تدروشوا... تعمّموا!
هذا عنوان قصيدة ومن ثم ديوان. هي دعوة يطلقها الشاعر خليفة الوقيان، ساخرة مُرّة تلذع خلايا عقلك المتوثبة فتصعقها حين تكشف لك ذلك الخط الذي ساد في حياتنا، فبعد أن كان وطنه شعلة طموح فكري ينظر إلى المستقبل بعين واعية، وينتقي كل فكرة منيرة متقدمة، فيجعلها مقصداً له، هدفاً وعملاً - تسلل إليه أصحاب فكر ظلامي فقيَّدوا هذه الانطلاقة.
جاهد المتسللون، بل ونجحــــوا، في إخماد كل فكرة نيرة كان الشاعر يراها متوثــــبة تبحث عن منفذ تُطلق منه طاقة نور. جاء خليفة الوقيان في قصيدته ليعلق شمعة التنبيه، ويهز ناقوس الخطر ليقول لنا: كل شيء آل إلى نقيض ما تمناه ورسمه وعمل لأجله كل الرواد المستنيرين.
جاءت هذه القصيدة، وهذا الديوان، ليشخصا هذه الحالة. ولكن قبل أن ننظر فيما قالته القصيدة - الديوان - ثمة قضيتان مهمتان يطرحهما علينا هذا الديوان من الواجب أن ننظر إليهما متفحصين، وتجب مناقشتهما في هذا الزمن الذي أصبح عصيّاً على الألوان، وأضحت الثقافة السائدة التي يُروج لها ثقباً أسود يلتهمنا بعد أن يئد أحلاماً رغدنا بها زمناً.
القضية الأولى التي تواجهنا بها سطور قصائد هذا الديوان متصلة بفن الشعر، وما وصل إليه في مفتتح هذا القرن، حين ورث حالة التوغل في الغربة، فالاغتراب عن محيطه، كان الشعر قبساً يستمد منه المجتمع نورَ هَدي لكل رسالة مستنيرة ناقدة موجهة محركة، تنفذ إلى المتلقي، توقظ فيه انفعاله، تنفضه بإيجابية، تغرس فيه دعوة بناء للمستقبل. كان الشعر دائماً حاضراً في حركة الحياة حتى جاءت دعوات، يطول شرح أسباب ظهورها وحججها، فمنه ما هو فني ومنه ما هو اجتماعي وسياسي، فكانت النتيجة لهذه الدعوات أن فُصل الشعر عن دوره، وسادت مقولة الجماليين المفرطة بانفصاليتها، حين قالوا لنا: إن الشعر غايته فيه، فقامت عصبة متدروشة تتعصب لهذه المقولة، وكأنها دين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
نعم، نحن أيضاً نقول معهم إن حق الشعر أن يكون شعراً أولاً، يحقق ذاته ويستكمل جمالياته، ومن ثم يأتي حاملاً معه أنواره، ولكن أن يقف عند هذا الحد ويُفْصَل عن دوره التاريخي باعتباره أميز تعبير عن حالة نقد الواقع واستشراف المستقبل، فهو دخول في عبثية الفعل والمقصد. إن دعوة فصل فن الشعر عن وسطه، وجعله طلاسم، أضرت بالشعر ونفَّرت القارئ. وقد جاء هذا الديوان ليدحض هذا التوجه ويُنَبه على أن للشعر قضيته في الحياة ورسالته التي لا يمكنه التخلي عنها.
القضية الثانية، أو الطرف المكمل للسابقة، هو النقد الأدبي، الذي انتفخ بمقولات نرجسية، وزعم مزاعم ادعت العلمية والدقة؛ فتحول النقد الأدبي إلى معادلات وأقواس وجداول، فتاهت النصوص في الفضاء، فلا هي علم ينتفع به، ولا مداخل وإضاءات تحبب القارئ في النص وتزيد مقدار وعيه بما في النصوص من جماليات.
مر الشعر والنقد في هذه الحالة الهلامية حتى أصبحا مضحكة للضاحكين، ومن بقي يعطي الشعر أهمية يهز أكتافه متحسراً على هذا الفن العريق الجميل كيف انزوى في ركن قصيّ يقصده بقايا من محبين يتناقصون يوماً بعد يوم.
تجاوز هذا الديوان تلك الدائرة إلى الانغماس بما حوله، لا يغمغم ولا يهمهم، ولكنه يضع جمالياته في ثنايا تجاربه، ويطلق رسالته أمامه، من دون أي تردد.
وجاءت هذه القصيدة لتقول لنا ثلاثة أمور وتكشف لنا حالات، تفتح الباب لتبصر في الحال القائم، لأن الشاعر يرى ما لا يُرى، وإن كان ما يراه مرئياً يجعله محسوساً، وإن كان محسوساً يحوله عاطفة تُشكل في داخلنا فكرة مُدْركة، من هذا تأتي القصيدة لتمس هذه الحالة من الضمور المزري، الذي يبدو لنا في الملامسة الأولى في صورة مجسمة:
تَدَروشوا تعمّمــــــوا
تنــــــــــــــــــــــــــــقبـــــوا تكمــــــــــــــــّمــــــــــــــوا
تطامنوا ثم اخنعوا
تضـــــــاءلــــــــــــــــــــــــــوا تقــــــــزّمـــــــــــــــوا
وطأطئوا رءوسَكمْ
فالسيلُ ليس يرحـــــــمُ
وكَسِّروا أقلامَكـــم
فالمجدُ أن تَسْتسلموا
وأن يسودَ فيكُــــم
جهــلٌ وحــــــــسٌّ مُعْــــــتـــــــــمُ
الدروشة حالة، بدأت بالتعبـد وأفرطت حتى فَرّطت بوقار العبادة، وتهاوت حتى أصبحت تشير إلى تلك الحركة التي لا معنى لها سوى أن صاحبها فقد سيـــــطرة العقل عليه، خرج من حد الإنسان الســــوي المنسجم مع الحياة إلى عالم الشطحات التي دائماً ما تــــكون مفارقة للعقل...
هذا وصفه لنتيجة قائمة، وتَتْبَعُها خطوة تالية، فهذه الدروشة عمَامةٌ، وفي هذا الوصف تكمن مفارقة لافتة للنظر ولكنها حقيقة، فالعمامة مظهر، في طبيعته، مُفعم بالدلالة على العلم والتفكير والاحترام، ولكن هذه العمامة المشار إليها لم تأتِ من بوابة العلم، بل جاءت مرتكزة أو موصلة للنتيجة السابقة (الدروشة)، حينئذ يفقد العلم طبيعته لينتهي إلى الجهل والانغلاق والخوف من التفكير، أصبحت العمامة قيداً على التفكير بعد أن كانت رمز إشعاع للمعرفة. وهذا القيد يوغل في محاصرة العقل حينما يحرمه من إطلاق مساحة الرؤية. هذا القيد الدال يأتي في صورة مرئية للدلالة على الحالة المخفية، فبعد العمامة على الرأس، يأتي النقاب والتكمم، وهما درجتان توغلان في فعل الحَجْبِ عن الرؤية والتأمل، وهما من صفات التفكير الصافي, وتترتب عليهما حالات من التدني تأتي متتابعة:
تطامنوا ثم اخنعوا
تضاءلوا تقزّمـــــــــــــــوا
وطأطئوا رءوسَكمْ
التطامن جسدي ودلالة معنوية (الخضوع)، والتضاؤل تدني القيمة البشرية، ودلالتها المادية (تقزموا) ويجتمع المادي والمعنوي: طأطأة الرءوس تساوي تمام الخضوع، فهذه الرءوس التي قيدوها بالعمامة، سالفة الذكر، سقط محورها الأساسي (التفكير)، الذي يرفعها عزة، فإذا فقدته انحنت ذلة، والذلة تحطيم للذات، وهو ما يُجمل نتائجها المقطع التالي:
وكَسِّروا أقلامَكـــم
فالمجدُ أن تَسْتسلموا
وأن يسودَ فيكُــــمُ
جــهـــــلٌ وحـــــــــــسٌّ مُـــــــــعْــــــــــتـــــــــمُ
وأشير إلى ذلك التكامل في الحالة القائمة التي تجمع بين: الجهل = محله العقل المفكر، الحس = الشعور المتلقي، وهو أولى حالات الاستقبال عند الكائن الحي، النبات والحيوان، ومن يفقد الحس يفقد الحياة ذاتها، فانظر كيف تم نقل الدلالة، فالعقل هو الذي يوصف بأنه معتم دلالة على حالة الظلامية في التفكير، ولكنه نقل الإعتام إلى الحس، وهو يمثل الحالة الأولى للتلقي، ليبين مدى شمولية الأمر وفداحته.
يلجأ الشاعر ليس إلى مقارنة الحال بالآخرين فقط، ولكن إلى المقارنة بالذات، ما كنا فيه وما أصبحنا عليه، فينكشف التدني الذي وقعنا فيه، المقارنة، أو المعادلة بين أمرين، وعرض النقيض على النقيض ملجأ كل شاعر إلى تجسيم الحالة التي يعرضها، حين يلقي نظرة على ما كان الأمر، حين كانت الأنوار هي:
مضى زمانٌ أشرقت
بِهِ العقولُ فيكمُ
ثم:
وأقبلت جحافلٌ
مِنَ الظلامِ تَرزمُ
تَحسَّسوا رقابَكم
فللسّكاكين فَمُ
ومن ثم تصبح الالتفاتة للوطن واجبة لكل متأوهٍ على الحال القائمة، أضعها أبياتاً للتأمل والتفكر فيما وصل إليه الأمر:
يا وطناً قد شادَهُ
مِنْ قبلُ صِيْدٌ أَقدموا
تَقَحّمـــــوا مسالكاً
بها العذابُ يَجثـــــــمُ
فأقبلت حمائم الـ
حُــــــــــــــــــبِ بِــــــــــــــــــــــــهِ تــــــــــــــَرَنّــــــــــــَمُ
أتى الجرادُ بغتةً
يجتاحُ ما قد عَظَّموا
يا وطناً قد قــام فيــــــــــ
ــــه للضياءِ مأْتـــــــــــمُ
يا وطناً أضاعـهُ
عجزٌ وصمتُ مُبْهمُ
عليكَ ألفُ رحمةٍ
إنْ لَمْ يَهبَّ النُـــــــوَّمُ
لست في مجال التحليل الأدبي التفصيلي، ولكنها إشارات تنبيه لما في هذا النص من كوامن بسيطة مظهراً، ولكن الناظر لها يرى ويرى.
القصيدة والديوان وحيوية الحوار
لأن هذه القصيدة جاء حضورها مؤلماً موقظاً مرت على المياه الراكدة فأثارت موجعا، لذلك تشكلت ردة فعل حرص الديوان على أن يسجلها، وتمثلت في جهتين، كل جهة تمثل موقفاً من توجهات القصيدة، الجهة الأولى تلقتها ظامئة، رأت فيها صوتاً جمعياً ينطق بلسان قلوب وعقول اختزنت حسرة تشابه الحسرة التي أطلقتها، وساءها ما ران ثم سيطر على العقول جموداً وتخلفاً وعزوفاً عن الحياة الفاعلة، فكانت الدروشة فيها دلالة انسلاخ عن الحياة ومعاكسة لحركة التطور من حولنا.
هذه الجهة الأولى تمثل تفاعل المجاور المؤازر، استجاب ليحاذي الكتف بالكتف كي يسير معه في هذا الدرب الذي يعيد للشعر حضوره ومن ثم رونقه وبهاءه، فهم مثله متألمون أصحاب نظرة متجهة إلى الأمام. أولهم الشاعر نشمي مهنا الذي اقتنص وقفات ساخطة هازئة، يلتفت بنا إلى جذر قديم، نَبَض بالحالة المشابهة، منذ أن قال الشاعر القديم طرفة بن العبد قوله: خلا لك الجو فبيضي واصفري فصارت مثلاً، ثم تناول الخط شاعر قديم آخر: تقي الدين ابن العربي (ت 684)، وكان فقيهاً أديباً ظريفاً قال قصيدة ساخرة، هي القصيدة (الدبدبية) ومنها:
أي دبدبـــــهْ تدبدبـــــي أنا علي المغربـــــــــــــــي
أنا الذي أسْدُ الشرى في الحرب لا تحفل بي
إذا تمطيت وفرقعــــــــــــت عليهم ذنبــــــــــــــــي
فمن رأى للهذيـــــــان موكبــــــاً كموكبــــــــــــــي
وهي طويلة، وتسلّم طرفها محمد مهدي الجواهري بوقفة مماثلة في قصيدة مشهورة:
أي طرطرا تطرطري
تقدمي تأخري
في زمن الذرِّ إلى
بداوة تقهقري
وجد نشمي مهنا في هذا السياق مساحة دخول، فشارك محاوراً بقصيدة فيها نظرة مشبعة بسخرية التاريخ من هذا العالم الذي رصدت هذه السخرية تهاويه وسقوطه، ولتكشف القناع عن فكر أدار رأسه إلى الوراء، وهذا بعض ما قاله نشمي مهنا:
أيْ دبدبـيْ تدبدبـــــي أنا علي المغربـــــــــــــــي
كل البـــــلاد ساحتـــــــــي من مشرق لمغــــــرب
فكم أحلت روضكم مــــــن مُعشب... لمجدب
وكم سرقت شمسكـــــم عَلَّقتُها في كوكبــــــــي
حديثكم يا سادتــــــــــي كضوء بـــــــــــرق خلب
فكل شيخ منكـــــــــــــــمُ وكـــــــــــــل أفاق غبي
كخادم بإصبعـــــي وخـــــــــادم لمطلبـــــــــــــــــــي
ويمسك أطراف الحوار شاعر آخر، انتفض عنده الوتر الغاضب، فالألم واحد. كان السؤال مدخل الشاعر علي حسين الفيلكاوي: حتى يفيق النُوَّمُ؟
تصنمـــــــــت أفكاركــــــــــــم وهـــــــم بها تصنموا
يسعون في ضوء عَمَى على الظلام أقسموا
إلى الــــوراء كلّما تحدثــــــــــــــوا تقدمــــــــــــــــــوا
كم شيدوا أهواءهم وكم بها... تهدمــــوا
يا قلماً في سجنه أشرق حين أظلمـــــــــوا
للحرف حريَّتـــــــــــه ففــــــــي مداده الـــــــــــــدم
تعطـــروا من فُلِّــــــــه تزينــــــــوا تهندمــــــــــــوا
بصوته توضأوا بصمتـــــــــــه تيممــــــــــــوا
وفي سماء ضوئــــــــــه تحـــــــرروا تكلمــوا
يا وطنـــــاً نحبـــــــه بحبـــــه كم نأثـــــــــــــم
محاصر بسوطهـــــــم منقب معمــــــــــــــــم
متى يغني حزنه لجلـــــده تزاحمـــــــــــــــوا
يا وطناً كان هنا... متى يفيــق النَّومُ؟!
هذه الأطراف الأولى حركها سكون الفكر الإيجابي وظلامية الفكر السائد، وموت الحس، فجاءت مداخلاتها حيوية في طرحها رفيعة في جمالياتها.
ويبقى طرف آخر: إنه النقيض المنافر الذي أحس بأن سياط القصيدة موجهة إليه ولفعله، فانطلقت أصوات مثقلة بصخبها وضجيجها، ضجيج يذكرنا بما قاله أحمد العدواني قبل نصف قرن عندما تحدث عن طنين الذباب على الفكر وهيمنة خفافيش الظلام:
ابتسمي... إذا تراءت للخفافيش ظلال
تملأ الرحاب
وتلعن النور وأهل النور في كل كتاب!
الأصوات نفسها تخرج من كهوفها، تنتفض دفاعاً عن عالمها وكانت لغتها تسيء للشعر من جهتين، جهة التهالك الفني، فهي خالية من أي بُعْد جمالي يليق بالشعر؛ مُبَاشرة، رنانة بصخب مزعج، عدائية النظرة، تطفح فيها لغة التهديد والترهيب فلا ترى من الحوار الفكري إلا التهديد والوعيد والتكفير ومعها كل الأوصاف والتهم الجاهزة المتنافرة، دون منطق أو سياق فكري، طلقات رشاش فيه كل ألوان التهــم: ماركسيون، إقليميون، عولميون، يساريون، علمانيون، بعثيون، ليبراليون، روسيون، أمريكيون... هذيان وهلوســـة ينـــفر منهما من يملك ذرة عقل، ولكن خطورتها أن ما فيها من إقصاء وتكفير لا يكتفي بالكلمات فقط، ولكن بالتبشير بإسالة الدماء، فقــــائلـــهــــم يهدد بأنه بحر لا يرحم يغرق ويحطم، طوفان وسيل عرم.
حالة من الحشد العاطفي المدمر، حري بنا أن نتجاوزها إلى ما هو أجدى، فنخرج من هذا العالم المتجهم، لنعود إلى الشاعر خليفة الوقيان في تحليقاته، في صفحات الديوان اللاحقة، ففي مقابل هذا العالم المتجهم والرسالة المخيفة، نجد أن الديوان يتجاوزها ليلقي علينا بالجانب الآخر من الرسالة، رسالة الشاعر في هذا الزمن، إنه يعود إلى منصته العالية، حامي مشعل التنوير:
أشعل سراجك قرص الشمس قد غابا
وأرسل الليل حراساً وحجاباً
أشعل سراجك هذي الأرض ما برحت
سحابة الحب والأنوار أحقاباً
ولكن بما أن رسالة الشعر لا تتوقف عند كشف مكامن الأفكار والمواقف التي تنخر بعوامل الفناء في المجتمع، فإن الوجه الآخر، وجه يبث الأمل ويميط اللثام عن أفق مشرق قادم
لا محالة، فالدعوة له وتجليته نزعة شعرية أصيلة وجدنا كيف أن الشاعر يَقْلب الصفحة إلى ما هو أكثر تجلياً، ليرينا الوجه الآخر من القمر، الوجه المضيء، ففي حين يقول لنا:
تترى جموعٌ حشو مِئزرها
الأرذلان: الـــــــزيـــــــــــف والـــــجنف
يستدرك قائلا:
يبقى لعرف العود ذائعه
ويظل حيث نجيعه الشرف
وثمة محاورة... وأخرى
لأن الشعر ليس صوتاً منغلقاً، فكما أنه أدار محاورة كاشفـــة لذلــــك الظــلام المخيـــــم، وبدورها تفاعلت الأصوات الأخرى معه، فالشاعر لا يتحدث وحيداً، ولكن شعوره نابع من إحساس جمعي تجاوب معه من تلاقت عنده هموم المرحلة، لذلك تبرز محاورة تالـــية، لا تغيب عنها القضية الرئيسة، يلتفت في محاورته ليحاور شاعراً أحس بـــثقل الحياة، ففي «خطوات على الأعراف» يرسم الشاعر والعالم د. سعد مصلوح خطى العصر المثقلة قائلاً:
طال السرى، وخطاك ترتجف
وأراك لا تَلْوي ولا تقــــــــــفُ
يا أيها المزجــي مطيتــــــــــــــــه
في حيــثُ لا ماءٌ ولا علفُ
أقصرْ؛ فدونــك قُنَّة صَعَـــــــدُ
وانظر؛ فتحتكَ هُوَّةٌ جُرفُ
دنيــاكَ تشنأُ كـــل عارفــــــــــــة
ولها بكل نقيصـــــــة شـغف
تفتح هذه القصيدة باب المحاورةِ المشاركةِ للوقفة ذاتها، فالطريق واحد، ومساحة الرؤية متحدة، والشعور بها متوافق، فقال الوقيان محركاً الوتر نفسه لتتكامل الرسالة:
يا أيها المُغْضي على وجـــــع
دع عنك مَن هانوا ومَن ضعفوا
لا يحزننَّكَ عصبـــــة حيـــــــــف
مــــن هـــــم بكل نقيصة عُرفـــــــــوا
العاصرون ضريع ما غنموا
والتاركــــوه غــــــداة يرتعـــــــــــــــــــف
ما همهم فلكل حادثـــــــــــــــة
قــــــول وكــــــل شريعــة علــــــــــــف
تأتي محاورات متوالية!
ليس فيها آخر يحاور مباشرة ولكنه مقتضى حال ينطق، مجاور لصيق بنا تعصف به العواصف ذاتها من انغلاق وطائفية، فتتته وحولته إلى أشلاء فغمرت بالطين وجهاً جميلاً ومنبعاً كان بوابة انفتاح لثقافة مستقبلية المنزع، إنه لبنان، الذي حاوره الشاعر باعتباره توأماً أحاط به فكر التدمير بمثل ما يريد أن يحيط بنا، فصنع فيه ما صنع:
لبنان
نحن التوأمانْ
الغارسان الحرف قنديلاً
على شفة الزمانْ
الحاصدان حرائق الأيام
حقل الشوك
عربدة القيان
ويتجه في محاوراته جنوباً؛ اليمن، حيث تنبعث فينا ذكرى جبل اللوز اليماني وفيه:
بقايا صخرة السفح
التي تنطق
إذ يخنقنا الصمت ُ
ترى ما لا نرى
تحنو
تواسينا
تداري خطوات لارتحالات الأماني
هكذا يقول لنا هذا الديوان كيف يعود الشعر، مغادراً كهف الانعزال، هاجراً جهامة الانغلاق, متجها إلى بؤرة التفاعل مع الحياة... هكذا كان، وسيبقى ■