الـ «سان سيمونيون» يتجهون شرقاً

الـ «سان سيمونيون»  يتجهون شرقاً

معظمنا، إن لم يكن كلنا، نعرف ما سعى إليه الفرنسيون في أواخر القرن التاسع عشر (1798) من غزو لمنطقتنا، بدأ بمصر، ثم اتجه إلى فلسطين، بدعوى نشر التحديث في بلاد طال عليها التخلف، وفشلت الحملة لأسباب متعددة، وشاب دعاواها في التحديث ما رافقه من قوة عسكرية طغت وتكبرت، فضلاً عما دمرت وخربت.

لكن الحلم الفرنسي ظل يداعب خيال البعض من الفرنسيين، وفي مقدمهم نفر عُرفوا بـالـ «سان سيمونيين». 
والـ «سام سيمونيون» هم مجموعة من الباحثين والمفكرين الفرنسيين، الذين اتبعوا دعاوى المفكر الفرنسي سان سيمون (1760 - 1825)، الذي يُعد أستاذاً لـ «أوجست كونت»، الذي نال الشهرة الأوسع باعتباره مؤسساً لما عُرف بالفلسفة الوضعية، التي لا تعترف إلا بما هو «واقع»، حيث يوجد ضمن خبرة الإنسان ما يمكن له أن يدرسه مباشرة تجريبياً، معتبراً هذا الاتجاه مرحلة التطور الثالثة بعد مرحلتين سابقتين، كانت أولاهما المرحلة الميتافيزيقية، التي انتهج فيها الفكر منهجاً يعتمد على القوى غير الطبيعية، وثانيتهما المرحلة العقلية، التي اعتمد فيها الإنسان على عقله وفكره، إلى أن وصل إلى ما اعتبره التطور العلمي الناضج، الذي يُمَكّن الإنسان من الدراسة التجريبية لما حوله في نفسه وفي الطبيعة.
ومن المعروف أن سان سيمون انضم إلى عدد من أشراف الفرنسيين الذين تطوعوا للسفر إلى أمريكا عام 1779، ليسهم في الثورة الأمريكية، حيث أدرك وقتها أن العنصر الأساسي الفاعل في الثورة هو ما شعر به الأمريكيون من غضب أدى بهم إلى التمرد على ما كانت بريطانيا تفرضه من قيود لتأكيد سيطرتها التجارية.
وسان سيمون هو أول من استخدم لفظ «وضعي»، وسُمّي المذهب الخاص به بالمذهب الوضعي، محاولاً بذلك معارضة المبدأ المسيحي الأخلاقي السلبي القائل «لا تعامل الناس بما تحب ألا يعاملوك به»، ليكون مبدأ إيجابياً يقول: «كل إنسان يجب أن يعمل»، مبشراً بذلك بعصر جديد يكون عصر الأفكار الوضعية التي يمكن أن تحل محل الأفكار الخارقة للطبيعة، وبالتالي استبعاد كل تفكير ينحو نحواً ميتافيزيقياً، ومن ثم طرح ضرورة دراسة المجتمع دراسة «علمية» خالصة.
 كما طالب بسياسة فيزيائية، وعلم اجتماع، أي بفسيولوجيا للمجتمع، موضوعها دراسة الناس مجتمعين في جماعة، وذلك بمنهج وضعي، يعتمد على أدوات القياس والتجريب الحسي. 
وإذا كان أفلاطون قد أكد من خلال المدينة الفاضلة التي  تصورها «جمهورية أفلاطون» أن المجتمع الفاضل هو ذلك الذي يقوده الفلاسفة، فإن سان سيمون أكد أن المجتمع المنشود الكفيل بمزيد من النقلة الحضارية لفرنسا هو ذلك الذي يقوده العلماء، وخاصة في المجال الصناعي، حيث كان قريب العهد من الثورة الصناعية، تلك الثورة التي ترددت أصداؤها الواسعة، العميقة، في مجالات اجتماعية مختلفة، فضلاً عن بزوع الأفكار الاشتراكية، بصورها ومنازعها المتعددة، وهو ما انعكس كذلك على توجه سان سيمون، الذي أصبح من المبشرين بالأفكار الاشتراكية. 
ومن هنا كان اهتمام سان سيمون الواضح بالطبقة العمالية، والتشديد على إزالة الامتيازات الطبقية التي كان ينعم بها عِلْية القوم، باعتبارها صورة من صور الانحراف عن العدل الاجتماعي. 

فكرة «الوضعية»
وإذ اهتم سان سيمون بعلم الإنسان، أورد فكرة، اعتبرها المتابعون أنها ألهمت أوجست كونت فكرة «الوضعية»، فقد قال إن كل مظاهر التفكير الإنساني السابقة على الفترة التي اتجه فيها الإنسان إلى الاعتماد على الملاحظة والنقد، يمكن اعتبارها أعمالاً تمهيدية، نظراً إلى أن شرط اعتبار العلم علماً وضعياً هو الاستناد فيه إلى ما تشير إليه الملاحظة، لا مجرد السبحات العقلية البحتة، وهو الأمر الذي طالب مفكرنا فيه بأن تكون السياسة كذلك علماً وضعياً، وبذلك نظر المراقبون إلى هذه الفكرة كحجر أساس للعلم. 
والحق أن في ذلك قدراً من المبالغة، ذلك أن ما كان الإنسان قد توصل إليه قبل عصر سان سيمون، وهو غير قليل، كان الاعتماد فيه على الملاحظة الحسية، ولو شئنا أن نأتي بأمثلة متعددة لجهود علماء مسلمين على هذا الطريق، لاحتجنا إلى أكثر من مقال، وتكفي الإشارة فقط إلى جهود جابر بن حيان، والحسن بن الهيثم، فضلاً عن الرّحالة الذين دونوا مشاهداتهم وما مروا به من خبرات كشفت كثيراً مما أصبح محتوى علمياً لعلوم البحار والجغرافيا.
وشايع سان سيمون وجهة النظر التي ترددت في كتابات عدد من الاشتراكيين في تلك الفترة، من حيث النظر إلى الدين باعتباره اختراعاً بشرياً، حيث نتذكر زعيم هذه المقولة، وهو كارل ماركس، الذي زاد على هذا فشبهه بـ «الأفيون»، لأنه - كما زعم - يُغيب وعي الشعوب، فلا تشعر بما هي فيه من سوء حال ليدفعها هذا إلى الثورة، ويكون الأمل في عالم آخر بجنته بديلاً، وصارفاً الشعوب عن الواقع المقيت، لكن سان سيمون عاد بعد فترة، في أواخر حياته، مثلما حدث لكثيرين، ليرى رؤية الحق في الدين، فيؤكد مبدأ المسيحية الأساسي لإقامة أخلاق إنسانية فاضلة، عن طريق التآخي، ويزيد سان سيمون في التطبيق لهذا المبدأ الأخلاقي المسيحي ليدعو المجتمع كله إلى أن يعمل سعياً نحو رفع المستوى الأخلاقي والجسماني للشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً.
وتعددت صور انغماس سان سيمون في العمل السياسي، واكتوى ببعض شرارات الاضطرابات التي كانت تسود فرنسا من حين لآخر، حتى وجد نفسه يعلن لبعض المقربين إليه أنه قرر هجر هذا المسار والتفرغ للتحصيل الثقافي عامة والعلمي خاصة، منذ عام 1798. 
وأيقن مفكرنا أن رسالته الحقيقية تكمن في المسار العلمي الاجتماعي، مما يوجب العمل على المساهمة في تكوين جيل من العلماء، يمكن لهم أن يتولوا مقاليد الأمور في المجتمع.  
وإذا كانت فرنسا قد بدأت تعرف بعض الاستقرار منذ بدايات القرن التاسع عشر، فقد يسّر هذا لـ «سان سيمون» السفر إلى خارج فرنسا، حيث واصل دعوته في بعض البلدان الأوربية.
وعندما وافت المنية مفكرنا في عام 1825، التف حوله جمع من تلاميذه ومريديه، متعاهدين على أن يواصلوا رسالته، مما دعا كثيراً من الباحثين إلى أن يطلقوا عليهم لقب الـ «سان سيمونيين»، حيث اتجه هؤلاء بالفعل إلى إحياء دعوة الأستاذ والمعلم، ومبادئه السياسية والاجتماعية، خاصة تلك التي لم تساعده الظروف على تحقيقها.

الفن للمجتمع
وكان أبرز تلاميذ سان سيمون هو الأب بارتلمي بروسير أنفانتان، وكانت أول خطوة على هذا الطريق هي إخراج صحيفة سموها «المنتج»، باعتبارها جريدة فلسفية للصناعة والعلوم والفنون، وكان ذلك في عام 1825، من أجل نشر الآراء والمبادئ الخاصة بالمعلم، سان سيمون، وخاصة في مجال التطبيق العملي الصناعي.
ورفع هؤلاء المريدون راية كانت تعد جديدة في ذلك الوقت، وهي أن يكون الفن للمجتمع، وليس لمجرد المتعة الخاصة للمتذوق. ولعل المحور الأساسي الذي دارت حوله كتابات المجلة، تعلق بفلسفة طبيعة الإنسان، التي لابد أن تؤكد استثمار ما يملكه الإنسان من قدرات ومواهب لاستغلال الطبيعة لمصلحته، ولمصلحة البشرية.
لكن المجلة لم تستمر طويلاً، نتيجة التعارض بين بعض الأجنحة في التفسير والتأويل والنهج، شأن ذلك شأن ما تحفل به صفحات التاريخ الثقافي الإنساني من صور انفصال وتعدد وتنوع بين أجنحة التابعين والموالين.
وكان لإنشاء مدرسة الهندسة العسكرية فضل كبير في تجميع تلاميذه وتأكيد الرابط المشترك بينهم، وتوفير فرص التلاقي والتحاور، حيث كان أنفانتان هو المحرك الرئيس للأنشطة التي قامت بها المدرسة. 
وكان حلم سان سيمون هو الامتداد إلى خارج فرنسا، وخاصة بلدان الشرق عامة، ومصر خاصة، حيث برزت لأول مرة فكرة أن يكون العامل الميسر لهذا التواصل بين الشرق والغرب قناة مائية تربط البحرين الأحمر بالأبيض، وهي التي تشخصت فيما بعد في قناة السويس، مما يشير ويؤكد هذا الجهد المتفرد للـ «سان سيمونيية»، وخاصة أنهم بدأوا بطرح هذه الفكرة زمن حكم محمد علي لمصر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
كان الفارس الأول لهذا السبيل هو هوار، حيث زار مصر باذلاً جهداً مستميتاً في تحقيق أمنية أستاذه، لكن محمد علي باشا لم يوافق على المشروع، ومع ذلك استمر الرجل في مشروعات أخرى تخص نهر النيل، إلا أن الأجل قد أتاه وهو في أحد مواقع أعمال هندسة الري على النيل، وتم دفنه في مصر.
وتلاقت تطلعات محمد علي باشا في بناء مصر الحديثة، مع تطلعات نفر من الـ «سان سيمونيين» في «تجسير» الفجوة بين الشرق والغرب، بعدما فشلت المحاولة الأولى التي قادها نابليون بونابرت، التي اعتمدت على القوة المسلحة والقهر العسكري والسياسي.
 وبرز في شأن التعاون بين الـ «سان سيمونيين» ومحمد علي باشا مهندس عسكري فرنسي استطاع بالفعل أن يترك بصمة واضحة، ألا وهو شارل لامبير، حيث وقع عليه اختيار محمد علي باشا ليكون مديراً لمدرسة الهندسة العسكرية ببولاق بالقاهرة. 
وإذا كان من الشائع بالنسبة إلى الاتجاه الاشتراكي أنه يتجه نحو الحرية والقيم الديمقراطية، لكننا نجد لامبير هنا يبدي إعجابه الشديد بمحمد علي باشا، برغم وعي لامبير بما كان عليه هذا الحاكم من نزعة دكتاتورية واضحة، مبرراً ذلك بتجذر التخلف في الأرض المصرية في تلك الفترة، واستسلام الأهالي المؤسف لكثير من الأمراض الاجتماعية، وخاصة الخرافات، وما دام محمد علي باشا يستخدم جبروته وعنفه واستبداده لمصلحة البلاد وشعبها، فلا ضرر من ذلك، وهي النظرية نفسها التي قال بها الشيخ محمد عبده بعد ذلك، فيما عرف بنظرية «المستبد العادل»، وهو توصيف يحمل تناقضاً داخلياً، وكأننا أمام صورة من صور القول بـ «تربيع الدائرة»!
وهناك أيضا برينو، الذي استمرت خدمته المتميزة في التعليم العسكري حوالي 18 عاماً، أدار فيها مدرسة خاصة بالمدفعية في بلدة تسمى طرة بمصر، حيث حرص الرجل على أن تكون المدرسة على المثال نفسه الذي كانت عليه مدرسة الهندسة العسكرية في باريس، مما أتاح للقوات العسكرية في مصر أن تكتسب خبرة وعلماً متقدمين من خلال هذا الرجل، من أتباع سان سيمون.
وتتعدد مجالات التطوير والتحديث وتتنوع، على أيدي أتباع سان سيمون في مصر، حيث أصبحت البلاد ساحة واسعة يعملون على أرضها وينفذون ما حلموا به، مما توافق مع أحلام حاكم كان من طراز فريد حقاً. 

مذهب جديد
فمن الأمثلة الأخرى لفرسان الإنشاء والتجديد، نجد هنري فورنل، الذي انشغل باحثاً عن المعادن، عبر مساحات شاسعة من الصحراء المصرية، وبراكس، الذي لعب دوراً متميزاً في بناء أسطول بحري لمصر، أعجب به محمد علي باشا أيما إعجاب. وتورنو، الذي اختص بأمر السكك الحديدية وهندستها. ودشارم، الذي أفاد مصر فوائد جيدة في مجال ما تخصص فيه، باعتباره متخرجاً في مدرسة الهندسة العسكرية بباريس، ألا وهو ما اتصل بمصلحة الطرق والكباري. 
ولم تتح الظروف بطبيعة الحال لكل أتباع سان سيمون المجيء إلى مصر لنشر كل ما يتصل بدعوته، لكن عدداً منهم استطاع أن يفيد ويخدم، وهو في محل إقامته بفرنسا، بسبل مختلفة.
وقد وصل التشيع لمذهب سان سيمون بين أتباعه إلى درجة تقديسه بعد مماته، فأقاموا كنيسة باسمه في فرنسا، ونظروا إلى الرجل باعتباره قد جاء بديانة جديدة هي الديانة الـ «سان سيمونية»، وهو ما يمكن ملاحظته فيما كتبه تلميذه الكبير أنفانتان من تعاليم قال فيها: إن سان سيمون قد أقام دعائم مذهب جديد. إن الأب قد استوحى ديانة جديدة، لقد ثقف سان سيمون أتباعه. إن الأب قد بعث أسرتنا إلى الحياة. لقد كان سان سيمون سيدنا بلا منازع.
لقد سحر الشرق هؤلاء الأتباع، حيث اعتبروه أرضاً بكراً يمكن لهم أن ينفذوا عليها ما فكروا فيه، خاصة أنهم تصوروه – أي الشرق – أيضاً عالماً يموج بالقيم الأخلاقية التي لم تلوثها بعض سلبيات التمدن الحديث، وكان التركيز، من بين بلدان الشرق، على مصر خاصة، فنجحوا بعض الشيء مع دولة محمد علي.
وقد استأثرت هذه المدرسة الفكرية الاجتماعية الفرنسية باهتمام باحث مثل د. محمد طلعت عيسى في أوائل خمسينيات القرن الماضي، فجعلها موضوعاً لأطروحته في الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة القاهرة، وشغل موقع عضو هيئة تدريس بقسم الاجتماع بآداب القاهرة، وطبعت رسالته في كتاب عام 1957 برعاية د. محمد عبدالقادر حاتم، الذي كان نائباً لرئيس الوزراء للثقافة والإرشاد، في ذلك الوقت ■