متحف " بيت البنات " ذاكـــرة المــــرأة الإماراتيـــــة

متحف " بيت البنات " ذاكـــرة المــــرأة الإماراتيـــــة

 في قلب المركز الاقتصادي القديم لإمارة دبي يقع متحف المرأة بمقتنياته الفريدة ووثائقه النادرة، ولكن ماذا يعني أن يكون للمرأة متحف؟ وأي دلالة يحملها هذا المتحف في حالة المرأة الخليجية والإماراتية على وجه الخصوص؟

 

للمرأة متحفها في دبي
إن المتاحف، بلا شك، هي الذاكرة المرئية للشعوب، وذلك لما تحويه من مقتنيات وشواهد وآثار تعيد زائرها إلى أزمنة غابرة لكنها، لا جرم، حاضرة، وهي بذلك تحفظ للشعوب ماضيها حتى تتواصل الأجيال المتلاحقة وتتزود من زاد تجاربها وفيض مدادها، ولا تبتر عن جذورها وأصولها. 
والمرأة في المجتمع الخليجي تتمتع بمكانة كبيرة وتسهم بفاعلية في تحقيق النهضة المجتمعية، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة، بيد أن الجهود النسوية لم تكن وليدة اللحظة الراهنة أو حتى لحظات الحداثة التي تحققت للإمارات الخليجية في النصف الثاني من القرن العشرين بعد اكتشاف الثروة النفطية؛ بل تمتد إلى زمن الشقاء، زمن الغوص والبحر والرحلات التي كانت تمتد شهوراً تسرق فيها رجال الخليج من وجودهم الاجتماعي لتُنعم عليهم بقليل من الدراهم التي لا تفي بالمطلوب، مما يستدعي العودة مرة ومرات أخرى إلى البحر بما يحمله من مخاطر وآمال. 
وكانت المرأة آنذاك تقوم بدورها ودور الرجل الغائب، متحملة مشاق الحياة وشظفها، بل عبوسها وقترها في كثير من الأحيان، فحق لها أن يحفظ لها دورها وألا يضيع في زحمة الحياة اليومية المعاصرة في ظل كثافة التقنية والآلة والحداثة التي تسم راهننا، ويكاد يغيب عن الذاكرة الجمعية تاريخ مشرّف ملؤه العظة والعِبَر ومثقل بالتجارب والخبرات المتراكمة.  

بيت البنات
مستعينين بالتكنولوجيا الحديثة التي توفرها الهواتف المحمولة الذكية وببرامج الخرائط التي باتت تلعب دور الدليل والمرشد السياحي، قصدنا متحف المرأة الموجود في «بيت البنات» في أحد ممرات سوق الذهب الشهير في منطقة «ديرة»، لم نتُه في أزقة السوق على كثافة زوارها، بل وصلنا مباشرة إلى المتحف برغم وجوده في عمق السوق من دون علامات أو لافتات، إنها التكنولوجيا. لكن ما قصة «بيت البنات»؟، ولماذا تم اختيار هذا المبنى ليكون مقرا للمتحف؟ 
لذلك الأمر قصة بالفعل، كما سائر أحداث الحياة، فما الحياة سوى سلسلة من القصص المتتابعة، المبنى عبارة عن منزل قديم يعود إلى منتصف القرن الماضي وسط حي مليء بالسكان، وكان أهل هذا الحي يطلقون على المنزل «بيت البنات»، نظراً إلى أن من يسكن البيت هُن مجموعة من النساء غير المتزوجات. 
وعمداً تم اختياره ليتوافق مع رؤية المتحف وأفكاره، بحيث يكرّس المتحف جهوده للتعريف بدور المرأة الإماراتية وتاريخها ومساهماتها الثقافية والحضارية والفنية، ودورها في كل جوانب الحياة، كما يقوم المتحف، بوصفه مركزاً لتعزيز دور المرأة وبيان حيوية هذا الدور، بإبراز عطاءات المرأة في اللحظة الراهنة. 

غرف مبنية 
دلفنا سريعا إلى البيت/ المتحف متجاوزين بوابته الخشبية الجميلة، فكان أول ما وقعت عليه أنظارنا جدارية على يمين الممر الضيق الفاصل بين باب البيت وحجراته، وعنوان الجدارية هو «ذاكرة المكان»، اسم على مسمى كما يقال، حيث تجد في هذه اللوحة مجموعة من الصور جُمعت من ألبومات خاصة، وتحمل إلى جانب صور الشخصيات بعض الوثائق المهمة والمعبرة عن سياقها الزمني ولحظتها التاريخية. 
وما إن التفتنا يساراً حتى كنّا عند باب حجرة صغيرة، وهي «جاليري بنات بوغانم»، مخصصة لعرض اللوحات الفنية الممكن اقتناؤها وشراؤها كنشاط يهدف إلى دعم المتحف، ويتضمن عدداً من اللوحات التاريخية النادرة وبعض المقتنيات القديمة كقطع الأثاث وبعض الأدوات، كما يتضمن بعض الأعمال الفنية المعاصرة لعشاق الفنون التشكيلية. 
بيت البنات هذا يضم ست غرف مبنية على الطراز القديم، إضافة إلى بعض الزوايا موزعة على ثلاثة أدوار. 
وبعد أن تأملنا للحظات في اللوحة التذكارية، اتجهنا إلى القاعة الرئيسة، فوجدناها قاعة واسعة تغطي تاريخ المرأة الإماراتية من جوانب عدة، سواء الجانب السياسي أو الاقتصادي أو التعليمي. بدأنا بالتعرف على تفاصيل كل ركن في القاعة؛ فوجدنا في الركن التعليمي مقتنيات ثمينة تعود إلى مراحل مختلفة مرت بها الحركة التعليمية في الإمارات، من التعليم التقليدي إلى التعليم شبه النظامي ثم التعليم النظامي، فالتطور في مسيرة تعليم الفتيات في ظل الدولة الاتحادية.
 أما ركن الاقتصاد، فيكشف عن النشاط الاقتصادي المميز للمرأة الإماراتية منذ القدم واستمراره حتى اللحظة الراهنة بذكره أسماء أهمّ سيدات الأعمال الإماراتيات.  
وأخيرا في الركن السياسي، لفت انتباهنا الدور الرائد الذي لعبته المرأة الإماراتية في الحياة السياسية في مراحل مبكرة من تاريخ الإمارة، حيث تشير الوثائق إلى تأثير بعض الشخصيات النسائية اللاتي يتمتعن بقوة الشخصية والحكمة في مسار القرار السياسي لأحداث سياسية مختلفة.    
كما تحتوي القاعة على وثائق ومقتنيات ترسم للناظر صورة حية لماضٍ جميل، حيث تصادف أدوات الخياطة المستخدمة قديماً والأزياء الشعبية إلى جانب الأدوات المنزلية، وكذلك الوصفات العشبية الخاصة بعلاج بعض الأمراض في الطب الشعبي القديم.
ومن المقتنيات اللافتة دفاتر وكراسات قديمة كانت توزع على طلاب المدارس وعليها صور لحاكم دولة الكويت الحادي عشر الشيخ عبدالله السالم الصباح، وحاكمها الثاني عشر الشيخ صباح السالم الصباح، وذلك خلال إشراف دولة الكويت على التعليم في دولة الإمارات قبل عام 1975، الأمر الذي يكشف عمق العلاقة بين الإمارتين منذ القدم، إلى جانب كراسات عليها صورة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، يرحمه الله. 
يتضمن الطابق الأرضي من المتحف أيضاً ركناً يدعى «قلب المكان» فيه توثيق لحياة عوشة بنت حسين بن ناصر، وهي إحدى الشخصيات النسوية الفاعلة في تاريخ إمارة دبي، وكانت تتمتع بحنكة وذكاء وانفتاح على المستقبل، ساعدها في ذلك العقلية التنويرية التقدمية لوالدها حسين بن ناصر، وهو شاعر وتاجر لؤلؤ أبى إلا أن تتعلم بناته وإن كان على يد معلمين رجال، بالرغم من المجتمع الإماراتي والخليجي المحافظ بعمومه في بداية ثلاثينيات القرن الماضي. 
في المتحف أيضاً محل أم دويس للعطور والهدايا، الذي يتيح للزائر والسائح شراء أطيب وأزكى العطور ودهن العود الفاخر.
صعدنا بعد ذلك إلى الميزانين، فكانت فيه قاعتان أنيقتان أولاهما «جاليري بيت البنات 1»، وهي مخصصة للأعمال الفنية والإبداعية للمرأة الإماراتية، بينما أعدت القاعة المقابلة «جاليري بيت البنات 2» لاستقبال الأعمال والمعارض الفنية للفنانين من خارج الإمارات، وكان أول معرض أقيم فيها يحمل عنوان «الشيخ زايد وتمكين المرأة».
وللأطفال نصيب في هذا المتحف، إذ خصص لهم مكان تقام فيه أنشطة مختلفة تسعى إلى التعريف بتراث ومساهمات الآباء والأجداد في بناء وطنهم وتحقيق نهضته، وسميت الغرفة المخصصة لذلك بركن «فاطمة بنت الزين للأطفال»، وبنت الزين هي مطوّعة (معلمة) من آخر جيل للمطوعات، والمطوعات في الخليج هُن المعلمات اللاتي يدرسن الفتيات الصغيرات في بيوتهن وتحفيظهن القرآن الكريم.  

أبيات شعرية على رمال الصحراء
قاعة الشعر في الطابق الأول لها قصة هي الأخرى، ففيها يلتقي الجمال والإبداع بأبهى حلّة، فعندما ترتدي المعاني الأصيلة ألفاظاً جميلة بتراكيب متناسقة بديعة لتولّد لنا شعراً بليغاً، وعندما تنقش هذه النصوص الشعرية النبطية بالخط العربي الفاتن على تموجات من الديكورات المصممة على هيئة موجات لرمال الصحراء، فأنت إذن في قاعة ديوان عوشة بنت خليفة السويدي، الشاعرة الملقبة بفتاة العرب، وبرغم أن القاعة ليست بذلك الحجم الكبير، فإنها بتصميمها الملتف على متحف صغير بداخلها اتسعت لعرض عدد كبير من الأبيات الشعرية. 
وقد تضمن المتحف الصغير بعض مقتنيات الشاعرة، إضافة إلى إتاحة الفرصة للزائر ليستمع إلى القصائد من خلال جهاز الكمبيوتر اللوحي المثبت داخل القاعة. 
فتاة العرب شاعرة يشهد لها بموهبتها وريادتها الشعرية في الشعر النبطي، كما عرفت بمساجلاتها الشعرية مع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولها قصائد في المدائح النبوية.
 تقول في إحدى قصائدها: 
ولو شرع الهوى حكمه عدولي 
تشاكينا وفلّينا الشكايا
لكن الحب له قاض جهولي 
فلا تجيبه ذلول ولا رشايا
إذا ونّيت بي شمت العذولي 
وشاب القلب من قول الوشايا
يخادعني المغفّل المهبولي 
ولوّام يبثون الدعايا 
وأنا العبرات في عيني تجولي 
إلى طرّت على بالي طرايا 
أما في الجانب الآخر للطابق نفسه، فثمة مركز للدراسات فيه عدد كبير من المصادر والمراجع والكتب والمجلات يتاح للزائر الاستفادة منها بالاطلاع والقراءة، ويحتضن المركز الأعمال الإبداعية للأقلام النسوية، حيث إنه يقوم بنشاط النشر، إذ أصدر عدداً من الإصدارات منها الموسوعة الكاملة للشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي، وكتاب المتحف وغيرهما، ويعمل المركز على مبادرة طموحة تمثل أول عمل توثيقي شامل للتاريخ الاجتماعي لدولة الإمارات العربية المتحدة، وللمرأة الإماراتية على وجه الخصوص؛ ألا وهي موسوعة المرأة الإماراتية.

مبادرة فريدة
في الوثائق النفيسة التي تسكن المتحف وقائع وأحداث وروايات تروي حياة ملؤها النضال والمثابرة، أسهمت فيها المرأة الإماراتية بنصيبها لتحقيق النهضة المعاصرة لإمارة دبي. والحفاظ على هذا التراث كان الشاغل الذي يشغل د. رفيعة غباش مؤسسة المتحف الذي أرادته مخزوناً زاخراً للذاكرة يمد الأجيال القادمة بمنجزات الآباء والأجداد.
د. رفيعة، أستاذة الطب النفسي، هي أول امرأة عربية تحصل على منصب مديرة جامعة إقليمية بترؤسها جامعة الخليج العربي في البحرين. وكان اختيارها لمكان المتحف متعمداً لجذب الناس إلى هذا الموقع التراثي الجميل من أجل إحيائه وبث الروح فيه مرة أخرى، نظراً إلى القيمة التاريخية التي يتمتع بها. 
وقد أسفرت جهودها عن هذا المتحف البديع الذي يعد الأول من نوعه على مستوى الوطن العربي، ومن المتاحف القليلة المخصصة للمرأة على مستوى العالم، وقد تم افتتاحه في عام 2012. 
ويبدو أن فكرة المتحف بدأت تعرف انتشاراً؛ إذ من المتوقع أن يتم افتتاح متحف للمرأة المغربية في عام 2018.  

دور رائد
لا ينحصر دور المتحف في الجانب التأريخي والتوثيقي فقط، بل يمتد إلى ممارسة دور فاعل في الحياة المعاصرة للمرأة، حيث تقام فيه سلسلة من الندوات والمحاضرات، إضافة إلى ورشات العمل ضمن جهد إدارة المتحف في البحث عن سبل التقدم والنهوض بالقضايا المجتمعية، لاسيما أن المتحف عبارة عن مبادرة صادرة من نشاط المجتمع المدني، ويعبر في ذاته وفي حراكه الثقافي العام عن حيوية هذا المجتمع. 
تساءلنا في البداية عن دلالة وجود مثل هذا المتحف، والحق أن متحفاً للمرأة هو متحف لمجتمع بأسره، ولا يقتصر على المرأة إلا من حيث الشكل فقط؛ إنه متحف لتاريخ الإمارة الزاخر في كل جوانبه، ولكن، هذه المرة، بعيون المرأة الإماراتية، لتزيح عن الأذهان الصورة الملتبسة في بعض الأحيان والسلبية في أحيان أخرى، التي ترى في المرأة الخليجية وجوداً مهمشاً وكماً مهملاً، ولتعيد إلى هذه المرأة مكانها الصحيح بوصفها كياناً فاعلاً ناشطاً ، بل وناهضاً بمجتمعه في الماضي قبل الحاضر ■

 

متحف الشاعرة فتاة العرب

 

بيت البنات ... قصة من قصص الحياة

 

مركز الدراسات ينظم سلسلة من الندوات والمحاضرات على مدار العام

 

من مقتنيات المتحف نسخة قديمة من القرآن الكريم

 

مدخل المتحف في أحد أزقة سوق الذهب في منطقة «ديرة»

 

أناقة المرأة الخليجية في الزمن الماضي