عن الفساد والعباد
تعالت صيحات الشعوب في الدول العربية لمكافحة الفساد الذي يستشري في أروقة أجهزة الدول ومؤسساتها، حتى انعكس سلباً على أداء الموظفين وأربك عطاءهم، فأثّر في شفافية التعامل بين تلك الأجهزة وبين المواطنين. وما إن يستشر الفساد في أي مكان فلا سبيل إلى الإصلاح سوى الإبطال، عن طريق مكافحته بأنواعه وأطيافه وأساليبه ومذاهبه، لكي لا يتفاقم فيصبح آفة مجتمعية.
إنّ الإنسان إن فسد طغى، وإن طغى فليس يسمع أو يرى، لينعكس هذا الفساد فيهلك الحرث والنسل، ويشوّه النفس والعقل، ويلوث الهواء والماء، ويزري بالعيش والحياة.
ليس الفساد بأن يكون المرء مفسداً مالياً أو إدارياً أو سياسياً فقط، بل الفساد يشمل تشجيع السلوك الخاطئ والتعامل المنحرف والتكاسل والتراخي عن إنجاز العمل الموكل إلى الفرد أو الجهاز الخدمي في أي دولة. وإن ساد الفساد في أي مجتمع، فسرعان ما يصبح هذا الفساد ظاهرة، ويتعامل الأفراد معه وكأنّه أمر واقع أو نتيجة حتمية لطبائع البشر أو لأسلوب حياة. ومع مضي الوقت يصبح غير مستنكر، ليتخذ أشكالاً تغير من تركيب فئات المجتمع وطبقاته، فتتبعثر فيها الطبقة الوسطى، وهي الطبقة العاملة المنتجة من الصنّاع والعمال المهرة والمزارعين المحترفين، لتنحدر عناصرها إلى مستوى الطبقة الفقيرة، فيكون المجتمع أقل إنتاجاً وأكثر استهلاكاً.
ولعل الصعوبة في مكافحة الفساد ترجع أساساً إلى تلك الأقنعة البريئة المختلفة التي تختفي وراءها الوجوه القبيحة المتخلفة، فالجرائم التي تُرتكب بالتعدي على المال العام وتلويث البيئة والغش في أساسات البناء والعمران والبُنى التحتية والجسور والأنفاق للمدن، كل ذلك يكون باسم الترشيد والتوفير وسرعة الإنجاز. وعندما تنهار تلك الصروح يتنصل المفسدون ويذهب الأبرياء ضحية لذلك الفساد، قال تعالى: {وَإذَا قيل لهم لا تُفسِدُوا في الأَرضِ قَالوا إنّمَا نحنُ مُصلِحون} (سورة البقرة - 11). وعلى الرغم من سن الدول قوانين عامة وتشريعات خاصة تنص على مكافحة الفساد ومعاقبة المفسدين، فإننا نلمس عدم فاعلية ذلك لأسباب من أهمها تجاوز أولئك المفسدين لتلك القوانين والعبث بها من خلال ثغرات فيها، أو العمل على إفساد من يتولى إجراءات الرقابة والتنفيذ من خلال الرشوة أحياناً، والتهديد أحياناً أخرى، واستغلال المنصب القيادي في الدولة من أجل منافع شخصية يدخل فيها المال العام والمحسوبية كجزء من الصلاحيات الخاصة لمتقلد المنصب القيادي.
ولعل الفوضى المتعمدة في الأجهزة الإدارية الحكومية تغري القطاع الخاص الفاسد باستغلال الفرص للفوز بمشاريع ذات هامش ربحي كبير عن طريق المناقصات أو الممارسات الحكومية. إنّ الفساد الممنهج والجرائم المالية المدروسة جيداً من واقع الثغرات القانونية يجعلان الأجهزة الأمنية والمحاسبية عاجزة عن إثبات التهم على المفسدين وحماية الشرفاء والمصلحين الذين قد يُتهمون قبل غيرهم بالفساد. عند ذلك يتبدد الأمل بالإصلاح، ويتسرب اليأس في قلوب الصالحين من أفراد المجتمع، وتُفسّر الرشوة بأنها «عمولة» أو كسب مشروع لعمل المرتشي، وبذلك يكون التعدي على أملاك الدولة وأموالها سمة لأولي الثروة والنفوذ. من واقع هذه الحال يبدأ العامة من الشعب بتقبل الفكر الفاسد، فيتحايل بعضهم على دفع مستحقات الدولة لما تقدمه من خدمات أو ما تطلبه من رسوم أو ضرائب، وتتزايد طلباتهم وإلحاحهم على الدولة لزيادة الأجور أو دعم السلع، وتتناقص لديهم القيم الفردية واحترام القانون. وعندما تعجز الدولة مالياً وسياسياً يؤدي ذلك إلى انخفاض في إنتاجية الفرد، وزيادة نسبة البطالة، ويسود الكسل ويشح العمل، ولا يبقى سوى التذمر والتململ اللذين يؤديان بالضرورة إلى انتفاضات وثورات، شهدتها بعض الدول العربية أخيراً. ولعل أجهزة الرصد الرقابي والمحاسبي وجهات تنفيذ الأحكام والقوانين في أي دولة تحدّ من الفساد، ولكنها لا توقفه ولا تكافحه.
ومهما يكن عمل تلك الجهات دؤوباً ودقيقاً، مما يعني بذلها كثيراً من الجهد والوقت، فإنّ أصل الفساد يقوم على التخريب وانتهاز الفرص في حالة الفوضى، فمحاربة الفساد ومكافحته لا تكون إلا نتيجة جهود شعبية مخلصة لإنقاذ الأوطان. وعلى المستوى العالمي، سعت منظمة الشفافية الدولية إلى دراسة وقياس نسب الفساد في دول العالم، وقامت تلك الدراسات على ما هو متوافر لديها من تقارير وإحصاءات واستبيانات صادرة من منظمات رقابية دولية، واستعانت أيضاً بالصحف والمجلات المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي. وبناء على ذلك وضعت مقياساً عشرياً لقياس الفساد، تبين من خلاله أن الدول النامية هي أكثر الدول فساداً (تقرير Transparency International 2003).
على إثر تفشي الفساد، سعت الدول العربية إلى دحر الفساد الإداري والمالي، حيث يقوم «المفتش العام» في العراق بالتحري ومتابعة الفساد ومحاربته من خلال آليات وصلاحيات واسعة بين يديه تؤهله لمعاقبة المفسدين. أما في مصر فإن التقارير الرسمية للجهاز المركزي للمحاسبات وضعت بشفافية تامة أمام رئيس الدولة الذي شكل لجنة لتقصي الحقائق ورفع التقارير الدورية لعرضها على البرلمان، تلك التقارير التي نوقشت على المستويين الرسمي والإعلامي. أما في الكويت، فإنّ إنشاء هيئة مكافحة الفساد فيها يعني الحرص الدائم والمستمر على محاربة الفساد بأكثر من سلاح، فالرقابة الشعبية التي يمثلها مجلس الأمة سلاح ضد الفساد، وديوان المحاسبة فيها لا يكل ولا يمل من التحري عن المخالفات المالية في جميع أجهزة الدولة، هذا بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية والإدارية والقضائية التي تقوم بتنفيذ الأحكام.
الفوضى الخلاقة... مصطلح فاسد
منذ بداية الحرب الأهلية في أفغانستان، وفي ثمانينيات القرن الماضي، استغل تجار المخدرات الوضع المرتبك لتهريب الأفيون عبر منافذ اعتبروها طريقاً لوصول تلك المخدرات إلى العالم الغربي. ولا نرى للمصادفة مكاناً في تصدع خطوط الأمن أو التفجيرات العشوائية، التي أربكت الدول وأقلقت الشعوب لتعم بها الفوضى ويخبو فيها الأمن والأمان، إلا رصفاً غير شرعي لطريق تهريب المخدرات عبر بعض الدول العربية، لتكون محطات «ترانزيت» يُنقل من خلالها الأفيون إلى البحر المتوسط ومنه إلى الدول الأوربية. ثم تأتي الثورات لتزيد طين الفوضى بلة، فتُهرّب الأسلحة وتنتشر وتصبح لها سوق سوداء، ثم تتفاقم الأزمات لتصبح حروباً أهلية، فيُهرّب النفط ليتدنى سعره إلى هاوية لا ينتفع من استقراره بها سوى الفاسدين.
هنا نستطيع أن نقول إن الفساد ليس محلياً أو إقليمياً، بل عالمياً، وبعض الدول الكبرى تسعى، وبتخطيط دقيق، إلى نشر الفوضى والفساد، وتشجع المفسدين والفوضويين، من أجل إخضاع الدول لسياساتها. ومن سياسات الإخضاع الواضحة للدول وشعوبها أمران، هما التجويع والتسمين! أما سياسة تجويع الشعوب فتقوم على أساس تنضيب ثروات الشعوب وتجفيف منابع الرزق، ليصل دخل الفرد إلى أدنى من مستوى الفقر، وبانتشار الفقر تنتشر الفوضى والجرائم وتُخترق القوانين.
أما سياسة التسمين، أو ما نسميه سياسة تسمين العجول، فتقوم على توفير كل الحاجات والمستلزمات، الأساسية منها والكمالية لأفراد الدولة، وتلبية جميع احتياجاتهم، ويكون ذلك بأسلوب مدروس وممنهج يحرص فيه على نشر الفساد والجهل، من خلال إشغال الشباب بنوافذ المتع واللذات، وتشكيكهم بفائدة الأخلاق ومبادئ السلوك القويم، ووضع مناهج تعليمية هشة ومضللة تنأى بهم عن التحصيل والتحليل، لتصبح الطائفة الكبرى من الشعب «كالأنعام أو أضل سبيلا». من هنا يدب الكسل والتواكل في أفراد المجتمع، فيساقون كالقطيع، ليُذبح واحدهم بكل سهولة.
التربية والتعليم... مستقبل الأمة
من هنا، تتضح الرؤية بأنّ التعليم أمر ضروري في بناء الأجيال، من الشباب خاصة، فهم المصدر الأساسي لرفعة دولهم والثروة الدائمة للتنمية الحقيقية. وانطلاقاً من أنّ التعليم منهج فكري وتربوي يهدف إلى توسيع المدارك لفهم العلل والنتائج، وأنه مرتبط أولاً وأخيراً بالأخلاق وسلوك المجتمعات، فلابد لنا أن نفرّق أولاً بين العلوم الطبيعية: كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها مما ينطبق عليها المنهج التجريبي، وبين العلوم الإنسانية: كاللغة والدين والفلسفة وما شابه ذلك من علوم. ويتفق المتخصصون على أنّ العلوم الطبيعية يصلح تدريسها لكل الشعوب والأمم، أما تناول العلوم الإنسانية في مناهج التدريس فيختلف بين مجتمع وآخر، كل ينظر إليها من نافذته، الاجتماعية والتاريخية والدينية. وعندما يدور الحديث عن تطوير المناهج التعليمية في مجتمعاتنا العربية، يدور معه الخلاف حول التقديس والتدنيس، والثوابت والمتغيرات، والعادات والتقاليد والأخلاق، وعدم المساس بالدين معتقداً وعبادة.
وبين هذا وذاك يحار متخذ القرار، وعادة ما يتخذ من السلامة درباً ليرضي الجميع، وفي أغلب الأحيان يختار جانب الأقوى! وعندما تتغير مراكز القوى تتغير المناهج التعليمية، فما تعلمناه غير ما تعلمه أبناؤنا وأحفادنا. نعم، فاليوم غير الأمس، ولكن تظل الحقائق العلمية بدقائقها بعيدة عن هذا الخلاف، فنظريات الضوء والصوت أكدت من دون شكّ أنّ عين الإنسان لا تشع ضوءاً، وإنما تستقبل الضوء ومن ثم الصورة، لتصل إلى المخ مقلوبة ومعكوسة، فيقوم الدماغ بتصحيحها ليراها المرء كما تكون في حقيقتها.
تلك النظرية التي أشار إليها الحسن بن الهيثم (ت. 430 هـ/1040م)، فعارضه رجال دين عصره وكفّروه، لاعتقادهم الخاطئ بأنّ العين تلقي شعاعاً تخريبياً هداماً، وربطوا ذلك بالحسد، واستندوا في ذلك على فهمهم، أو قل فهم أهل عصرهم لبعض النصوص من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف. واليوم، صارت تلك النظرية حقيقة علمية، فماذا نحن فاعلون؟ ألا نزال نخشى من شعاع العيون؟! من أجل ذلك نقترح على القائمين على وضع المناهج الدراسية أن تكون عنايتهم وضع المناهج للعلوم الإنسانية بما يتوافق والفهم العصري، أما العلوم الطبيعية فلنأخذها من الذين تفوقوا علينا في هذا المجال أو ذاك، وليس علينا إلا ترجمتها وتدريسها بالأساليب نفسها التي وُضعت عليها. لعلنا ننجح في تربية وتعليم جيل لا يضنيه الشكّ أو تأخذه الريبة، جيل واثق قادر على العمل والبناء ■