عن الفساد والعباد

عن الفساد والعباد

تعالت‭ ‬صيحات‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬لمكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬يستشري‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬أجهزة‭ ‬الدول‭ ‬ومؤسساتها،‭ ‬حتى‭ ‬انعكس‭ ‬سلباً‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬الموظفين‭ ‬وأربك‭ ‬عطاءهم،‭ ‬فأثّر‭ ‬في‭ ‬شفافية‭ ‬التعامل‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأجهزة‭ ‬وبين‭ ‬المواطنين‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يستشر‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬فلا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭ ‬سوى‭ ‬الإبطال،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬مكافحته‭ ‬بأنواعه‭ ‬وأطيافه‭ ‬وأساليبه‭ ‬ومذاهبه،‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬يتفاقم‭ ‬فيصبح‭ ‬آفة‭ ‬مجتمعية‭.‬

إنّ‭ ‬الإنسان‭ ‬إن‭ ‬فسد‭ ‬طغى،‭ ‬وإن‭ ‬طغى‭ ‬فليس‭ ‬يسمع‭ ‬أو‭ ‬يرى،‭ ‬لينعكس‭ ‬هذا‭ ‬الفساد‭ ‬فيهلك‭ ‬الحرث‭ ‬والنسل،‭ ‬ويشوّه‭ ‬النفس‭ ‬والعقل،‭ ‬ويلوث‭ ‬الهواء‭ ‬والماء،‭ ‬ويزري‭ ‬بالعيش‭ ‬والحياة‭. ‬

ليس‭ ‬الفساد‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬مفسداً‭ ‬مالياً‭ ‬أو‭ ‬إدارياً‭ ‬أو‭ ‬سياسياً‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬الفساد‭ ‬يشمل‭ ‬تشجيع‭ ‬السلوك‭ ‬الخاطئ‭ ‬والتعامل‭ ‬المنحرف‭ ‬والتكاسل‭ ‬والتراخي‭ ‬عن‭ ‬إنجاز‭ ‬العمل‭ ‬الموكل‭ ‬إلى‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬الجهاز‭ ‬الخدمي‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬دولة‭. ‬وإن‭ ‬ساد‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجتمع،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الفساد‭ ‬ظاهرة،‭ ‬ويتعامل‭ ‬الأفراد‭ ‬معه‭ ‬وكأنّه‭ ‬أمر‭ ‬واقع‭ ‬أو‭ ‬نتيجة‭ ‬حتمية‭ ‬لطبائع‭ ‬البشر‭ ‬أو‭ ‬لأسلوب‭ ‬حياة‭. ‬ومع‭ ‬مضي‭ ‬الوقت‭ ‬يصبح‭ ‬غير‭ ‬مستنكر،‭ ‬ليتخذ‭ ‬أشكالاً‭ ‬تغير‭ ‬من‭ ‬تركيب‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع‭ ‬وطبقاته،‭ ‬فتتبعثر‭ ‬فيها‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى،‭ ‬وهي‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬المنتجة‭ ‬من‭ ‬الصنّاع‭ ‬والعمال‭ ‬المهرة‭ ‬والمزارعين‭ ‬المحترفين،‭ ‬لتنحدر‭ ‬عناصرها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الطبقة‭ ‬الفقيرة،‭ ‬فيكون‭ ‬المجتمع‭ ‬أقل‭ ‬إنتاجاً‭ ‬وأكثر‭ ‬استهلاكاً‭. ‬

ولعل‭ ‬الصعوبة‭ ‬في‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬ترجع‭ ‬أساساً‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأقنعة‭ ‬البريئة‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬تختفي‭ ‬وراءها‭ ‬الوجوه‭ ‬القبيحة‭ ‬المتخلفة،‭ ‬فالجرائم‭ ‬التي‭ ‬تُرتكب‭ ‬بالتعدي‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬وتلويث‭ ‬البيئة‭ ‬والغش‭ ‬في‭ ‬أساسات‭ ‬البناء‭ ‬والعمران‭ ‬والبُنى‭ ‬التحتية‭ ‬والجسور‭ ‬والأنفاق‭ ‬للمدن،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يكون‭ ‬باسم‭ ‬الترشيد‭ ‬والتوفير‭ ‬وسرعة‭ ‬الإنجاز‭. ‬وعندما‭ ‬تنهار‭ ‬تلك‭ ‬الصروح‭ ‬يتنصل‭ ‬المفسدون‭ ‬ويذهب‭ ‬الأبرياء‭ ‬ضحية‭ ‬لذلك‭ ‬الفساد،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬وَإذَا‭ ‬قيل‭ ‬لهم‭ ‬لا‭ ‬تُفسِدُوا‭ ‬في‭ ‬الأَرضِ‭ ‬قَالوا‭ ‬إنّمَا‭ ‬نحنُ‭ ‬مُصلِحون‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬البقرة‭ - ‬11‭). ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬سن‭ ‬الدول‭ ‬قوانين‭ ‬عامة‭ ‬وتشريعات‭ ‬خاصة‭ ‬تنص‭ ‬على‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬ومعاقبة‭ ‬المفسدين،‭ ‬فإننا‭ ‬نلمس‭ ‬عدم‭ ‬فاعلية‭ ‬ذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬تجاوز‭ ‬أولئك‭ ‬المفسدين‭ ‬لتلك‭ ‬القوانين‭ ‬والعبث‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ثغرات‭ ‬فيها،‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬إفساد‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬إجراءات‭ ‬الرقابة‭ ‬والتنفيذ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الرشوة‭ ‬أحياناً،‭ ‬والتهديد‭ ‬أحياناً‭ ‬أخرى،‭ ‬واستغلال‭ ‬المنصب‭ ‬القيادي‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬منافع‭ ‬شخصية‭ ‬يدخل‭ ‬فيها‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬والمحسوبية‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬الصلاحيات‭ ‬الخاصة‭ ‬لمتقلد‭ ‬المنصب‭ ‬القيادي‭. ‬

ولعل‭ ‬الفوضى‭ ‬المتعمدة‭ ‬في‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإدارية‭ ‬الحكومية‭ ‬تغري‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬الفاسد‭ ‬باستغلال‭ ‬الفرص‭ ‬للفوز‭ ‬بمشاريع‭ ‬ذات‭ ‬هامش‭ ‬ربحي‭ ‬كبير‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المناقصات‭ ‬أو‭ ‬الممارسات‭ ‬الحكومية‭. ‬إنّ‭ ‬الفساد‭ ‬الممنهج‭ ‬والجرائم‭ ‬المالية‭ ‬المدروسة‭ ‬جيداً‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬الثغرات‭ ‬القانونية‭ ‬يجعلان‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬والمحاسبية‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬إثبات‭ ‬التهم‭ ‬على‭ ‬المفسدين‭ ‬وحماية‭ ‬الشرفاء‭ ‬والمصلحين‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يُتهمون‭ ‬قبل‭ ‬غيرهم‭ ‬بالفساد‭. ‬عند‭ ‬ذلك‭ ‬يتبدد‭ ‬الأمل‭ ‬بالإصلاح،‭ ‬ويتسرب‭ ‬اليأس‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الصالحين‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتُفسّر‭ ‬الرشوة‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬عمولة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬كسب‭ ‬مشروع‭ ‬لعمل‭ ‬المرتشي،‭ ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬التعدي‭ ‬على‭ ‬أملاك‭ ‬الدولة‭ ‬وأموالها‭ ‬سمة‭ ‬لأولي‭ ‬الثروة‭ ‬والنفوذ‭. ‬من‭ ‬واقع‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬يبدأ‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬بتقبل‭ ‬الفكر‭ ‬الفاسد،‭ ‬فيتحايل‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ ‬دفع‭ ‬مستحقات‭ ‬الدولة‭ ‬لما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬خدمات‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تطلبه‭ ‬من‭ ‬رسوم‭ ‬أو‭ ‬ضرائب،‭ ‬وتتزايد‭ ‬طلباتهم‭ ‬وإلحاحهم‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬لزيادة‭ ‬الأجور‭ ‬أو‭ ‬دعم‭ ‬السلع،‭ ‬وتتناقص‭ ‬لديهم‭ ‬القيم‭ ‬الفردية‭ ‬واحترام‭ ‬القانون‭. ‬وعندما‭ ‬تعجز‭ ‬الدولة‭ ‬مالياً‭ ‬وسياسياً‭ ‬يؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬انخفاض‭ ‬في‭ ‬إنتاجية‭ ‬الفرد،‭ ‬وزيادة‭ ‬نسبة‭ ‬البطالة،‭ ‬ويسود‭ ‬الكسل‭ ‬ويشح‭ ‬العمل،‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬سوى‭ ‬التذمر‭ ‬والتململ‭ ‬اللذين‭ ‬يؤديان‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬انتفاضات‭ ‬وثورات،‭ ‬شهدتها‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬أخيراً‭. ‬ولعل‭ ‬أجهزة‭ ‬الرصد‭ ‬الرقابي‭ ‬والمحاسبي‭ ‬وجهات‭ ‬تنفيذ‭ ‬الأحكام‭ ‬والقوانين‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬تحدّ‭ ‬من‭ ‬الفساد،‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬توقفه‭ ‬ولا‭ ‬تكافحه‭.‬

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬عمل‭ ‬تلك‭ ‬الجهات‭ ‬دؤوباً‭ ‬ودقيقاً،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬بذلها‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬والوقت،‭ ‬فإنّ‭ ‬أصل‭ ‬الفساد‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التخريب‭ ‬وانتهاز‭ ‬الفرص‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الفوضى،‭ ‬فمحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬ومكافحته‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬نتيجة‭ ‬جهود‭ ‬شعبية‭ ‬مخلصة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الأوطان‭. ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي،‭ ‬سعت‭ ‬منظمة‭ ‬الشفافية‭ ‬الدولية‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬وقياس‭ ‬نسب‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬وقامت‭ ‬تلك‭ ‬الدراسات‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متوافر‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬تقارير‭ ‬وإحصاءات‭ ‬واستبيانات‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬منظمات‭ ‬رقابية‭ ‬دولية،‭ ‬واستعانت‭ ‬أيضاً‭ ‬بالصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬المحلية‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭. ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬وضعت‭ ‬مقياساً‭ ‬عشرياً‭ ‬لقياس‭ ‬الفساد،‭ ‬تبين‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬هي‭ ‬أكثر‭ ‬الدول‭ ‬فساداً‭ (‬تقرير‭ ‬Transparency‭ ‬International‭ ‬2003‭). ‬

على‭ ‬إثر‭ ‬تفشي‭ ‬الفساد،‭ ‬سعت‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬دحر‭ ‬الفساد‭ ‬الإداري‭ ‬والمالي،‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬‮«‬المفتش‭ ‬العام‮»‬‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬بالتحري‭ ‬ومتابعة‭ ‬الفساد‭ ‬ومحاربته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬آليات‭ ‬وصلاحيات‭ ‬واسعة‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬تؤهله‭ ‬لمعاقبة‭ ‬المفسدين‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬فإن‭ ‬التقارير‭ ‬الرسمية‭ ‬للجهاز‭ ‬المركزي‭ ‬للمحاسبات‭ ‬وضعت‭ ‬بشفافية‭ ‬تامة‭ ‬أمام‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬الذي‭ ‬شكل‭ ‬لجنة‭ ‬لتقصي‭ ‬الحقائق‭ ‬ورفع‭ ‬التقارير‭ ‬الدورية‭ ‬لعرضها‭ ‬على‭ ‬البرلمان،‭ ‬تلك‭ ‬التقارير‭ ‬التي‭ ‬نوقشت‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الرسمي‭ ‬والإعلامي‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬فإنّ‭ ‬إنشاء‭ ‬هيئة‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬فيها‭ ‬يعني‭ ‬الحرص‭ ‬الدائم‭ ‬والمستمر‭ ‬على‭ ‬محاربة‭ ‬الفساد‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬سلاح،‭ ‬فالرقابة‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬مجلس‭ ‬الأمة‭ ‬سلاح‭ ‬ضد‭ ‬الفساد،‭ ‬وديوان‭ ‬المحاسبة‭ ‬فيها‭ ‬لا‭ ‬يكل‭ ‬ولا‭ ‬يمل‭ ‬من‭ ‬التحري‭ ‬عن‭ ‬المخالفات‭ ‬المالية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة،‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬والإدارية‭ ‬والقضائية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بتنفيذ‭ ‬الأحكام‭.‬

 

الفوضى‭ ‬الخلاقة‭... ‬مصطلح‭ ‬فاسد

منذ‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬وفي‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬استغل‭ ‬تجار‭ ‬المخدرات‭ ‬الوضع‭ ‬المرتبك‭ ‬لتهريب‭ ‬الأفيون‭ ‬عبر‭ ‬منافذ‭ ‬اعتبروها‭ ‬طريقاً‭ ‬لوصول‭ ‬تلك‭ ‬المخدرات‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭. ‬ولا‭ ‬نرى‭ ‬للمصادفة‭ ‬مكاناً‭ ‬في‭ ‬تصدع‭ ‬خطوط‭ ‬الأمن‭ ‬أو‭ ‬التفجيرات‭ ‬العشوائية،‭ ‬التي‭ ‬أربكت‭ ‬الدول‭ ‬وأقلقت‭ ‬الشعوب‭ ‬لتعم‭ ‬بها‭ ‬الفوضى‭ ‬ويخبو‭ ‬فيها‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان،‭ ‬إلا‭ ‬رصفاً‭ ‬غير‭ ‬شرعي‭ ‬لطريق‭ ‬تهريب‭ ‬المخدرات‭ ‬عبر‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬لتكون‭ ‬محطات‭ ‬‮«‬ترانزيت‮»‬‭ ‬يُنقل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الأفيون‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬ومنه‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭. ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬الثورات‭ ‬لتزيد‭ ‬طين‭ ‬الفوضى‭ ‬بلة،‭ ‬فتُهرّب‭ ‬الأسلحة‭ ‬وتنتشر‭ ‬وتصبح‭ ‬لها‭ ‬سوق‭ ‬سوداء،‭ ‬ثم‭ ‬تتفاقم‭ ‬الأزمات‭ ‬لتصبح‭ ‬حروباً‭ ‬أهلية،‭ ‬فيُهرّب‭ ‬النفط‭ ‬ليتدنى‭ ‬سعره‭ ‬إلى‭ ‬هاوية‭ ‬لا‭ ‬ينتفع‭ ‬من‭ ‬استقراره‭ ‬بها‭ ‬سوى‭ ‬الفاسدين‭. ‬

هنا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الفساد‭ ‬ليس‭ ‬محلياً‭ ‬أو‭ ‬إقليمياً،‭ ‬بل‭ ‬عالمياً،‭ ‬وبعض‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬تسعى،‭ ‬وبتخطيط‭ ‬دقيق،‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬الفوضى‭ ‬والفساد،‭ ‬وتشجع‭ ‬المفسدين‭ ‬والفوضويين،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إخضاع‭ ‬الدول‭ ‬لسياساتها‭. ‬ومن‭ ‬سياسات‭ ‬الإخضاع‭ ‬الواضحة‭ ‬للدول‭ ‬وشعوبها‭ ‬أمران،‭ ‬هما‭ ‬التجويع‭ ‬والتسمين‭! ‬أما‭ ‬سياسة‭ ‬تجويع‭ ‬الشعوب‭ ‬فتقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬تنضيب‭ ‬ثروات‭ ‬الشعوب‭ ‬وتجفيف‭ ‬منابع‭ ‬الرزق،‭ ‬ليصل‭ ‬دخل‭ ‬الفرد‭ ‬إلى‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬الفقر،‭ ‬وبانتشار‭ ‬الفقر‭ ‬تنتشر‭ ‬الفوضى‭ ‬والجرائم‭ ‬وتُخترق‭ ‬القوانين‭. ‬

أما‭ ‬سياسة‭ ‬التسمين،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬سياسة‭ ‬تسمين‭ ‬العجول،‭ ‬فتقوم‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬كل‭ ‬الحاجات‭ ‬والمستلزمات،‭ ‬الأساسية‭ ‬منها‭ ‬والكمالية‭ ‬لأفراد‭ ‬الدولة،‭ ‬وتلبية‭ ‬جميع‭ ‬احتياجاتهم،‭ ‬ويكون‭ ‬ذلك‭ ‬بأسلوب‭ ‬مدروس‭ ‬وممنهج‭ ‬يحرص‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬الفساد‭ ‬والجهل،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إشغال‭ ‬الشباب‭ ‬بنوافذ‭ ‬المتع‭ ‬واللذات،‭ ‬وتشكيكهم‭ ‬بفائدة‭ ‬الأخلاق‭ ‬ومبادئ‭ ‬السلوك‭ ‬القويم،‭ ‬ووضع‭ ‬مناهج‭ ‬تعليمية‭ ‬هشة‭ ‬ومضللة‭ ‬تنأى‭ ‬بهم‭ ‬عن‭ ‬التحصيل‭ ‬والتحليل،‭ ‬لتصبح‭ ‬الطائفة‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬‮«‬كالأنعام‭ ‬أو‭ ‬أضل‭ ‬سبيلا‮»‬‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يدب‭ ‬الكسل‭ ‬والتواكل‭ ‬في‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع،‭ ‬فيساقون‭ ‬كالقطيع،‭ ‬ليُذبح‭ ‬واحدهم‭ ‬بكل‭ ‬سهولة‭.‬

 

التربية‭ ‬والتعليم‭... ‬مستقبل‭ ‬الأمة‭ ‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬تتضح‭ ‬الرؤية‭ ‬بأنّ‭ ‬التعليم‭ ‬أمر‭ ‬ضروري‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الأجيال،‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬خاصة،‭ ‬فهم‭ ‬المصدر‭ ‬الأساسي‭ ‬لرفعة‭ ‬دولهم‭ ‬والثروة‭ ‬الدائمة‭ ‬للتنمية‭ ‬الحقيقية‭. ‬وانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬التعليم‭ ‬منهج‭ ‬فكري‭ ‬وتربوي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬توسيع‭ ‬المدارك‭ ‬لفهم‭ ‬العلل‭ ‬والنتائج،‭ ‬وأنه‭ ‬مرتبط‭ ‬أولاً‭ ‬وأخيراً‭ ‬بالأخلاق‭ ‬وسلوك‭ ‬المجتمعات،‭ ‬فلابد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نفرّق‭ ‬أولاً‭ ‬بين‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭: ‬كالرياضيات‭ ‬والفيزياء‭ ‬والكيمياء‭ ‬والأحياء‭ ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬ينطبق‭ ‬عليها‭ ‬المنهج‭ ‬التجريبي،‭ ‬وبين‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭: ‬كاللغة‭ ‬والدين‭ ‬والفلسفة‭ ‬وما‭ ‬شابه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬علوم‭. ‬ويتفق‭ ‬المتخصصون‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬يصلح‭ ‬تدريسها‭ ‬لكل‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم،‭ ‬أما‭ ‬تناول‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬مناهج‭ ‬التدريس‭ ‬فيختلف‭ ‬بين‭ ‬مجتمع‭ ‬وآخر،‭ ‬كل‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬نافذته،‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتاريخية‭ ‬والدينية‭. ‬وعندما‭ ‬يدور‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تطوير‭ ‬المناهج‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية،‭ ‬يدور‭ ‬معه‭ ‬الخلاف‭ ‬حول‭ ‬التقديس‭ ‬والتدنيس،‭ ‬والثوابت‭ ‬والمتغيرات،‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والأخلاق،‭ ‬وعدم‭ ‬المساس‭ ‬بالدين‭ ‬معتقداً‭ ‬وعبادة‭. ‬

وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬يحار‭ ‬متخذ‭ ‬القرار،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬السلامة‭ ‬درباً‭ ‬ليرضي‭ ‬الجميع،‭ ‬وفي‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬يختار‭ ‬جانب‭ ‬الأقوى‭! ‬وعندما‭ ‬تتغير‭ ‬مراكز‭ ‬القوى‭ ‬تتغير‭ ‬المناهج‭ ‬التعليمية،‭ ‬فما‭ ‬تعلمناه‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬تعلمه‭ ‬أبناؤنا‭ ‬وأحفادنا‭. ‬نعم،‭ ‬فاليوم‭ ‬غير‭ ‬الأمس،‭ ‬ولكن‭ ‬تظل‭ ‬الحقائق‭ ‬العلمية‭ ‬بدقائقها‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الخلاف،‭ ‬فنظريات‭ ‬الضوء‭ ‬والصوت‭ ‬أكدت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شكّ‭ ‬أنّ‭ ‬عين‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬تشع‭ ‬ضوءاً،‭ ‬وإنما‭ ‬تستقبل‭ ‬الضوء‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الصورة،‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬المخ‭ ‬مقلوبة‭ ‬ومعكوسة،‭ ‬فيقوم‭ ‬الدماغ‭ ‬بتصحيحها‭ ‬ليراها‭ ‬المرء‭ ‬كما‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭. ‬

تلك‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬الهيثم‭ (‬ت‭. ‬430‭ ‬هـ‭/‬1040م‭)‬،‭ ‬فعارضه‭ ‬رجال‭ ‬دين‭ ‬عصره‭ ‬وكفّروه،‭ ‬لاعتقادهم‭ ‬الخاطئ‭ ‬بأنّ‭ ‬العين‭ ‬تلقي‭ ‬شعاعاً‭ ‬تخريبياً‭ ‬هداماً،‭ ‬وربطوا‭ ‬ذلك‭ ‬بالحسد،‭ ‬واستندوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬فهمهم،‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬فهم‭ ‬أهل‭ ‬عصرهم‭ ‬لبعض‭ ‬النصوص‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬أو‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭. ‬واليوم،‭ ‬صارت‭ ‬تلك‭ ‬النظرية‭ ‬حقيقة‭ ‬علمية،‭ ‬فماذا‭ ‬نحن‭ ‬فاعلون؟‭ ‬ألا‭ ‬نزال‭ ‬نخشى‭ ‬من‭ ‬شعاع‭ ‬العيون؟‭! ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬نقترح‭ ‬على‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬المناهج‭ ‬الدراسية‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عنايتهم‭ ‬وضع‭ ‬المناهج‭ ‬للعلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬بما‭ ‬يتوافق‭ ‬والفهم‭ ‬العصري،‭ ‬أما‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬فلنأخذها‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تفوقوا‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬وليس‭ ‬علينا‭ ‬إلا‭ ‬ترجمتها‭ ‬وتدريسها‭ ‬بالأساليب‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬وُضعت‭ ‬عليها‭. ‬لعلنا‭ ‬ننجح‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬وتعليم‭ ‬جيل‭ ‬لا‭ ‬يضنيه‭ ‬الشكّ‭ ‬أو‭ ‬تأخذه‭ ‬الريبة،‭ ‬جيل‭ ‬واثق‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬والبناء‭ ‬