في مفهوم الدولة المدنية

في مفهوم الدولة المدنية

كيف يمكن أن ننظر فلسفياً في موضوع «الدولة المدنية» باعتباره موضوعاً آنياً، وجزءاً من الصراع الثقافي والسياسي في الفكر العربي؟.
ثمة موقفان فلسفيان يرى أحدهما أنه يجب على الفلسفة ألا تتدخل في موضوع الآني واليومي والحاضر، وذلك لعدم اكتماله، ولأن معرفة حقيقته تحتاج إلى مسافة، لم يتردد الفيلسوف بول ريكور، في المطالبة به، مستحدثاً بذلك مصطلحاً غريباً، ولكنه يؤدي الغرض وهو «التماسف». وسنده في ذلك، تشبيه هيغل للفلسفة بطائر «منيرفا» الذي لا يظهر إلا عند الغسق، أي عند اكتمال الوعي والروح والفكرة. 

 

في مقابل هذا التوجه هنالك رأي انتشر كثيراً في الفلسفة المعاصرة، تزعّمه فلاسفة كثيرون ومنهم ميشيل فوكو، على سبيل المثال لا الحصر، والذي يرى أن مهمة الفلسفة هي تشخيص للحاضر، متبعاً في ذلك أستاذه فرديريك نيتشه، الذي جعل الفلسفة مثل الطب تقوم بعمليات التشخيص النقدي ليس للأبدان أو الأجساد، ولكن للأنفس والذوات، أو لأمراض الحضارة وأزمات الثقافة. 
ويعتبر موضوع «الدولة المدنية» من الموضوعات التي تواجه كل باحث ومهتم بالمجتمعات العربية والإسلامية ومصيرها في زمن العولمة. ويستدعي المشاركة النقدية في دراسته وبحثه من جهة طبيعته المفهومية، وإشكاليته النظرية، وقيمته الإجرائية أو المنهجية، وفائدته العملية أو التطبيقية، وغاياته السياسية والاجتماعية.
والحق، فإن موضوع «الدولة المدنية» يبدأ من هوية العبارة نفسها، فهل تشير هذه العبارة إلى مفهوم سياسي يماثل من حيث القيمة مفهوم الدولة أو العدل أو الحرية، أم هي مجرد شعار؟ وما المضمون السياسي للدولة المدنية، أو ما عناصرها التكوينية؟ وما الفرق بين الدولة المدنية والدولة الدينية، وغيرها من أشكال الحكم المختلفة؟ وأخيراً ما هي تلك القوى الاجتماعية والسياسية التي ترفع شعار «الدولة المدنية» أو توظف هذا المفهوم في تحليلاتها وصراعاتها السياسية؟.

أولاً: في منهج التحليل
لا يمكننا أن ننظر في مختلف وجوه هذه الإشكالية، وإنما سنكتفي بإجراء تحليل لمضمون العبارة الذي أصبح، في تقديرنا، يشير إلى مفهوم سياسي في الفكر العربي الحديث والمعاصر. وعليه، فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة هو: ماذا نعني بمفهوم الدولة المدنية؟.
من المعلوم أن مفهوم الدولة مفهوم أصيل ومركزي في العلوم السياسية والفلسفة السياسية على حد سواء، فإن صفة «المدني»، لا تلحق بالدولة إلا في خطاب الفكر العربي السياسي الحديث والمعاصر. ولا يعني عدم انتمائه إلى حقل الفلسفة السياسية، التقليل من قيمته الإجرائية أو وظائفه الأيديولوجية، بل نستطيع القول إن العكس هو الصحيح، وذلك بحكم أن اللغة السياسية لا تدعي البراءة الأيديولوجية، وبعيدة عن أن تكون لها دلالة واحدة أو ثابتة. إنها لغة مفتوحة دائماً للنقاش والاعتراض، وتبدو منفلتة من التحديد العلمي الصارم، ويغلب عليها التعدد، والتشتت في بعض الأحيان.
ولا يشكل هذا الوضع المعرفي عيباً في ذاته، لماذا؟ لأنه جزء من طبيعة اللغة السياسية، ولأنه يتعين علينا ألا نتعجب من تعدد تأويلاتها المتصارعة، وذلك لأن الصفة الأولى للمفاهيم السياسية ليست الوضوح، هذه القيمة العزيزة على العلم في صيغته الطبيعية، وإنما صفتها الأولى والأساسية هي قدرتها على تسويغ/ تبرير الفعل أو العمل السياسي، وأن تساعد مستعمليها على بناء برامج عمل، وصياغة أيديولوجية سياسية. 
ثم إنه إذا كانت المفاهيم السياسية في عمومها، ومنها بالطبع مفهوم «الدولة المدنية»، واسعة، وغير محددة كفاية، وغامضة نسبياً، ومتعددة وظيفياً، فإن السبب في ذلك يعود إلى طبيعتها التكوينية المزدوجة والمتمثلة في الطابع الوصفي والمعياري في الوقت نفسه، أي إنها تعبّر عن وقائع اجتماعية وسياسية وعن أحكام قيمية وأخلاقية أيضاً. لذا يصعب الاتفاق حول معناها، بحيث يستقر هذا المعنى، ويصبح واضحاً، اللهم إلا باتخاذ موقف بذاته، والانحياز إلى عنصر محدد، وتفضيل حكم قيمة بعينه.
وعليه، نستطيع القول، وفقاً لبعض المقاربات التي تقدمها فلسفة اللغة، إن المفاهيم السياسية مفتوحة لا تفهم خارج مجموعتها المماثلة أو تشكيلتها الخطابية، وضمن علاقاتها الثقافية التي يكون فيها للتاريخ وأحداثه الدور الأساسي في صياغتها. ولذا، فإن كل محاولة لوضع حد، ولو نسبي، لهذا الاختلاف، واللبس، والتعدد، تحتاج ليس فقط إلى اتخاذ قرارات منهجية علمية بغرض صياغة دقيقة للمفهوم، بل يتطلب الأمر كذلك اتخاذ مواقف سياسية واعية.
من هنا يمكننا القول إن مفهوم الدولة المدنية لا ينتمي إلى مصطلحات الفلسفة السياسية القديمة أو الحديثة، فباستثناء ما نقرأه في عنوان كتاب الفيلسوف الإنجليزي جون لوك «مقالتان في الحكم المدني»، فإن كل ما نقرأه في اللغات الغربية، وخصوصاً الفرنسية والإنجليزية، هو الألفاظ الآتية: «الحالة المدنية» ويقصد منها حالة المواطن المدنية من حيث تاريخ الميلاد ونسبه (الاسم واللقب)، والوضع العائلي. 
كما نجد استعمالاً لصفة المدني في أربع حالات، هي المجتمع المدني أو المنظمات والجمعيات التي يشكلها المواطنون في استقلال عن مؤسسات الدولة، والقانون المدني الخاص بالحالات المدنية للأفراد، والأخلاق المدنية التي تقوم على مجموعة من القيم التي يجب أن يتحلى بها المواطنون في المجال العام، وأخيراً التصنيف العام القائم على التمييز بين المدني والعسكري.
ومع ذلك، فإن ثمة تدقيقاً تاريخياً يفرض نفسه، وهو أن الفكر السياسي الأوربي قد استعمل هذا المفهوم في سياق الصراع بين التسامح والتعصب، وبين الحرية والاضطهاد الذي عرفته الإمبراطورية الرومانية في مرحلة اعتمادها للعقيدة المسيحية عقيدة رسمية بحيث نقرأ لأحد الفلاسفة، وهو تمستيوس، خطاباً موجهاً إلى الإمبراطور قالينس يطالب فيه بضرورة إلغاء المراسيم التي أصدرها لاضطهاد المخالفين للمسيحية، قائلاً: «إن سلطان الحكومة لا يستطيع أن يؤثر في معتقدات الإنسان الدينية، وإن الخضوع للحكومة في هذا الأمر لا ينتج إلا اعترافات يحدوها الرياء والنفاق، إنه لينبغي إفساح المجال لكل مذهب، وإن من واجب الحكومة المدنية أن تحقق سعادة الأفراد جميعاً؛ سواء من كانت معتقداته صحيحة أو من كانت معتقداته سقيمة». 
ومهما كانت القيمة التاريخية لهذه الإشارة، فإنها تطرح قضية أساسية، ألا وهي مسألة التسامح، وكيفية تسيير التنوع العقائدي في المجتمع، ومخاطر فرض عقيدة واحدة، ودور الدولة المدنية في ذلك. 
لذا، فإننا لا نستطيع الإجابة عن سؤال المضمون المعرفي والأيديولوجي لمفهوم الدولة المدنية باتباع طريقة البحث في القواميس والمعاجم، وإنما الذي نراه مناسباً هو السياق الثقافي والاجتماعي وطريقة الاستعمال والتوظيف. وعليه، فإن هوية مفهوم «الدولة المدنية» تتحدد في سياق الفكر العربي الحديث والمعاصر بما هو فكر سياسي وأيديولوجي بالدرجة الأولى ويفتقر إلى الأرضية العلمية الصلبة، ولكنها في المقابل تستفيد من أرضية اجتماعية قوية ومتنوعة، وخبرة سياسية كبيرة قادرة على تحديدها. ولن يتأتى لنا ذلك ما لم نسأل عن المشكلات السياسية والاجتماعية للمجتمع العربي، وعن الأسباب التي أدت بالخطاب السياسي العربي إلى استعمال مفهوم الدولة المدنية، وعن القوى السياسية والاجتماعية التي توظفه وتستعمله في معاركها السياسية وبرامجها التنظيمية، وما الذي ترومه من وراء هذا الاستعمال؟.
إن هذه الأسئلة هي التي تحدد وجهتنا في التحليل، وتجعل طرحنا يتخذ صورة مدخل تاريخي مفهومي يعطي الأولوية للدراسة التاريخية تعقبها الدراسة الوصفية الدلالية، بحيث نخضع المفهوم لطريقتين متكاملتين: تاريخية تحلل تحولات المفهوم قبل أحداث ما يسمى «الربيع العربي» وبعدها، ووصفية دلالية تحاول الوصول إلى تحديد مفهوم الدولة المدنية في حدّيه الأعلى والأدنى من الدلالات.

ثانياً: في السياق التاريخي
بالنظر إلى الأدبيات العديدة التي تناولت هذا المفهوم، فإنني سأتوقف عند عينتين، عينة ما قبل الربيع العربي، وعينة ما بعده. ومعلوم أن العينة ليست استقراء تاماً، كما يقول أهل المنطق، وإنما هي مؤشر يعكس الحالة العامة للمفهوم. وفي تقديرنا، فإن نص الندوة الحوارية التي جمعت مجموعة من العلماء والمفكرين على رأسها محمد الغزالي وفرج فودة، ونظمتها هيئة الكتاب في مصر، بإشراف سمير سرحان، وذلك بمناسبة معرض كتاب القاهرة في عام 1992، تعد عينة مناسبة لهذا الغرض. 
كان عنوان الندوة في البداية هو: «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، ولكن العنوان أصبح في نهاية الندوة: «مصر بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية»، وذلك بالنظر إلى رفض الإسلاميين المعقبين في الندوة للعنوان الأول، مما يعكس قوة حضورهم وتأثيرهم. 
وليس غرضنا أن نحلل مختلف الأفكار الواردة في هذه الندوة، رغم أهميتها، ولكن الذي يعنينا هو تتبّع مفهوم الدولة المدنية، حيث نجد من جهة اعتراض الإسلاميين على مفهومي «الدولة المدنية» و«الدولة الدينية» على حد سواء، واعتبار مفهوم «الدولة الإسلامية» مختلفاً عن هذين الشكلين، ويشكل بديلاً لهما في الوقت نفسه.
 مثلاً يقول محمد الغزالي: «نطالب بحكومة إسلامية نصفها وحي من عند الله، ونصفها عقل يبحث عن المصلحة ويمشي بالقياس والاستحسان»، معتبراً الديمقراطية الغربية فاسدة، ومستدلاً في ذلك بمجلس العموم البريطاني، وبعض تشريعاته (الشاذة) في موضوع الأحوال الشخصية. وعزز هذا الطرح محمد الهضيبي الذي قال إن «الأحكام الواردة في القرآن الكريم تؤكد أن الإسلام دين ودولة». 
وفي مقابل هذا الطرح، أكد فرج فودة، الممثل للتيار العلماني، ضرورة قيام دولة مدنية، أو كما قال: «نحن أنصار الدولة المدنية التي لا تعرف هوية سوى هوية المواطنة». وطالب الإسلاميين بتقديم برنامج سياسي محدد. ولكن عند قراءة ما قاله المعلقون أو المعقّبون، يظهر مدى الرفض للدولة الدينية والمدنية على حد سواء، ولكن بحجتين مختلفتين، الأولى هي أن الإسلام لا يملك دولة دينية، والثانية هي أن الدولة المدنية غير مناسبة، والأفضل هو الحديث عن «الدولة الإسلامية»، بل يجب الدعوة إلى «الدولة الإسلامية». 
وفي رده على هذه الحجة، حجة أن الإسلام ليس دولة دينية، يقول رضوان السيد: «يجادل إسلاميون معتدلون بأن أحداً لا يقول بالدولة الدينية، لأن الحاكم فيها غير معصوم، ولا كاهن. لكن غير المعصوم هذا يقوم على تطبيق الشريعة المعصومة، فما الفائدة من التأكيد على مدنية الحاكم مادامت مدنية الدولة منكورة أو غير مصونة؟!».
وإذا كانت هذه الحجة الاستفهامية كافية من حيث ضرورة الفصل في طبيعة النظام السياسي وعدم الاكتفاء بالفصل في منزلة الحاكم، فإن المثير للانتباه حقاً هو الجو العام المصاحب لهذه الندوة والمناهض لفكرة الحوار نفسها، وليس فقط لفكرة الدولة المدنية. يؤكد هذا ما قاله على الأقل معقبان هما زينب الغزالي التي قالت: «رأيي الشخصي ألا تناظروا هؤلاء الغلاة في محاربتهم للإسلام (...). إننا على الحق، والحق سينتصر إن شاء الله». وقول عبدالصبور شاهين، وهو أستاذ في كلية دار العلوم وخطيب في مسجد عمرو بن العاص: «أنا آسف جداً لوجود مثل هذه الفئة المقززة التي تنطق باسم العلمانية، فهي فئة بلا جذور وبلا فكر وبلا لون، وإن كانت لها رائحة فهي رائحة نتنة لا تنبت إلا خبثاً ونكداً».
والنتيجة التي نستخلصها من هذه الندوة تظهر أن الدولة المدنية استعملت في حدودها الدنيا شعاراً ألا وهو «المواطنة»، كما رفعه العلمانيون وبعض الإسلاميين، وذلك من أجل الاعتراض على «الدولة الإسلامية» بما هي دولة دينية في حدودها القصوى معززة بفكرتين أساسيتين هما «الإسلام دين ودولة»، و«الإسلام هو الحل». 
في مقابل هذه العينة، نستطيع القول إن ثمة نصوصاً كثيرة كتبت بعد أحداث «الربيع العربي»، بل يمكن القول إنها لا تقع تحت الحصر. ومع ذلك، فإن بعضها يكتسب قيمة المؤشر. والقراءة الأولية لهذه النصوص، على اختلاف تحليلاتها واتجاهاتها ومواقفها، تؤكد جملة من الأفكار يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
1 - إذا كان موضوع الدولة المدنية مرفوضاً قبل الربيع العربي بوصفه مماثلاً للدولة العلمانية أو الليبرالية التي جرى تشويهها ورفضها بشكل منهجي، بحيث أصبح استعمالها يعني «البدعة» و«الكفر»، وفي أحسن الأحوال الانحلال والتغريب، فإن الملاحظ هو أن استعمال الدولة المدنية تغير بعد أحداث الربيع العربي، بحيث أصبح يشكل نوعاً من الاتفاق الضمني بين معظم التيارات السياسية والاجتماعية، رغم بقاء بعض التيارات الرافضة للمفهوم، سواء من جهة بعض الإسلاميين السلفيين أو بعض العلمانيين العقائديين.
2 - إذا كان مطلب الدولة المدنية قد شكّل ما يمكن تسميته لغة مشتركة بين مختلف الفرقاء، أو منطوق الخطاب، فإن النقاش، بل نستطيع القول إن الصراع الأكبر يدور، ولايزال كذلك، حول مضمون هذه الدولة، أو إذا شئنا الدقة فإن اللعبة الكبرى تدور حول القواعد المنظمة لهذا المفهوم.
3 - على الرغم من هذا الاختلاف، فإن ثمة اتفاقاً عاماً على أن مفهوم الدولة المدنية، دولة مناهضة لـ «الدولة العسكرية/ الدولة التسلطية»، ولـ «الدولة الدينية/ الكهنوت» الشمولية في الوقت نفسه. 
4 - ليس استعمال الدولة المدنية إلا حصيلة توازن مؤقت بين التيارين الكبيرين في العالم العربي؛ تيار التقليد وتيار التحديث، أو التيار الإسلامي والتيار الديمقراطي – العلماني، تحكمه علاقات القوى الاجتماعية الداخلية، وعلاقات القوى العالمية التي تشير في الحالتين إلى مخاطر كبيرة ليس أقلّها انفجار المجتمعات العربية والإسلامية، ودخولها في حروب أهلية، ووقوعها فريسة سهلة للتدخلات الأجنبية التي تعمل على تفكيكها وتفتيتها.
5 - يشير مفهوم الدولة المدنية في مقابل الدولة الدينية إلى نقاش يظهر ويختفي بحسب القوى الاجتماعية والسياسية التي تناوبت على مقدمة المسرح في العالم العربي، بحيث نلحظ استعماله في بداية القرن، وذلك في النقاش الدائر بين فرح أنطون ومحمد عبده في عام 1900، حيث طوَّر الشيخ محمد عبده أطروحة الدولة المدنية في رده على مسألة الاضطهاد في الإسلام التي قال بها أنطون. يقول محمد عبده: «إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة - يقصد الخلفاء - على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء، فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدّعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادة ربه، أو ينازعه في طريق نظره». 
ولكن مفهوم الدولة المدنية سيختفي في سياق «فاجعة» بعض الاتجاهات الإسلامية من قرار إلغاء الخلافة العثمانية، وبخاصة تيار حركة الإخوان المسلمين، في حين أن بعض الاتجاهات الإسلامية الأخرى لم تر في قرار الإلغاء بأساً على الإسلام، ومنها الحركة الإصلاحية في الجزائر، وتحديداً عند الشيخ عبدالحميد بن باديس, الذي قال: «ولقد أمكن أن يتولى هذا المنصب شخص واحد في صدر الإسلام وزمناً بعده – على فرقة واضطراب – ثم قضت الضرورة بتعدده في الشرق والغرب، ثم انسلخ عن معناه وبقي رمزاً ظاهرياً تقديسياً ليس من أوضاع الإسلام في شيء». 

ثالثاً: في دلالة المفهوم
نستطيع القول إن مفهوم الدولة المدنية قد اختفى من النقاش العام، وذلك في ظل الصراع ضد الاستعمار، ومع بداية تأسيس الدولة الوطنية. ولكن، وبالنظر إلى الصعوبات التي عرفتها الدولة الوطنية وإخفاقها في تحقيق مشاريعها وأهدافها، سيظهر من جديد مفهوم الدولة المدنية كتعبير عن أزمة الدولة الوطنية، سواء من جهة مشروعيتها، ومصداقيتها، أو أصالتها وتأصيلها, أو هويتها وقدرتها على تحقيق الإصلاح. 
وعلى الرغم من أن الصــــراع حــــول مضمــــون مفـــهــوم الدولة المدنيــــة لايــــزال قائماً بين التيارات السياسية والاجتــماعية الفاعلة في المجتمــــعات العربية، فإن التوجه العام والغالــــب، يشير في تقــــديرنا، إلى أن ثــــمة ميلاً إلى الاعتراف بجملة من العناصر أهمها:
1 - تشير الدولة المدنية إلى الدولة القومية أو الدولة – الأمة.  ويعتبر هذا الشكل من الدولة ظاهرة سياسية حديثة فرضت نفسها على مختلف النظم السياسية العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة.
2 - الاحتكام إلى الديمقراطية، سواء بوصفها آلية تدبيرية، أو مجموعة من القيم المشتركة على رأسها المواطنة وحقوق الإنسان، وذلك بعد الإخفاق الجلي في استعمال القوة والعنف؛ سواء من قبل النظم السياسية أو الإسلام السياسي.
3 - بناء على العنصرين السابقين، فإن الدولة المدنية تحقق قدراً من «العلمنة» لا العلمانية، وذلك بحكم سياقها الاجتماعي والثقافي، والقوى السياسية التي تعمل على تشكيلها.
4 - إن مفهوم الدولة المدنية محاولة للتعبير عن الحد الأدنى من الإجماع السياسي، وفي الوقت نفسه رد مناسب، ولو كان مؤقتاً، على جملة المخاطر التي تواجهها المجتمعات العربية، وعلى رأسها التمزق الاجتماعي، والطائفية السياسية، والحروب الأهلية، والتدخلات الأجنبية. والله غالب على أمره، وهو على كل شيء قدير ■