلـــــده‭ ‬تزاحمـــــــــــــــوا

يا‭ ‬وطناً‭ ‬كان‭ ‬هنا‭... ‬متى‭ ‬يفيــق‭ ‬النَّومُ؟‭! ‬

هذه‭ ‬الأطراف‭ ‬الأولى‭ ‬حركها‭ ‬سكون‭ ‬الفكر‭ ‬الإيجابي‭ ‬وظلامية‭ ‬الفكر‭ ‬السائد،‭ ‬وموت‭ ‬الحس،‭ ‬فجاءت‭ ‬مداخلاتها‭ ‬حيوية‭ ‬في‭ ‬طرحها‭ ‬رفيعة‭ ‬في‭ ‬جمالياتها‭.‬

ويبقى‭ ‬طرف‭ ‬آخر‭: ‬إنه‭ ‬النقيض‭ ‬المنافر‭ ‬الذي‭ ‬أحس‭ ‬بأن‭ ‬سياط‭ ‬القصيدة‭ ‬موجهة‭ ‬إليه‭ ‬ولفعله،‭ ‬فانطلقت‭ ‬أصوات‭ ‬مثقلة‭ ‬بصخبها‭ ‬وضجيجها،‭ ‬ضجيج‭ ‬يذكرنا‭ ‬بما‭ ‬قاله‭ ‬أحمد‭ ‬العدواني‭ ‬قبل‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬عندما‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬طنين‭ ‬الذباب‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬وهيمنة‭ ‬خفافيش‭ ‬الظلام‭: ‬

ابتسمي‭... ‬إذا‭ ‬تراءت‭ ‬للخفافيش‭ ‬ظلال

تملأ‭ ‬الرحاب‭ ‬

وتلعن‭ ‬النور‭ ‬وأهل‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬كتاب‭!‬

 

الأصوات‭ ‬نفسها‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬كهوفها،‭ ‬تنتفض‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬عالمها‭ ‬وكانت‭ ‬لغتها‭ ‬تسيء‭ ‬للشعر‭ ‬من‭ ‬جهتين،‭ ‬جهة‭ ‬التهالك‭ ‬الفني،‭ ‬فهي‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬بُعْد‭ ‬جمالي‭ ‬يليق‭ ‬بالشعر؛‭ ‬مُبَاشرة،‭ ‬رنانة‭ ‬بصخب‭ ‬مزعج،‭ ‬عدائية‭ ‬النظرة،‭ ‬تطفح‭ ‬فيها‭ ‬لغة‭ ‬التهديد‭ ‬والترهيب‭ ‬فلا‭ ‬ترى‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬الفكري‭ ‬إلا‭ ‬التهديد‭ ‬والوعيد‭ ‬والتكفير‭ ‬ومعها‭ ‬كل‭ ‬الأوصاف‭ ‬والتهم‭ ‬الجاهزة‭ ‬المتنافرة،‭ ‬دون‭ ‬منطق‭ ‬أو‭ ‬سياق‭ ‬فكري،‭ ‬طلقات‭ ‬رشاش‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬ألوان‭ ‬التهــم‭: ‬ماركسيون،‭ ‬إقليميون،‭ ‬عولميون،‭ ‬يساريون،‭ ‬علمانيون،‭ ‬بعثيون،‭ ‬ليبراليون،‭ ‬روسيون،‭ ‬أمريكيون‭... ‬هذيان‭ ‬وهلوســـة‭ ‬ينـــفر‭ ‬منهما‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬ذرة‭ ‬عقل،‭ ‬ولكن‭ ‬خطورتها‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬إقصاء‭ ‬وتكفير‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالكلمات‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬بالتبشير‭ ‬بإسالة‭ ‬الدماء،‭ ‬فقــــائلـــهــــم‭ ‬يهدد‭ ‬بأنه‭ ‬بحر‭ ‬لا‭ ‬يرحم‭ ‬يغرق‭ ‬ويحطم،‭ ‬طوفان‭ ‬وسيل‭ ‬عرم‭. ‬

حالة‭ ‬من‭ ‬الحشد‭ ‬العاطفي‭ ‬المدمر،‭ ‬حري‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نتجاوزها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أجدى،‭ ‬فنخرج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المتجهم،‭ ‬لنعود‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬خليفة‭ ‬الوقيان‭ ‬في‭ ‬تحليقاته،‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬الديوان‭ ‬اللاحقة،‭ ‬ففي‭ ‬مقابل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المتجهم‭ ‬والرسالة‭ ‬المخيفة،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الديوان‭ ‬يتجاوزها‭ ‬ليلقي‭ ‬علينا‭ ‬بالجانب‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬الرسالة،‭ ‬رسالة‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن،‭ ‬إنه‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬منصته‭ ‬العالية،‭ ‬حامي‭ ‬مشعل‭ ‬التنوير‭: ‬

أشعل‭ ‬سراجك‭  ‬قرص‭  ‬الشمس‭  ‬قد‭ ‬غابا

وأرسل‭ ‬الليل‭ ‬حراساً‭ ‬وحجاباً

أشعل‭ ‬سراجك‭ ‬هذي‭ ‬الأرض‭ ‬ما‭ ‬برحت

سحابة‭ ‬الحب‭ ‬والأنوار‭ ‬أحقاباً‭ ‬

ولكن‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬رسالة‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬كشف‭ ‬مكامن‭ ‬الأفكار‭ ‬والمواقف‭ ‬التي‭ ‬تنخر‭ ‬بعوامل‭ ‬الفناء‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬فإن‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر،‭ ‬وجه‭ ‬يبث‭ ‬الأمل‭ ‬ويميط‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬أفق‭ ‬مشرق‭ ‬قادم‭ ‬
لا‭ ‬محالة،‭ ‬فالدعوة‭ ‬له‭ ‬وتجليته‭ ‬نزعة‭ ‬شعرية‭ ‬أصيلة‭ ‬وجدنا‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬يَقْلب‭ ‬الصفحة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬تجلياً،‭ ‬ليرينا‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬القمر،‭ ‬الوجه‭ ‬المضيء،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬يقول‭ ‬لنا‭: ‬

تترى‭ ‬جموعٌ‭ ‬حشو‭ ‬مِئزرها

الأرذلان‭: ‬الـــــــزيـــــــــــف‭ ‬والـــــجنف‭ ‬

يستدرك‭ ‬قائلا‭:‬

يبقى‭ ‬لعرف‭ ‬العود‭ ‬ذائعه‭   

ويظل‭ ‬حيث‭ ‬نجيعه‭ ‬الشرف

‭ ‬

وثمة‭ ‬محاورة‭... ‬وأخرى

لأن‭ ‬الشعر‭ ‬ليس‭ ‬صوتاً‭ ‬منغلقاً،‭ ‬فكما‭ ‬أنه‭ ‬أدار‭ ‬محاورة‭ ‬كاشفـــة‭ ‬لذلــــك‭ ‬الظــلام‭ ‬المخيـــــم،‭ ‬وبدورها‭ ‬تفاعلت‭ ‬الأصوات‭ ‬الأخرى‭ ‬معه،‭ ‬فالشاعر‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬وحيداً،‭ ‬ولكن‭ ‬شعوره‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬إحساس‭ ‬جمعي‭ ‬تجاوب‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬تلاقت‭ ‬عنده‭ ‬هموم‭ ‬المرحلة،‭ ‬لذلك‭ ‬تبرز‭ ‬محاورة‭ ‬تالـــية،‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عنها‭ ‬القضية‭ ‬الرئيسة،‭ ‬يلتفت‭ ‬في‭ ‬محاورته‭ ‬ليحاور‭ ‬شاعراً‭ ‬أحس‭ ‬بـــثقل‭ ‬الحياة،‭ ‬ففي‭ ‬‮«‬خطوات‭ ‬على‭ ‬الأعراف‮»‬‭ ‬يرسم‭ ‬الشاعر‭ ‬والعالم‭ ‬د‭. ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬خطى‭ ‬العصر‭ ‬المثقلة‭ ‬قائلاً‭: ‬

طال‭ ‬السرى،‭ ‬وخطاك‭ ‬ترتجف

وأراك‭ ‬لا‭ ‬تَلْوي‭ ‬ولا‭ ‬تقــــــــــفُ‭ ‬

يا‭ ‬أيها‭ ‬المزجــي‭ ‬مطيتــــــــــــــــه

في‭ ‬حيــثُ‭ ‬لا‭ ‬ماءٌ‭ ‬ولا‭ ‬علفُ‭ ‬

أقصرْ؛‭ ‬فدونــك‭ ‬قُنَّة‭ ‬صَعَـــــــدُ

وانظر؛‭ ‬فتحتكَ‭ ‬هُوَّةٌ‭ ‬جُرفُ

دنيــاكَ‭ ‬تشنأُ‭ ‬كـــل‭ ‬عارفــــــــــــة

ولها‭ ‬بكل‭ ‬نقيصـــــــة‭ ‬شـغف‭ ‬

تفتح‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬باب‭ ‬المحاورةِ‭ ‬المشاركةِ‭ ‬للوقفة‭ ‬ذاتها،‭ ‬فالطريق‭ ‬واحد،‭ ‬ومساحة‭ ‬الرؤية‭ ‬متحدة،‭ ‬والشعور‭ ‬بها‭ ‬متوافق،‭ ‬فقال‭ ‬الوقيان‭ ‬محركاً‭ ‬الوتر‭ ‬نفسه‭ ‬لتتكامل‭ ‬الرسالة‭: 

يا‭ ‬أيها‭ ‬المُغْضي‭ ‬على‭ ‬وجـــــع

دع‭ ‬عنك‭ ‬مَن‭ ‬هانوا‭ ‬ومَن‭ ‬ضعفوا

لا‭ ‬يحزننَّكَ‭ ‬عصبـــــة‭ ‬حيـــــــــف

مــــن‭ ‬هـــــم‭ ‬بكل‭ ‬نقيصة‭ ‬عُرفـــــــــوا

العاصرون‭ ‬ضريع‭ ‬ما‭ ‬غنموا

والتاركــــوه‭ ‬غــــــداة‭ ‬يرتعـــــــــــــــــــف

ما‭ ‬همهم‭ ‬فلكل‭ ‬حادثـــــــــــــــة

قــــــول‭ ‬وكــــــل‭ ‬شريعــة‭ ‬علــــــــــــف

 

تأتي‭ ‬محاورات‭ ‬متوالية‭!‬

ليس‭ ‬فيها‭ ‬آخر‭ ‬يحاور‭ ‬مباشرة‭ ‬ولكنه‭ ‬مقتضى‭ ‬حال‭ ‬ينطق،‭ ‬مجاور‭ ‬لصيق‭ ‬بنا‭ ‬تعصف‭ ‬به‭ ‬العواصف‭ ‬ذاتها‭ ‬من‭ ‬انغلاق‭ ‬وطائفية،‭ ‬فتتته‭ ‬وحولته‭ ‬إلى‭ ‬أشلاء‭ ‬فغمرت‭ ‬بالطين‭ ‬وجهاً‭ ‬جميلاً‭ ‬ومنبعاً‭ ‬كان‭ ‬بوابة‭ ‬انفتاح‭ ‬لثقافة‭ ‬مستقبلية‭ ‬المنزع،‭ ‬إنه‭ ‬لبنان،‭ ‬الذي‭ ‬حاوره‭ ‬الشاعر‭ ‬باعتباره‭ ‬توأماً‭ ‬أحاط‭ ‬به‭ ‬فكر‭ ‬التدمير‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يحيط‭ ‬بنا،‭ ‬فصنع‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬صنع‭: 

لبنان‭ ‬

نحن‭ ‬التوأمانْ

الغارسان‭ ‬الحرف‭ ‬قنديلاً‭ ‬

على‭ ‬شفة‭ ‬الزمانْ‭ ‬

الحاصدان‭ ‬حرائق‭ ‬الأيام

حقل‭ ‬الشوك‭ ‬

عربدة‭ ‬القيان‭ 

ويتجه‭ ‬في‭ ‬محاوراته‭ ‬جنوباً؛‭ ‬اليمن،‭ ‬حيث‭ ‬تنبعث‭ ‬فينا‭ ‬ذكرى‭ ‬جبل‭ ‬اللوز‭ ‬اليماني‭ ‬وفيه‭:‬

بقايا‭ ‬صخرة‭ ‬السفح‭ ‬

التي‭ ‬تنطق‭ ‬

إذ‭ ‬يخنقنا‭ ‬الصمت‭ ‬ُ

ترى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬

تحنو‭ ‬

تواسينا

تداري‭ ‬خطوات‭ ‬لارتحالات‭ ‬الأماني‭ ‬

‭ ‬هكذا‭ ‬يقول‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬كيف‭ ‬يعود‭ ‬الشعر،‭ ‬مغادراً‭ ‬كهف‭ ‬الانعزال،‭ ‬هاجراً‭ ‬جهامة‭ ‬الانغلاق‭,‬‭ ‬متجها‭ ‬إلى‭ ‬بؤرة‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭... ‬هكذا‭ ‬كان،‭ ‬وسيبقى‭ ‬