بعد الأعاصير

بعد الأعاصير

عندما أتأمل في حياتي الآن أجد نفسي أصبحت أقرب إلى العجائز؛ فقد فارقت مرحلة الشباب ودخلت مرحلة الكهولة، ومن ثَمَّ فإني أتخيل أنني عندما أكتب عن حياتي الآن، فإني سأختار  عنواناً من عناوين دواوين عباس محمود العقاد، وأختار  أولا عنوان «بعد الأعاصير»، وهو عنوان ملائم في عامي الثالث والسبعين؛ فقد انقضت أعاصير الحياة بخيرها وشرِّها، وحلوها ومرِّها، فالأعاصير دائماً مرتبطة بمرحلة الشباب، سواء في اندفاعاتها العاصفة على المستوى العاطفي أو الشخصي أو الانفعالي، فالفرد في شبابه يندفع وراء ما يجعله يشعر بكل قوته؛ كي يحقق هذا الخاطر  أو ذاك الذي طرأ «على ذهنه، دون أن يعبأ بالعوائق والقيود التي تقابله في أثناء سعيه إلى تحقيق ما يريد، ودون أن يحسب حساباً للمجاملة السياسية أو الاجتماعية. 


هذا هو ما نعرفه من سِيَر الكثيرين من الكُتَّاب، ويخطر على بالي في هذا السياق عباس محمود العقاد، صاحب المعارك الشهيرة في الأدب أو السياسة، وهو الأديب الذي ولد في مدينة أسوان عام 1889، وظل حيًّا إلى أن توفي في القاهرة عام 1964، عن خمسة وسبعين عاماً. وأعتقد أن الأعاصير التي مر بها العقاد كثيرة، فهناك أولا الإعصار الشديد الذي هزه ودفعه إلى التمرد على الوظيفة والاستقالة منها فرحاً مغتبطاً، وذلك على نحو ظل يفخر به كاتباً في سيرته الذاتية: «ومن السوابق التي أغتبط بها أنني كنت فيما أرجح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين. وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم، فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره. 
وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة، كما كانت يومئذٍ، عملا آلياً لا نصيبَ فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخِّر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملاً إلا كعمل المسامير في تلك الأداة. إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدِّسها كان من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها... فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسِّجن أو الأسر والعبودية.. إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين».
ولذلك قرر العقاد أن يترك الوظيفة الحكومية ويشتغل بالصحافة، ويعمل كاتباً في الصحف المختلفة التي كانت تصدر في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. 
ونجح في الصحافة، ويرجع ذلك إلى ثقافته الموسوعية، فقد كان يكتب شعراً ونقداً وفكراً على السواء، وظل معروفاً عنه أنه موسوعي المعرفة، يقرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم الاجتماع. أما في السياسة، فقد دافع عن الحرية دفاعاً لا مثيل له، فقد كان ليبرالياً إلى أبعد حد، ومن ثَم نصيراً للحرية السياسية بكل معانيها؛ ولذلك دافع عن حقوق الوطن والحرية والاستقلال، ودخل في معارك حامية مع القصر الملكي، الأمر الذي أدى إلى زيادة شهرته، وانتهى لأن يصبح عضواً في مجلس النواب. 
ولكن أطاح به من مجلس النواب إعصار آخر من الأعاصير التي يحبها، فقد سُجن سنة 1930 لمدة تسعة أشهر بتهمة العيب في الذات الملكية، وكان ذلك حينما أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدرُ السلطات، والأخرى أن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان، فارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الأشهاد من أعضائه قائلاً: «إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه».
وكانت النتيجة أن حوكم بتهمة العيب في الذات الملكية، وأصدر القضاء حكماً عليه بالسجن تسعة أشهر، وبالفعل دخل السجن وظل فيه المدة المقررة، ولكنه لم يهدأ في سجنه، فقد شغل وقته بتعلم اللغات التي لم يكن يعرفها، وبقراءة الكتب التي لم يكن قد قرأها من قبل. وعندما انتهت الأشهر التسعة خرج من السجن أقوى مما كان، وذهب مع أنصاره إلى قبر سعد زغلول، مصرّاً على أن يكرر أمام ضريحه العهد بأنه لن يتنازل عن أعاصيره، وإنما سيظل مدافعاً عن حرية مصر وكرامة الشعب وصيانة الدستور الذي يعطي للشعب السلطة الأولى في البلاد ويجعله فوق الحكومة وفوق سلطة الملك، وألقى أبياته الشعرية التي يقرر فيها ثباته على مبدئه وإصراره على محاربة خصوم الأمة، وقد قال فيها:
وكنت جنين السجن تسعة أشهر  
فها أنذا في ساحة الخلد أولد
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى
وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
وما أقعدت لي ظلمة السجن عزمة
فما كل ليل حين يغشاك مرقد
وما غيبتني ظلمة السجن عن سنا
من الرأي يتلو فرقدا منه فرقد
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهما
سيعهدني كل كما كان يعهد
ولم يكتف العقاد بذلك، بل كتب عن السجن كتابه «عالم السدود والقيود» الذي نشره 1937، وهو الكتاب الذي يحمل ذكرياته عن السِّجن، ويتأمل طبيعة الحياة في السجن وما يعانيه المسجون من حرمانه من الحرية، ويستطرد العقاد ليتحدث عن بعض الشخصيات التي قابلها في السجن وأهمهم أربعة: الأول مجنون يتنازعه السجن والبيمارستان، والثاني مجنون أيضا ولكن على طراز آخر من الجنون، والثالث مُقعد مبتور الرجلين إلى الفخذين، والرابع خليط من الجنون والعربدة والمكر والدماثة المصطنعة والجموح الصحيح. وكلهم يسكنون السجن على انفراد؛ لأن الجمع بين واحد منهم وزميل آخر في حجرة واحدة مستحيل. 
ويستطرد العقاد في العلاقـــة بين المساجين من ناحية، وبينـــهم وبيــــن الحراس من ممثلي السلطة التي ألقت به في السجن من ناحية ثانية. ولم يكن العقاد يعلم حين أصدر هذا الكتاب بعد أشهر من خروجه من السجن أنه يفتتح تقاليد بالغة الأهمية في الكتابة السردية، وهي ما نسميه الآن برواية السِّجن التي ظل، ولايزال، الأحرار يكتبونها في معتقلات الحكومات الظالمة والمستبدة، وبعض هذه السرديات وصل إلى شأن رفيع من السمعة الأدبية التي تشهد لها بالتميز والقيمة، ومنها مثلا رواية «العين المعدنية» للمرحوم شريف حتاتة، وهو ذلك الروائي الفذُّ الذي ظلمته الحركة النقدية العربية حين لم تهتم اهتماماً كبيراً برواياته بوجه عام، ورواياته عن السجون بوجه خاص. 
ولم يكن هذا الإعصار هو الوحيد الذي ألقى بالعقاد في السجن، فقد كانت هناك أعاصير أخرى، ولذلك كتب العقاد ديواناً كاملاً من قصائده بعنوان «أعاصير مغرب»، يقصد هذه الأعاصير التي ظلت تنتابه حتى في أول شيخوخته بعد الخمسين من عمره، ثم كتب بعده ديوانه الآخر بعنوان «بعد الأعاصير»، وحمل آخر دواوينه عنوان «ما بعد البعد». ولم يكن هذا العنوان سوى بداية الغروب الذي لاحظناه نحن الذين شاهدوا العقاد في سنواته الأخيرة.
وأشهد أن متابعتي لهذا العملاق هي الوجه الآخر من متابعتي للعملاق الذي كان أحب إلى نفسي وأقرب إلى قلبي، أعني طه حسين. 
لقد ظل كلاهما - العقاد وطه حسين - يمثل في داخلي قيماً إيجابية كثيرة، ظللت حريصا عليها، أستمد منها كل ما يدعمني في حياتي ويساعدني على مواجهة الصعاب. 
وأعتقد أنني ورثت عن العقاد هذه الأعاصير التي تنفجر في النفس فتعصف بكل ما تراه فساداً وجبناً وخنوعاً؛ كي تستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى، أو لكي تستبدل الحرية بالظلم، والانفتاح بالانغلاق، والصبر على المكاره بالخنوع والاستسلام لها. 
والحق أنني تعلمت من معارك العقاد وطه حسين الكثير من المبادئ التي لاأزال منطويا عليها، والتي أحرص أن أعلمها لأبنائي من الأجيال المتعددة التي شاء لي الله سبحانه وتعالى أن أقوم بتعليمها وتوجيهها.
وأذكر أن العقاد توفي سنة 1964، وكنت لم أتخرج في كلية الآداب بعد، ولكني حزنت عليه جدا، وحرصت على أن أقتني ما فاتني من أعماله، وأن أكتب عن المجالات التي تشدني في تلك الأعمال.
ولاأزال أذكر أنني كتبت مقالا عن «الجمال والحرية في فكر العقاد»، وقد كان لهذا المقال تأثير كبير في وقته، وأذكر أيضاً أنني كتبت أكثر من مرة عن فكر العقاد، وظللت طوال حياتي أُكبر هذا العصامي الجميل الذي حفر مستقبله في الصخر، والذي كانت إرادته تشبه في صلابتها حجر الجرانيت الموجود في أسوان حيث ولد. 
أما طه حسين، فكانت علاقتي به مختلفة، فقد ظللت تلميذاً له، دون أن أتتلمذ تتلمذاً مباشراً عليه، ولحسن حظي أنه قد طال به العمر، وظل حياً إلى عام 1973؛ حيث توفي في أجواء انتصار أكتوبر وقتها، وعندما توفي حرص تلامذته المباشرون على أن تخرج جنازته من حرم جامعة القاهرة التي كان علماً من أعلامها، وأذكر أنني كنت حاضرا في هذه الجنازة التي تصدرتها الأوسمة التي حصل عليها، وخرجت الجــــنازة من كلـــــية الآداب (التي أصبحت مدرساً فيها) في طريقها إلى كوبري الجامعة الذي ينتهي بمسجد صلاح الدين، حيث صلينا عليه صلاة الجنازة وودعناه إلى السيارة التي حملته ورحلت به إلى مثواه الأخير.
وقد كتبت عن لقائي بطه حسين مقالا آخر نشرته، وكان هذا اللقاء في منزله الذي أصبح متحفاً من متاحف وزارة الثقافة إلى اليوم، ومركزاً من مراكز النشاط الثقافي والإشعاعي، ولاأزال أذهب إلى «رامتان»، وكلما ذهبت أتذكر حيرتي عندما استمعت إلى هذا الاسم للمرة الأولى، فظللت أبحث عنه في «لسان العرب» إلى أن اكتشفت أنه مثنى «رامة»، وأنه ورد في الشعر القديم؛ حيث نقرأ:
بَانَ الخَليطُ بَرَامَتَينِ فَوَدّعُوا
والحق أن حياة طه حسين - خصوصاً في شبابه – كانت مملوءة بالأعاصير، فهناك الإعصار الأول الذي قابله في حياته. وهذا الإعصار تمثل في ثورته على شيوخه في الأزهر وقسوة نقده لهم، وهو الأمر الذي أدى بهم إلى التكاتف ضده، والانتقام منه بحرمانه من النجاح في الحصول على درجة العالمية. 
وكان رد الفعل على ذلك هو انتقال طه حسين من الجامعة الأزهرية الدينية إلى الجامعة المدنية الجديدة التي كانت تمثلها الجامعة المصرية الوليدة، التي كان أستاذه أحمد لطفي السيد مديراً لها، وقد توسط له السيد لكي يدخل كلية الآداب، ويكون أحد الطلاب النابهين في قسم اللغة العربية، ولكن ظهرت ثانية أعاصير طه حسين في هذا القسم ضد أستاذ من أساتذته، وهو الشيخ محمد المهدي، الذي كان منتدباً من الأزهر لتدريس الأدب العربي في الجامعة المصرية القديمة، وكان محور الصدام حول شخصية أبي العلاء المعري ومعتقداته، واختلف الفتى الطالب مع أستاذه الشيخ المهدي. 
ولم ينس الطالب الفتى أنه ناقش أستاذه في أحد الموضوعات الخاصة بعقيدة أبي العلاء المعري، فاضطر إلى تأجيل ثأره من الشيخ لحين كتابته رسالته عن المعري، وكان طبيعياً أن يقع الصدام بين الفتى الجامعي الشاب، وهو طه حسين، والشيخ الأزهري المرموق، وهو الشيخ محمد المهدي؛ ولذلك كتب طه طويلاً وعميقاً عن عقيدة أبي العلاء، وكان لابد من الصدام في المناقشة، فاشتد عليه الشيخ المهدي، وحاول الثأر لنفسه في تقدير الدرجة الممنوحة للرسالة. 
وكان نتيجة لضغوطه الشديدة أن حصل طه حسين على الدكتوراه الأولى التي تمنحها الجامعة المصرية بتقدير فائق جداً، وهو ما يعني بلغة العصر «مرتبة الشرف الثانية».
وبرغم فرح طه حسين بحصوله على الشهادة، فإنه لم ينس أن الشيخ محمد المهدي تسبب في حرمانه من درجة «مرتبة الشرف الأولى»، ومع ذلك عندما قام طه حسين بنشر هذه الرسالة، تصدى له بعض رجال الأزهر وهاجموه في اللجنة التشريعية التي كان يرأسها سعد زغلول الأزهري الأصل، ولكن زغلول دافع عنه وأخرجه من المأزق. 
ويذهب طه حسين إلى فرنسا؛ لكي يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة مونبلييه، ويقضي هناك عاماً، ويضطر إلى العودة بعده إلى القاهرة بسبب سوء الأحوال المالية للجامعة. 
ويعاود الكتابة في جريدة السفور، ولكنه يتذكر ثأره القديم من أستاذه محمد المهدي؛ فيكتب مقالاً عن درس الأدب في الجامعة، مهاجماً فيه الشيخ المهدي أقسى الهجوم، ولا يتركها له الشيخ، فيذهب شاكياً لإدارة الجامعة، ويكاد الأمر ينتهي بأن تقرر الجامعة حرمان طه حسين من العودة إلى بعثته في فرنسا. 
ولولا تدخل رعاة طه حسين لكان من الممكن أن تضيع البعثة عليه؛ بسبب انفعاله الذي دفعه إلى أن يعصف بطريقة الشيخ محمد المهدي في التدريس. 
وبالفعل تنجح وساطات رعاة طه حسين في احتواء الأزمة، ومن ثَمَّ آثار الإعصار. ويتدخل السلطان حسين كامل في الأمر، ويعود طه حسين إلى البعثة. ولكنه هذه المرة إلى باريس بدلا من مونبلييه، وهناك يقابل سوزان، الفتاة الفرنسية التي أحبها وساعدته مساعدات هائلة في تلقي دروسه وفهمها. وينتهي الأمر بحصول طه حسين على درجة الدكتوراه في التاريخ والاجتماع في موضوع: «فلسفة ابن خلدون»، والعودة إلى القاهرة سنة 1919.
وفي القاهرة يكتشف طه حسين أن مصر قد هبت في ثورة 1919، فتنقل إليه الثورة عدواها، وهو الأمر الذي يولد الإعصار الثالث، أعني الإعصار الذي تمثل في محاضراته «عن الشعر الجاهلي»، وهي المحاضرات التي نشرها كتاباً في سنة 1926 بعنوان «في الشعر الجاهلي»، وما إن تصدر دار الكتب المصرية هذا الكتاب ويخرج إلى الأسواق، ويقرأه القرّاء حتى يعجب به طائفة من المحدثين، لكن الأغلبية من ذوي الآراء القديمة يغضبون على الكتاب، ويتهمون صاحبه بالكفر والإلحاد، وتقوم العاصفة التي لا تبقي ولا تذر، ويجد طه حسين نفسه وسط أقسى إعصار واجهه في حياته، ويلجأ خصومه إلى شيخ الأزهر مستـــفزين إياه كي يأخذ بنصرة الإسلام من كتابات طه حسين الذي اتهموه - ظلماً - بالكفر والإلحاد، ويصل الأمر إلى أن يحدث الكتاب ومنهـــــجه الجديد أزمة في البرلمان المصري، ويحاول المعتدلون تدارك هذه الأزمة التــــي أصبــــح شــيخ الجامع الأزهر طـــــرفاً فيها (وكان عدلي يكن فـــي ذلــــك الوقــــت رئيساً للحكومة وسعد زغلول رئيساً لمجلس النواب)، ويتفق البرلمان والحكومة على حل وسط، وهو إرسال الموضوع إلى النيابة العامة. 
ويتولى الأستاذ محمد نور التحقيق مع طه حسين حول ما نسب إليه في الكتاب. وينتهي التحقيق، ويكتب نور تقريراً هو وثيقة مضيئة في تاريخ القضاء المصري بوجه خاص، والعربي بوجه عام، عن حرية التفكير، ويقرر أنه لا يوجد قصد جنائي في الكتاب، وأن ما ورد فيه من بعض الأقوال التي أثارت الكثيرين إنما وردت على سبيل الاجتهاد العلمي. ولما كان الاجتهاد مطلوباً في كل الأحوال، وأن المجتهد مثاب في كل أحواله، ما ظل له أجر واحد في حال الخطأ وأجران في حال الاجتهاد، فقد كان حكم محمد نور هو تبرئة طه حسين وإغلاق التحقيق والإفراج عنه، ومن ثَم عودة طه حسين إلى جامعته معززاً مكرماً.
لكن طه حسين لم ينس إطلاقاً هذا الإعصار الذي كاد يودي به، فذهب مع عائلته مع بدء الإجازة الدراسية للاستجمام في فرنسا والراحة من العناء الذي كابده، وأصابه وابتلي به خلال محنة كتاب «في الشعر الجاهلي». 
وقام بتعديل الكتاب وإخراج كتاب آخر في العام اللاحق بعنوان «في الأدب الجاهلي»، حذف فيه الجمل الملتبسة التي تعلق بها خصومه، متهمين إياه بالكفر والإلحاد، ولكنه لم ينس أن يكتب مقدمة جديدة للكتاب، يتحدث فيها عن أهمية المنهج الحديث بالنسبة للدراسات الجامعية في مصر، وأهم من ذلك ضرورة تأسيس البحث العلمي والفكري والتاريخي على مبدأ الحرية الذي هو مبدأ لا غنى عنه للجامعة بشكل عام في أي مجال من مجالات البحث. وتمر السنوات القليلة، ولكن طه حسين لم ينس هذه المحنة قط.
ويبدو أن هذه المحنة هي التي دفعته إلى أن يسترجع حياته كلهــــا، منذ أن فقــــد بصره نتيجة الجهل والفـــقر والمرض، فيكتب سيرة حياته الرائعة التي نعرفـــها حاليــــا باسم «الأيام»، والتي يذكر فيها كيف استطاع هذا الفتى الفقير المريض أن يشق طريقه في الحيــاة وينتصر على كل الصعاب ويــــهزم أعداءه، وعلــــى رأســــهم الجهل والفقر والمرض. ويمضي طه حسين في أجزاء «الأيام»؛ ليحدثنا عن رحلة كفاحه إلى أن وصل إلى بر السلامة، ونجــح في مواجهة كل الأعاصير التي مر بها، واستطاع أن يتغلب عليها مستعينا على ذلك في مرحلة من عمره بهذا الملاك الحاني الذي وقف إلى جانبه، والذي قدم له الحنو والحنان والرقة والتشجيع على السواء؛ فانتهى إلى ما وصل إليه. 
ومرت محنة الشعر الجاهلي التي لم تكن هي المحنة الوحيدة ولا الإعصار الوحيد في حياة طه حسين، فسرعان ما جاء الإعصار الرابع في الثلاثينيات من القرن العشرين، وكان ذلك حين رفض طه حسين، عميد كلية الآداب، أن تمنح الجامعة درجة الدكتوراه الفخرية إلى رئيس وزراء مصر في ذلك العهد، وهو إسماعيل صدقي باشا، الذي كان معادياً للحركة الوطنية الديمقراطية المصرية. 
وكانت شجاعة طه حسين في رفض منح الدكتوراه هي السبب في رد حكومة إسماعيل صدقي بالثأر، فأصدر محمد حلمي عيسى وزير المعارف العمومية في هذه الحكومة قراراً بنقل طه حسين إلى وزارة المعارف العمومية، كي يترك الجامعة، ويخلو الأمر لأنصار إسماعيل صدقي كي يمنحوه الدكتوراه. 
ولكن شجاعة أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة وقفت ضد قرار النقل، فلم يجد وزير المعارف العمومية أمامه من رد سوى فصل طه حسين، وهو القرار الذي رد عليه السيد بتقديم استقالته.
وتحول طه حسين من عميد كلية الآداب عند النخبة المثقفة من الوطنيين إلى عميد الأدب العربي كله، وقد دعته الجامعة الأمريكية لكي يلقي محاضرات عامة في قاعة «إيوارت» التذكارية. 
وظل طه حسين خارج الجامعة لثلاث سنوات إلى أن سقطت الوزارة الظالمة، وجاءت وزارة أخرى وطنية، فأمرت بإعادته إلى منصبه في كلية الآداب، ومن ثَمَّ إعادة أحمد لطفي السيد رئيساً للجامعة. 
وهكذا انتهى الإعصار الرابع من الأعاصير التي واجهها طه حسين في حياته.
ولم تتوقف الأعاصير عند ذلك الحد، فهناك الإعصار الأخير الذي واجهه طه حسين خلال الأربعينيات، عندما انحاز إلى الفقراء وكتب مجموعته القصصية الرائعة «المعذبون في الأرض»، مصدراً إياها بإهداء يقول: «إلى الذين يجدون ما لا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون»، وكان هذ الإهداء فضلا عن القصص الموجودة فيه، وفضلا عن روايته «شجرة البؤس» بمنزلة انحياز طه حسين الواضح إلى العدل الاجتماعي. 
وهذا أمر طبيعي، لأنه كان ابن الفــقــراء الذين تعلم منـــــهم قسوة الفقر، وورث عنــهم الرغبة في الوقـــــوف ضده، وذلـــك بقدر ما علمته الحياة أن الوقوف ضد الفقـــر يعني الوقـــــوف مع العدل الاجتماعي ومع الحرية على السواء. 
وهو الأمر الذي جعل طه حسين عندما تولى وزارة المعارف العمومية في حكومة النحاس باشا سنة 1951 يصدر أخطر قرار عرفه التعليم في مصر، وهو مجانية التعليم قائلا: «إن التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن». 
ولولا هذا الشعار والقرار ما تعلمت الأجيال التي جاءت بعد سنة 1951 مجانا، ولا تمكن أبناء الطبقات الفقيرة في مصر من التعلم والوصول إلى أعلى الدرجات. 
ولولا الأعاصير التي مرت في حياة طه حسين وواجهها هو في شجاعة وبسالة ما كان طه حسين هو الرمز المضيء والساطع في حياتنا، وما كنت أضعه مع العقاد جنبا إلى جنب بوصفهما قامتين رفيعتي الشأن، أستلهم خطاهما في حياتي.
وأعتقد أنني عند كل إعصار واجهته في حياتي كنت أستلهم ما فعله هذان النجمان الوضاءان في ماضيهما؛ كي أستعين بما فعلاه في مواجهة أعاصير حياتي، وأعتقد أنني بسبب ذلك قد نجحت، وجاوزت كل الأعاصير، وهاأنذا أكتب عما بعد الأعاصير مستعرضاً بعض ما عانيته، وما سوف أكتب عنه، مسترجعا ما فعله طه حسين والعقاد في مواجهة الأعاصير التي لا أشك في أنها قد أضافت إليهما، بعد أن واجهها كل منهما في شجاعة وبسالة، والتي كانت - ولاتزال- نبراسا مضيئا لنا، نحن الذين جئنا بعدهما، كما نرجو أن تكون حياتنا مثالا للذين يأتون بعدنا، فالحياة الخلاقة لا يمكن أن تتقدم إلا عندما يكون السابق منــها مثلاً أعلى للاحق.
وهاأنذا أصل إلى ما يقرب من عمر العقاد، قبل أن يرحل عن هذه الدنيا، وأصبح شيخاً في عامي الثالث والسبعين، وأدرك أن ما بقي من عمري أصبح قليلا، ولكني عندما أتذكر حياة هذين العظيمين - العقاد وطه حسين - أقول لنفسي: إن الحياة لاتزال قائمة، وما دمت موجوداً فيها، فعليّ أن أعيشها بالعمق الواجب واللازم، وأتذكر أبيات ناظم حكمت التي تقول:
إن حياتك ليست مزحة
فلتحيا حياتك جادا كالسنجاب...
لا تفعل شيئا إلا أن تحيا
وأنا لا أفهم جملة «لا تفعل شيئاً إلا أن تحيا» بوصفها حثًّاً على الحياة الخصبة المنتجة؛ ولذلك لا أتوقف عن القراءة والكتابة، وأشعر أنني لاأزال أمتلك القدرة على أن أنافس تلامذتي الذين بدأوا مرحلة الشيخوخة، وأقول لهم إن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش، وإن خريف العمر هو أمتع فصول العمر، ودليل ذلك بسيط؛ ففصل الربيع في مصر هو أكثر الفصول غباراً وعواصف، أما الخريف فهو أهدأ الفصول وأكثرها شاعرية، ولا تحلو الإسكندرية إلا في هذا الفصل؛ ولذلك أشعر في داخلي بقوة تدفعني إلى مزيد من القراءة ومزيد من الكتابة. 
صحــــيح أن الأعاصـــــير قد هدأت مــــن زمـــــن طويل ولم يــــبق منها سوى ذكرياتها، ولكنها ذكريات تظل محملة بأنسام وروائح تحمل من عطر الصبا ما يذكّر بقول الشاعر القديم:
ﻳﺎ ﻟﻠﺸـﺒــﺎب اﻟﻤـــﺮح اﻟﺘﺼــــﺎبي 
رواﺋــﺢ اﻟﺠﻨـــﺔ فـي اﻟﺸﺒﺎب ■