الفنان ضياء العزاوي: ما أنتجتُه بعد رحيل زوجتي امتنان لحياة جميلة معها

الفنان ضياء العزاوي: ما أنتجتُه بعد رحيل زوجتي امتنان لحياة جميلة معها

الفنان المبدع ضياء العزاوي ذهبنا لنتحاور معه حيال النشأة والتكوين الاجتماعي اللذين قدّم لنا فيهما فهمه واستذكاره للحياة البغدادية القديمة، متناولاً ذلك باستذكار أهم المحلات العريقة، وهي «الفضل» التي تعج بقراء ومحبي المقام العراقي والاهتمام بالروابط الأسرية والاجتماعية، وقد لا يكون غريباً على العزاوي أن يفتح لنا قلبه بكل مصداقية، لنتطرق إلى ذكريات الأب والأم وطبيعة تعاملهما معه، كل ذلك يقدمه لنا عبر محور نشأته الاجتماعية بعيداً عن أعماله التي أذهلت الكثيرين.

 

-يراودني سؤال حول معرفة ذاكرتك، ما الذي تحتفظ به من أيام الطفولة؟ 
- كانت طفولة عاجة باللعب والانشغال المتنوع بحياة المحلة البغــدادية، حـــيث وفرّت قرب المجاورة الكثير من الصداقات السريعة كامتداد لعلاقات المدرسة.
تعلمت في مدرسة التطبيقات الابتدائية، ثم المتوسطة في مدرسة النعمانية، وبعدها الثانوية المركزية إحدى أعرق المدارس البغدادية، أتذكر كثيراً الدفاتر الصغيرة الذي كان يرسمها أمامي أحد أقاربي، وهو الرسام خليل العزاوي، كما كنت أتوقف عند دكان خالد الرحال المملوء بالتماثيل، لعل دراستي فيها هي التي قادتني مبكراً للرسم نتيجة اهتمام مدرس الرسم الأستاذ إبراهيم، لا أعتقد أنه كان رساماً متميزاً، بل كان أستاذاً تربوياً بحق، حيث دلني على أهمية الرسم مما حولي بديلاً لاهتمامي في حينها بنقل الصور من المجلات المصرية، كما شجعني على استخدام الألوان المائية أكثر من قلم الرصاص، إلى جانب الرسم، كنت كثيراً ما أستخدم «السيم المعدني اللين» لبناء سيارة أتباهى بها بين صحبي، كما كنت بارعاً في عمل الطائرات الورقية السريعة التي غالباً ما كنت أخاصم أولاد الجيران على الفضاء المحدد لكل منا.

مؤثرات الأزياء الشعبية
-أتساءل عن طريقة الحياة التي تتذكرها داخل البيت، هل هناك صرامة في التعامل من الأب، أم هناك طريقة محببة جعلتك تتمسك بأبيك؟ 
- كانت الحياة عادية بشكل ما، لم يكن والدي صارماً، لكنه كان حريصاً في الوقت نفسه على دفعي إلى الدراسة، مع قبول انشغالي بالأعمال اليدوية، ومنها الرسم عندما أنتهي من إكمال الواجبات المدرسة المطلوبة، فوالدي لم يكن متعلماً حال والدتي، لكنهما كانا جادين في توفير الظروف الطبيعية لي ولإخوتي الآخرين.
-رأيت لك عملاً مجسماً تظهر فيه صورة والدك وهو في زيه التراثي، هل يمكن القول إن مؤثرات الأزياء الشعبية في رسوماتك جاءت من هنا؟
- العمل الذي نفذته حينها هو إقامة نوع من العلاقة التاريخية بين لباس الرأس للملك السومري كودياً، ولباس رأس والدي اليومي، إنه تذكير بالبعد الحضاري لمجتمعنا، وفي الوقت نفسه تحية له.
أما المؤثرات التراثية فهي نتاج لعملي مدة سنتين في الإشراف على تهيئة متحف الأزياء والإثنوغرافيا في بغداد، يومها كان عليّ التجول في مناطق مختلفة من العراق جنوباً وشمالاً من أجل التوثيق وجمع المواد ذات العلاقة بالموروث الشعبي، اندهشت بما يعرف بـ «إيزار السماوة» العاجّ بالرموز والأشكال، وفي الوقت نفسه قادني هذا الاندهاش إلى الحرص على التعرف على الملابس في القرى المسيحية شمال العراق، وخصوصاً ما يحيط بالموصل بشكل أساسي، إلى جانب هذه المفردات كانت الأعمال الفخارية لحيوانات متخيلة من مدينة طوزخرماتو محرضاً على استخدامها رموزاً في بعض لوحات نهاية الستينيات.
-أيضاً أود معرفة طريق تعامل والدتك. هل حبّبت إليك الفن، الموسيقى، هل غرست فيك شيئاً من الأعراف والتقاليد الاجتماعية العريقة للمجتمع العراقي؟
- كما ذكرت سابقاً، لم تكن والدتي متعلمة، لكنها كانت تمتلك خصائص اجتماعية هائلــــة، كان همــــها الأساسي ألا أضـــيّع الوقــــت بعد الانتهـــاء من الدراسة، التي كانت بالنسبة إليها وقت جدّ لا تتسامح في إضاعته.
خارج هذا الوقت، تسامحت معي عندما كنت أرسمها وهي جالسة مع إخوتي عصراً لشرب الشاي، كما كانت تبدي بعض الإعجاب بين الحين والآخر بالرسوم التي كانت، في الغالب، تنتهي عند الأستاذ إبراهيم في مرسم المدرسة.
-يصح لي القول إن من أسرتك (امرأة... أمك... جدتك) كانت تقص عليك الحكايات الشعبية والأساطير، فحملت ذاكرتك سيلاً من تلك التصورات والحوادث، فأصبحت فيما بعد سمة في عملك الفني؟
- لا أتذكر شيئاً من هذا القبيل، إن اهتمامي بالأساطير والتراث الشعبي هو أحد الحلول لما كنت مهووساً به مع مثقفي جيلي، وهو الهوية في الفن متلازماً مع ما وفرته لي دراستي للآثار وعملي بالمتحف في الوقت نفسه.
-أي المحلات البغدادية أقرب إلى وجدانك. وأين كانت سكناك فيها؟ 
- منطقة الفضل في بغداد، ولدت في محلة البارودية من محلات الفضل، وعشت فيها مع عائلتي حتى مرحلة الدراسة المتوسطة، ومازلت أتذكر دكاناً مملوءاً بالأعمال النحتية في منطقة الصرافية غير البعيدة عن بيتنا، كان هذا الدكان يعود إلى الفنان خالد الرحال، كانت هذه المحلة إحدى المحلات التي عاشت فيها عائلتا جواد سليم والفنان عبدالقادر الرسام.

جيل ذهبي
-ألا تبدو طريقة التعليم التي عشتها في المدارس الابتدائية ذات نمط من صيغة حضارية لو قيست بما تراه اليوم من جهل وتصرفات خارجة عن الالتزام؟ 
- كانت الدراسة لجيلي نتاج جيل أسميّه بـ«الذهبي» ضمن تاريخ العراق، فالدولة كانت مدنية بكل المواصفات، حيث كان المدرس ذا تخصص مهني، سواء كان من داخل العراق أو حصل على تخصص خارجي، جاداً في توفير كل الوقت لتعليمنا، لم تكن منّة منه، بل خصيصة اجتماعية لها قيمتها، وغالباً ما تكون محط تقدير واحترام.
كان لتأثير مدرس الرسم في «الثانوية المركزية» عامل أساسي لانشغالي بالرسم، لا أتذكر أنه كان رساماً، لكنه كان أستاذاً مخلصاً لمهنته، عبر هذا الإخلاص وجدت بداية طريقي.
-في أيام المراهقة، ما الذي كنت تسمعه من الموسيقى، هل استهواك المقام العراقي وقراؤه، أم كنت ميالاً إلى سماع الفن الغربي؟
- كنت ميالاً للمقام، وخاصة الغزالي، إلى جانب ما كان يشاع من أغان لمطربين عراقيين أمثال رضا علي وغيره، وبعدها أصبح للكمبنجي مكانته الخاصة، متداخلاً مع الغناء الجنوبي الذي تعرفت عليه عن قرب عندما عملت أكثر من عام للإشراف على تهيئة متحف الناصرية للآثار، وفيما بعد تعرفت على عديد من المبدعين مثل سلمان شكر، منير بشير وغيرهما. أما الموسيقى الغربية فقد جاءت مع معيشتي في لندن، وبمرور السنوات أصبحت ميالاً لسماع موسيقى الجاز وغناء البلوز والغجر الإسبان.
-مازلت وفياً لزوجتك بعدم الاقتران بغيرها، كيف ترك رحيلها من أثر عميق فيك؟ هل بدت تلك الأيام أشد وطأة على نفسيتك؟
- تعرفت على زوجتي في أول معرض أقمته بلندن، كانت سويدية الأصل، لم تشوهها صورة العربي الشائعة في أوربا، لربما كان ذلك بسبب عزلة بلدها، طوال السنوات التي عشناها وتعرفها على المنطقة العربية كمكان أو عبر عديد من الأصدقاء، بحكم سفرها معي، توافرت علاقة فيها كثير من الاحترام لتاريخي كعربي ولانشغالي المستمر بالقضايا العربية، وبشكل خاص فلسطين.
في الوقت نفسه، قدمت لي دعماً غير محدود وتحملت كثيراً من المتاعب نتيجة لظروف العراق التي غالباً ما انعكست بشكل من الأشكال على حياتي وعلاقاتي الاجتماعية.
لقد كان لرحيلها تأثير خفيّ بالوجع والوحدة، وربما كان انصرافي الكلي وغير العادي إلى عملي، وعلاقة الصداقة مع ابنتي تالة التي حملت كثيراً من خصائص والدتها، هما ما أنقذني من الإحباط والابتئاس. إن كل ما أنتجته بعد رحيلها نوع من الامتنان لما وفرته لي من حياة جميلة ■

 

جدارية ضياء العزاوي عن صبرا وشاتيلا... إبداعات فنية بالحبر الصيني