في النسبية اللغوية... كيف نظر العربي الأول إلى العالم؟

في النسبية اللغوية... كيف نظر العربي الأول إلى العالم؟

حظيت العلاقة بين اللغة ورؤية العالم بصفة عامة، وعلاقتها مع الفكر بصفة خاصة، باهتمام الفلاسفة واللسانيين وغيرهم، منذ حدد اليونان ماهية الإنسان في اللوغوس (الإنسان حيوان عاقل) الذي يعني في لسانهم العقل واللغة، وقد أنجزت حول هذا الموضوع، منذ ذلك الوقت، أعداد ضخمة من الأبحاث والدراسات، تصعب الإحاطة بها، لكن يمكن تصنيف نتائجها إلى ثلاثة مواقف واتجاهات أساسية:
- تلازم الفكر واللغة.
- انفصال الفكر عن اللغة.

التداخل النسبي بين الفكر واللغة.

ونظراً‭ ‬لأن‭ ‬دراستنا‭ ‬لرؤية‭ ‬العربي‭ ‬للعالم‭ ‬تتطلب‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬التشاكل‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والفكر،‭ ‬فإننا‭ ‬سنعرض‭ ‬بإسهاب‭ ‬للتصور‭ ‬الأول،‭ ‬مع‭ ‬مناقشة‭ ‬بعض‭ ‬نتائجه،‭ ‬وتقديم‭ ‬بعض‭ ‬المراجعات،‭ ‬قبل‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬رصد‭ ‬معالم‭ ‬النسبية‭ ‬اللغوية‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬بيئة‭ ‬العربي‭ ‬الطبيعية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والفكرية‭.‬

لنبدأ‭ ‬القصة،‭ ‬إذن،‭ ‬من‭ ‬البداية،‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1757م‭ ‬طرحت‭ ‬أكاديمية‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬مشكل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والشعب‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬سؤال‭ (‬مسابقة‭) ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬ما‭ ‬انعكاسات‭ ‬وآثار‭ ‬آراء‭ ‬الشعب‭ ‬على‭ ‬اللغة؟‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬تعددت‭ ‬الإجابات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيفها‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أنواع‭:‬

‭- ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬شكل‭ ‬ووعاء‭ ‬الفكر‭.‬

‭- ‬اللغة‭ ‬تعكس‭ ‬عقلية‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يتكلمها‭.‬

‭- ‬اللغة‭ ‬تحدد‭ ‬طريقة‭ ‬فهمنا‭ ‬للعالم‭ ‬الخارجي

فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬‮«‬هاردر‮»‬‭ ‬اللغة‭ ‬خزاناً‭ ‬لتجارب‭ ‬ومعارف‭ ‬الأجيال‭ ‬الماضية،‭ ‬ووسيلة‭ ‬لنقل‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬وسيلة‭ ‬لمعرفة‭ ‬العالم،‭ ‬وشكل‭ ‬وإطار‭ ‬للفكر،‭ ‬فكل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬يتكلم‭ ‬كما‭ ‬يفكر‭ ‬ويفكر‭ ‬كما‭ ‬يتكلم،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬تحدد‭ ‬كل‭ ‬المعارف‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وهذا‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الكلمات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تعلمنا‭ ‬التفكير‭.‬

ويرى‭ ‬هومبولدت‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مرآة‭ ‬لتاريخ‭ ‬الأمة‭ ‬وأحداثها‭ ‬وأفراحها‭ ‬وأتراحها،‭ ‬ومؤشراً‭ ‬إلى‭ ‬الذهنية‭ ‬الوطنية،‭ ‬كما‭ ‬بنى‭ ‬هومبولدت‭ ‬نزعته‭ ‬في‭ ‬النسبية‭ ‬اللغوية‭ ‬على‭ ‬توجهه‭ ‬القومي،‭ ‬فقد‭ ‬ساوى‭ ‬بين‭ ‬الخصائص‭ ‬الروحية‭ ‬للمجتمع‭ ‬الألماني‭ ‬وبين‭ ‬الخصائص‭ ‬البنيوية‭ ‬للغته،‭ ‬جاعلاً‭ ‬وحدتها‭ ‬من‭ ‬وحدته‭ ‬وبقاءها‭ ‬من‭ ‬بقائه،‭ ‬والعكس‭ ‬بالعكس‭.‬

في‭ ‬الاتجاه‭ ‬نفسه،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬لسانية‭ ‬أنثروبولوجية،‭ ‬ظهرت‭ ‬نظرية‭ ‬الأمريكيين‭ ‬وورف‭ ‬وسابير‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬عن‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الفلسفية‭ ‬السابقة‭ ‬بما‭ ‬يلي‭:‬

‭- ‬طابعها‭ ‬التجريبي‭ ‬الذي‭ ‬راكم‭ ‬الوقائع‭ ‬والأوصاف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دراستهما‭ ‬لعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬اللغات‭.‬

‭- ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬التصورات‭ ‬الفلسفية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬الظواهر‭ ‬اللغوية‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬اللغات‭ ‬الحضارية‭ ‬الكبرى‭ ‬خاصة‭ ‬الألمانية،‭ ‬قامت‭ ‬نظرية‭ ‬وورف‭ ‬وسابير‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬لغات‭ ‬المجتمعات‭ ‬البسيطة،‭ ‬خاصة‭ ‬اللغات‭ ‬الهندوأمريكية‭ ‬المنتشرة‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬أمريكا،‭ ‬والتي‭ ‬جمع‭ ‬فرانز‭ ‬بواس‭ ‬كثيراً‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬كتيب‭ ‬اللغات‭ ‬الهندوأمريكية‮»‬‭ ‬Handbook‭ ‬Of‭ ‬American‭ ‬Indian‭ ‬Langauges‭.‬

يرى‭ ‬سابير‭ ‬أنّ‭ ‬التّفكير‭ ‬من‭ ‬دونِ‭ ‬اللغة‭ ‬أمر‭ ‬مستحيل،‭ ‬لأنّ‭ ‬اللغةَ‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تعين‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬تجسيد‭ ‬فكرِه‭ ‬وصياغتِه‭ ‬وتنظيمِه‭. ‬فالنّظام‭ ‬اللّغويّ‭ (‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬النحو‭) ‬لكلّ‭ ‬لغة،‭ ‬ليس‭ ‬مجرّد‭ ‬أداة‭ ‬تُستخدم‭ ‬لإعادة‭ ‬التّعبير‭ ‬عن‭ ‬الأفكار،‭ ‬بل‭ ‬إنَّها‭ ‬شكل‭ ‬الأفكار،‭ ‬والبرنامج‭ ‬والمرشد‭ ‬للنّشاط‭ ‬الذهنيّ‭ ‬للفرد،‭ ‬ولتحليل‭ ‬انطباعاته،‭ ‬ولتركيب‭ ‬المخزون‭ ‬الذّهنيّ‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬وورف‭ ‬وسابير‭ ‬متّفقين‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬اللّغةَ‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬طرائق‭ ‬تفكيرنا،‭ ‬ونظرتَنا‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ (‬حقل‭ ‬الألوان‭ ‬والقرابة،‭ ‬أنواع‭ ‬الرّمل‭ ‬عند‭ ‬العربيّ‭ ‬مقارنةً‭ ‬بأنواع‭ ‬الثّلج‭ ‬عند‭ ‬الإسكيمو‭... ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تتضمن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬إلا‭ ‬اسماً‭ ‬أو‭ ‬اسمين‭ ‬للثلج،‭ ‬بينما‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬الإسكيمو‭ ‬عشرات‭ ‬الأسماء‭ ‬للثلج‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬إنّ‭ ‬كلّ‭ ‬لغة‭ ‬تقطِّع‭ ‬العالم‭ ‬وتفصّله‭ ‬على‭ ‬مقاسها‭ ‬الخاص،‭ ‬فإنّ‭ ‬الخلاف‭ ‬بينهما‭ ‬يبقى‭ ‬واضحاً‭. ‬فسابير‭ ‬يرى‭ ‬أنّ‭ ‬العالم‭ ‬الموضوعيّ‭ ‬عالم‭ ‬معطى،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬اللّغة‭ ‬هو‭ ‬أنَّها‭ ‬تنظِّم‭ ‬جزءاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬أفكارنا،‭ ‬وتخصّص‭ ‬طريقة‭ ‬نظرتنا‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المنظّم‭ ‬سلفاً‭. ‬بينما‭ ‬يرى‭ ‬وورف‭ ‬أنّ‭ ‬العالم‭ ‬الخارجيّ‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬خليط‭ ‬وفوضى،‭ ‬أي‭ ‬كاووس‭ ‬Chaous،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتدخّل‭ ‬الأنساق‭ ‬اللّغويّة‭ ‬لتنظيمه‭. ‬أما‭ ‬وجه‭ ‬الخلاف‭ ‬الثّاني‭ ‬فيكمن‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬سابير‭ ‬يرى‭ ‬أنّ‭ ‬المعجم‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬المنظّم‭ ‬لتجربة‭ ‬المجتمع،‭ ‬هكذا‭ ‬فكلّ‭ ‬شيء‭ ‬خارج‭ ‬المعجم‭ ‬لا‭ ‬يحيل‭ ‬البتّةَ‭ ‬على‭ ‬الثّقافة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يرى‭ ‬وورف‭ ‬أنّ‭ ‬التّمثلات‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬تنحصر‭ ‬في‭ ‬الجوانب‭ ‬المعجميّة‭ ‬فقط،‭ ‬ولكنَّها‭ ‬تمتدّ‭ ‬لتشمل‭ ‬جوانب‭ ‬صوتيّة‭ ‬وصرفيّة‭ ‬وتركيبيّة‭ ‬ودلاليّة‭ ‬ومعجميّة‭.‬

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬هذين‭ ‬اللسانين‭ ‬ظهرت‭ ‬أطروحة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬النسبية‭ ‬اللغوية‭ ‬صاغها‭ ‬الفيلسوف‭ ‬اللغوي‭ ‬الأمريكي‭ ‬كواين،‭ ‬واصطلح‭ ‬عليها‭ ‬بـ«الترجمة‭ ‬الجذرية‮»‬،‭ ‬وتقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬لغة‭ ‬تختص‭ ‬بنظرة‭ ‬متكاملة‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬تجعل‭ ‬التواصل‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬غيرها‭ ‬مطلباً‭ ‬بعيد‭ ‬المنال‭.‬

رغم‭ ‬الأدلة‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬هذه‭ ‬النظرية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكار‭ ‬قيمتها‭ ‬العلمية،‭ ‬فقد‭ ‬عارضها‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬اللسانيين‭ ‬والفلاسفة‭. ‬فقد‭ ‬أكدت‭ ‬اللسانيات‭ ‬البنيوية،‭ ‬وخاصة‭ ‬اللسانيات‭ ‬العامة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬اللغات،‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬كثير‭ ‬منها،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المقولات‭ ‬الصوتية،‭ ‬كالصوامت‭ ‬والمصوتات‭ ‬والمقاطع‭ ‬والتنغيم‭ ‬والنبر،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬المقولات‭ ‬الصرفية،‭ ‬كالاســم‭ ‬والفعل‭ ‬والصفة‭ ‬والحرف‭ ‬والزمن‭ ‬والجهة،‭ ‬وبعض‭ ‬المقولات‭ ‬التركيبية‭ ‬كالمسند‭ ‬والمسند‭ ‬إليه،‭ ‬وبعض‭ ‬المقولات‭ ‬الدلالية‭ ‬كالأحداث‭ ‬والأوضاع‭ ‬والصفات‭ ‬والحالات‭ ‬والعلاقات،‭ ‬وبعض‭ ‬المقولات‭ ‬الخطابية‭ ‬كالسرد‭ ‬والحوار‭ ‬والوصف‭ ‬والتقرير‭ ‬والحجاج‭.‬

كما‭ ‬أكدت‭ ‬اللسانيات‭ ‬التوليدية‭ ‬وجود‭ ‬كليات‭ ‬لغوية‭ ‬فطرية‭ ‬وراثية‭ ‬تولد‭ ‬مع‭ ‬الجنس‭ ‬البشري،‭ ‬مركوزة‭ ‬في‭ ‬دماغ‭ ‬الطفل،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬اللغات‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬اختلافات‭ ‬سطحية‭ ‬نتيجة‭ ‬لبعض‭ ‬التحويلات‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬تثبيت‭ ‬بعض‭ ‬الوسائط‭ ‬بعد‭ ‬احتكاك‭ ‬الطفل‭ ‬بمحيطه‭ ‬اللغوي‭.‬

لننتقل‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬بعض‭ ‬الجوانب‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬نظرة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬الأول‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭. ‬ونقصد‭ ‬بالعربي‭ ‬الأول‭ ‬عربي‭ ‬الجاهلية‭ ‬الذي‭ ‬تناهت‭ ‬إلينا‭ ‬أخباره،‭ ‬ووصلت‭ ‬إلينا‭ ‬لغته‭ ‬نحواً‭ ‬وبلاغة،‭ ‬وآدابه‭ ‬شعراً‭ ‬ونثراً،‭ ‬كما‭ ‬دونت‭ ‬وجمعت‭ ‬وقُعدت‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التدوين‭. ‬كما‭ ‬ننبه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬سنقدمه‭ ‬من‭ ‬تعليلات‭ ‬وتفسيرات‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬الممكنات‭ ‬الوحيدة‭ ‬لفهم‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬اللغوية،‭ ‬ولكن‭ ‬حسبنا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الخليل‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الفراهيدي‭ ‬حينما‭ ‬سئل‭ ‬عن‭ ‬علل‭ ‬النحو،‭ ‬أأخذها‭ ‬عن‭ ‬العرب‭ ‬أم‭ ‬اخترعها‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬نفسه؟‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬إن‭ ‬العرب‭ ‬نطقت‭ ‬على‭ ‬سجيتها‭ ‬وطباعها،‭ ‬وعرفت‭ ‬مواقع‭ ‬كلامها،‭ ‬وقام‭ ‬في‭ ‬عقولها‭ ‬علله،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬ينقل‭ ‬ذلك‭ ‬عنها،‭ ‬واعتللت‭ ‬أنا‭ ‬بما‭ ‬عندي‭ ‬أنه‭ ‬علة‭ ‬لما‭ ‬عللته‭ ‬منه،‭ ‬فإن‭ ‬سنح‭ ‬لغيري‭ ‬علة‭ ‬لما‭ ‬عللته‭ ‬من‭ ‬النحو‭ ‬هي‭ ‬أليق‭ ‬مما‭ ‬ذكرته‭ ‬بالمعلول،‭ ‬فليأت‭ ‬بها‮»‬‭. ‬ونختم‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحليلنا‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نزعة‭ ‬استعلائية‭ ‬أو‭ ‬تفضيلية،‭ ‬بل‭ ‬هدفنا‭ ‬الأساسي‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬لفهم‭ ‬كيفية‭ ‬تفاعل‭ ‬اللغة‭ ‬والعالم،‭ ‬أما‭ ‬هدفنا‭ ‬الثانوي‭ ‬فهو‭ ‬رفع‭ ‬الجمود‭ ‬عن‭ ‬الدرس‭ ‬النحوي‭ ‬العربي،‭ ‬وإعادة‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬العربية‭. ‬

 

تصور‭ ‬العربي‭ ‬للفضاء

الصحراء‭ ‬فضاء‭ ‬ممتد‭ ‬وواسع‭ ‬دون‭ ‬تضاريس‭ ‬تقطع‭ ‬الرؤية‭ ‬وتحد‭ ‬البصر،‭ ‬فكان‭ ‬لزاماً‭ ‬على‭ ‬ساكنها‭ ‬تصور‭ ‬المكان‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬ساكن‭ ‬الجبال‭ ‬أو‭ ‬الغابات،‭ ‬ولهذا‭ ‬قطّع‭ ‬العربي‭ ‬الفضاء‭ ‬إلى‭ ‬ثلاث‭ ‬مناطق‭ ‬بصرية،‭ ‬هي‭: ‬القريب‭ ‬والمتوسط‭ ‬والبعيد،‭ ‬فاستعمل‭ ‬‮«‬هنا‭ ‬وهذا‮»‬‭ ‬للقريب‭ ‬و«هناك‭ ‬وذاك‮»‬‭ ‬للمتوسط‭ ‬و«هنالك‭ ‬وذلك‮»‬‭ ‬للبعيد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬مقابله‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬التي‭ ‬تميّز‭ ‬فقط‭ ‬بين‭ ‬حدين‭ ‬للمكان‭ ‬هما‭ ‬القريب‭ ‬والبعيد،‭ ‬فتستعمل‭ ‬الإنجليزية‭ ‬مثلاً‭ ‬Here‭ ‬للقريب‭ ‬وThere‭ ‬للبعيد،‭ ‬كما‭ ‬تستعمل‭ ‬الفرنسية‭ ‬ضمير‭ ‬الاشارة‭ ‬Ici‭ ‬للقريب‭ ‬و‭-‬Bas‭ ‬للبعيد،‭ ‬ومما‭ ‬يؤكد‭ ‬زعمنا‭ ‬هذا‭ ‬ندرة‭ ‬استعمال‭ ‬اسم‭ ‬الإشارة‭ ‬‮«‬هنالك‮»‬‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬بسبب‭ ‬انتقال‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الصحاري‭ ‬والبوادي‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬المدن‭ ‬بأفقها‭ ‬البصري‭ ‬المحدود،‭ ‬ومن‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬ظاهرة‭ ‬النداء‭ ‬الذي‭ ‬يتنوع‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬إلى‭ ‬نداء‭ ‬للقريب‭ (‬أ‭) ‬والمتوسط‭ (‬يا‭) ‬والبعيد‭ (‬آ‭ ‬وأيا‭ ‬وهيا‭). ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬نظيراً‭ ‬في‭ ‬لغات‭ ‬أخرى‭.‬

 

تصور‭ ‬العربي‭ ‬للزمان‭ ‬

تتميز‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬بموقع‭ ‬جغرافي‭ ‬متميز‭ ‬بطول‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء‭ ‬وطول‭ ‬النهار‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الصيف،‭ ‬مما‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬تقسيم‭ ‬العربي‭ ‬لأقسام‭ ‬كل‭ ‬منهما،‭ ‬مخالفاً‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭. ‬فالنهار‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬الصباح‭: ‬أول‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬النهار‭ ‬ثم‭ ‬الشروق،‭ ‬ثم‭ ‬البكور‭: ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬طلوع‭ ‬الشَّمس،‭ ‬ثم‭ ‬الغداة‭: ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬طلوع‭ ‬الشَّمس،‭ ‬ثم‭ ‬الضّحى‭: ‬ارتفاع‭ ‬الشَّمس،‭ ‬ثم‭ ‬الهاجرة‭ ‬أو‭ ‬الهجيرة‭: ‬متى‭ ‬استوت‭ ‬الشَّمس‭ ‬في‭ ‬كبد‭ ‬السّماء،‭ ‬ثم‭ ‬الظَّهيرة،‭ ‬ثم‭ ‬الزوال،‭ ‬ثم‭ ‬الرواح،‭ ‬ثم‭ ‬العصر‭ ‬ثم‭ ‬القَصر‭: ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬المساء،‭ ‬والأصيل،‭ ‬والعشيّة‭: ‬آخر‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬النهار‭. ‬أما‭ ‬الليل‭ ‬فينقسم‭ ‬إلى‭: ‬الشَّفَق‭: ‬أول‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬وهو‭ ‬وقت‭ ‬صلاة‭ ‬المغرب‭. ‬والعِشاء‭: ‬بعدما‭ ‬يغيب‭ ‬الشَّفق،‭ ‬والعَتمة‭: ‬إذا‭ ‬اشتدّت‭ ‬ظلمة‭ ‬الليل،‭ ‬والسُّحَرة‭: ‬آخر‭ ‬الليل‭ ‬قُبَيل‭ ‬الغَلَس،‭ ‬والغَلَس‭: ‬ظلام‭ ‬آخر‭ ‬الليل‭ ‬قبيل‭ ‬البلجة،‭ ‬والتنوير‭: ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬مقابلاً‭ ‬في‭ ‬الفرنسية‭ ‬مثلاً‭ ‬لزمان‭ ‬الضحى‭ ‬أو‭ ‬العصر‭ ‬أو‭ ‬الزوال‭ ‬الذي‭ ‬يترجم‭ ‬خطأ‭ ‬مقابلاً‭ ‬لـ‭ ‬لكلمة‭ ‬Midi‭ ‬الفرنسية،‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬منتصف‭ ‬اليوم،‭ ‬أي‭ ‬الظهيرة،‭ ‬حيث‭ ‬تظهر‭ ‬الشمس‭ ‬عمودية‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬بينما‭ ‬الأصل‭ ‬أن‭ ‬يوضع‭ ‬الزوال‭ ‬مقابلاً‭ ‬لـ‭ ‬Après‭ ‬Midi،‭ ‬حيث‭ ‬تتزحزح‭ ‬الشمس‭ ‬عن‭ ‬وضعها‭ ‬العمودي‭ ‬تجاه‭ ‬الأرض‭.‬

 

المثنى‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬وضرورة‭ ‬الرفيق‭ ‬

‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬الدارس‭ ‬الأجنبي‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬وجود‭ ‬ظاهرة‭ ‬التثنية‭ ‬باعتبارها‭ ‬ظاهرة‭ ‬صرفية‭ ‬وليست‭ ‬معجمية‭. ‬وإذا‭ ‬بحثنا‭ ‬في‭ ‬جنينية‭ ‬هذه‭ ‬اللغة،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬الظروف‭ ‬الجغرافية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬العربي‭ ‬الأول،‭ ‬نخرج‭ ‬بملاحظات‭ ‬طريفة،‭ ‬فالعربي‭ ‬يعيش‭ ‬داخل‭ ‬مجموعات‭ ‬صغرى،‭ ‬بحيث‭ ‬تقل‭ ‬الكثافة‭ ‬السكانية‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬وهذا‭ ‬يجعله‭ ‬يتصور‭ ‬جزئيات‭ ‬الأشياء‭ ‬المحيطة‭ ‬به‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أهله‭ ‬وعشيرته،‭ ‬ولا‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬وضعه‭ ‬لضمير‭ ‬خاص‭ ‬بكل‭ ‬فرد‭ ‬داخل‭ ‬المجموعة،‭ ‬فللمفرد‭ ‬المتكلم‭ ‬ضمير‭ ‬خاص‭ ‬وللمخاطب‭ ‬كذلك‭ ‬وللغائب‭ ‬مثلهما،‭ ‬وقل‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬المذكر‭ ‬والمؤنث‭ ‬والمثنى‭ ‬والجمع‭ ‬والمخاطب‭ ‬والغائب،‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬غريزة‭ ‬البقاء‭ ‬تفرض‭ ‬وجود‭ ‬كل‭ ‬عنصر‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬والعائلة‭ ‬والقبيلة‭. ‬بل‭ ‬يسرف‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الشيء‭ ‬الواحد‭ ‬لقلة‭ ‬الأشياء‭ ‬حوله،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬الغنى‭ ‬المعجمي‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬إذ‭ ‬ذكر‭ ‬علماء‭ ‬اللغة‭ ‬نحو‭ ‬ثمانين‭ ‬اسما‭ ‬للعسل‭ ‬ونحو‭ ‬ألف‭ ‬اسم‭ ‬للأسد‭ ‬ونحو‭ ‬خمسمائة‭ ‬اسم‭ ‬للثعبان‭... ‬وهو‭ ‬في‭ ‬نظرنا‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬ترادف‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يعكس‭ ‬تصوراً‭ ‬مختلفاً‭ ‬للشيء‭ ‬نفسه‭. ‬وهذا‭ ‬يعضد‭ ‬قول‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬من‭ ‬القدماء‭ ‬بانتفاء‭ ‬الترادف‭ ‬في‭ ‬العربية،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬عند‭ ‬أبي‭ ‬هلال‭ ‬العسكري‭ ‬وغيره،‭ ‬إذ‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬ترادف‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬اختلاف‭ ‬القبائل‭ ‬لكان‭ ‬عدد‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬بعدد‭ ‬هذه‭ ‬المرادفات،‭ ‬والحال‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬بضع‭ ‬عشرات‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬حياة‭ ‬الصحراء‭ ‬الصعبة‭ ‬والخطيرة‭ ‬تفرض‭ ‬المرافق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حركة‭ ‬ونأمة،‭ ‬فخروج‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬الصيد‭ ‬أو‭ ‬الرحلة‭ ‬أو‭ ‬السفارة‭ ‬أو‭ ‬الحج،‭ ‬أو‭ ‬خروج‭ ‬المرأة‭ ‬إلى‭ ‬السقي‭.. ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬غالباً‭ ‬إلا‭ ‬برفقة‭ ‬شخص‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬المرافق‭ ‬من‭ ‬ضروريات‭ ‬الحياة‭ ‬الصحراوية،‭ ‬فانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬اللغة‭ ‬فجاءت‭ ‬ظاهرة‭ ‬التثنية‭. ‬ولهذا‭ ‬قال‭ ‬شراح‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬عادة‭ ‬الشعراء‭ ‬مخاطبة‭ ‬رفيق‭ ‬أو‭ ‬رفاق‭ ‬السفر‭ ‬بصيغة‭ ‬المثنى‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬واحداً‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬معلقة‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‮»‬‭ ‬‮«‬قفا‭ ‬نبك‮»‬‭.‬

 

علاقة‭ ‬العربي‭ ‬بالقبيلة‭ (‬أنا‭ ‬أولاً‭)‬

تردد‭ ‬عند‭ ‬أغلب‭ ‬الدارسين‭ ‬الذين‭ ‬درسوا‭ ‬الحياة‭ ‬العربية‭ ‬القديمة‭ ‬بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬والشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬باعتباره‭ ‬أهم‭ ‬مظاهر‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬أن‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬ولا‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬حياته،‭ ‬بل‭ ‬جعله‭ ‬ترجمان‭ ‬أهواء‭ ‬جماعته،‭ ‬قبيلة‭ ‬أو‭ ‬أمة‭ ‬أو‭ ‬حزباً‭ ‬أو‭ ‬مذهباً،‭ ‬وميولها‭ ‬ونصير‭ ‬قضاياها،‭ ‬لأن‭ ‬طبيعة‭ ‬الحياة‭ ‬فرضت‭ ‬عليهم‭ ‬التعاون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العمل‭ ‬لمصلحة‭ ‬الجماعة‭ ‬وسحق‭ ‬المعتدين‭ ‬عليها‭ ‬حفاظاً‭ ‬على‭ ‬وجودهم‭ ‬وضماناً‭ ‬لاستمرار‭ ‬حياتهم،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬وبيئة‭ ‬كانت‭ ‬تتهددهم‭ ‬الأخطار‭ ‬المختلفة،‭ ‬وتتربَّص‭ ‬بهم‭ ‬الجماعات‭ ‬الأخرى‭ ‬كي‭ ‬تغير‭ ‬عليهم،‭ ‬وتستولي‭ ‬على‭ ‬أرضهم‭ ‬وتسلب‭ ‬أموالهم‭ ‬وتأسر‭ ‬رجالهم‭ ‬وتسبي‭ ‬نساءهم‭. ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يذوب‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬الجماعة‭ ‬وتتوارى‭ ‬شخصية‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬جماعته‭. ‬لكن‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬نغفل‭ ‬أن‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬غمار‭ ‬هذه‭ ‬الصفة‭ ‬الجماعية‭ ‬إنساناً‭ ‬مستقلاً،‭ ‬تجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬الذي‭ ‬يعبر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬عن‭ ‬وجوده‭ ‬النفسي‭ ‬وعواطفه‭ ‬الخاصة،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الغزل‭ ‬والوقوف‭ ‬على‭ ‬الأطلال‭ ‬والرثاء‭ ‬والفخر‭ ‬والهجاء‭ ‬وشعر‭ ‬النقائض‭. ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬دائماً‭ ‬بوقاً‭ ‬للجماعة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬قيثارة‭ ‬نفسه‭ ‬وصدى‭ ‬لدواخله‭ ‬الفطرية‭.‬

فإذا‭ ‬تأملنا‭ ‬نسق‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وخاصة‭ ‬نسق‭ ‬الضمائر،‭ ‬تبينت‭ ‬لنا‭ ‬هذه‭ ‬الخصيصة،‭ ‬حيث‭ ‬الذات‭ ‬هي‭ ‬محور‭ ‬كل‭ ‬إضمار،‭ ‬و‮«‬أنا‮»‬‭ ‬هي‭ ‬مركز‭ ‬كل‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬الغير‭. ‬فتأمل‭ ‬‮«‬أنتَ‮»‬‭ ‬و‮«‬أنتِ‮»‬‭ ‬تجد‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬مجرد‭ ‬إضافة‭ ‬التاء‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬المخاطب‭ ‬إلى‭ ‬الضمير‭ ‬‮«‬أنا‮»‬‭ ‬فأنتَ‭= ‬أنا‭+‬تَ‭ ‬وأنتِ‭= ‬أنا‭+‬تِ‭ ‬وأنتما‭ ‬وأنتم‭ ‬وأنتن‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬إضافة‭ ‬علامة‭ ‬الجمع‭ ‬أو‭ ‬النوع‭ ‬إلى‭ ‬الضمير‭ ‬‮«‬أنا‮»‬‭.‬

‭ ‬

تصور‭ ‬العربي‭ ‬للأنثى‭ ‬

شاعت‭ ‬نظرة‭ ‬سلبية‭ ‬عن‭ ‬المرأة‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬من‭ ‬مخلفات‭ ‬عصور‭ ‬الانحطاط،‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬المرأة‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬عورة‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬إلا‭ ‬للفراش،‭ ‬ولا‭ ‬تخرج‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬زوجها‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬القبر،‭ ‬بينما‭ ‬تؤكد‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلام‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تحظى‭ ‬بمكانة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المناطق،‭ ‬فهي‭ ‬الملكة‭ (‬ملكة‭ ‬سبأ‭) ‬والشاعرة‭ ( ‬الخنساء‭) ‬والمتنبئة‭ (‬سجاح‭) ‬والحبيبة‭ ( ‬عبلة‭ ‬وفاطمة‭ ‬والرباب‭...) ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬التصوّر‭ ‬الإيجابي‭ ‬تجاه‭ ‬المرأة‭ ‬قد‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬البنيات‭ ‬اللّغوية‭ ‬العربية،‭ ‬لكنه‭ ‬انمحى‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬عصور‭ ‬الانحطاط‭. ‬لذلك‭ ‬تسمح‭ ‬العربية‭ ‬بالقول‭: ‬امرأة‭ ‬صبور‭ ‬ورجل‭ ‬صبور،‭ ‬امرأة‭ ‬جريح‭ ‬ورجل‭ ‬جريح،‭ ‬امرأة‭ ‬غيور‭ ‬ورجل‭ ‬غيور‭... ‬كما‭ ‬تسمح‭ ‬بجمع‭ ‬المذكر‭ ‬جمع‭ ‬مؤنث‭ ‬سالماً‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬طلحة‭ ‬الذي‭ ‬يُجمع‭ ‬على‭ ‬طلحات،‭ ‬وحمزة‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬على‭ ‬حمزات‭. ‬وتجمع‭ ‬صفة‭ ‬المذكر‭ ‬غير‭ ‬العاقل‭ ‬جمع‭ ‬مؤنث‭ ‬سالماً‭. ‬نقول‭: ‬جبل‭ ‬شاهق‭ ‬وجبال‭ ‬شاهقات‭. ‬وجمعوا‭ ‬المصدر‭ ‬المجاوز‭ ‬لثلاثة‭ ‬أحرف‭ ‬مثل‭ ‬اجتهاد‭ (‬صيغة‭ ‬مذكر‭) ‬على‭ ‬اجتهادات،‭ ‬وأشاروا‭ ‬بالمذكر‭ ‬والمؤنث‭ ‬إلى‭ ‬المسمى‭ ‬نفسه‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬سكين‭ ‬وطريق‭ ‬ودلو‭... ‬ولم‭ ‬يشترط‭ ‬العرب‭ ‬المطابقة‭ ‬بين‭ ‬الفعل‭ ‬والفاعل‭ ‬في‭ ‬الجنس‭ ‬مع‭ ‬المؤنث‭ ‬المجازيّ،‭ ‬فيمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬‮«‬طلعت‭ ‬الشمس‮»‬‭ ‬و«طلع‭ ‬الشمس‮»‬‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ويذهب‭ ‬الكوفيون‭ ‬إلى‭ ‬جواز‭ ‬تذكير‭ ‬وتأنيث‭ ‬كل‭ ‬فعل‭ ‬أسند‭ ‬إلى‭ ‬الجمع‭ (‬اسم‭ ‬الجمع،‭ ‬اسم‭ ‬الجنس‭ ‬الجمعي،‭ ‬جمع‭ ‬التكسير،‭ ‬الجمع‭ ‬السالم‭)‬،‭ ‬والسر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الستة‭ ‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬يؤول‭ ‬بالجمع‭ ‬فيكون‭ ‬مذكر‭ ‬المعنى‭ ‬فيؤتى‭ ‬به‭ ‬خالياً‭ ‬من‭ ‬علامة‭ ‬التأنيث،‭ ‬وأن‭ ‬يؤول‭ ‬بالجماعة‭ ‬فيكون‭ ‬مؤنث‭ ‬المعنى،‭ ‬فيؤتى‭ ‬بفعله‭ ‬مع‭ ‬علامة‭ ‬التّأنيث،‭ ‬فنقول‭ ‬على‭ ‬هذا‭: ‬جاء‭ ‬القوم،‭ ‬وجاءت‭ ‬القوم‭. ‬وفي‭ ‬القرآن‭: ‬‭{‬قال‭ ‬نسوة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬يوسف‭: ‬الآية‭ ‬30‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الكتاب‭ ‬الكريم‭ ‬‭{‬غُلبت‭ ‬الروم‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬الروم‭: ‬الآية‭ ‬2‭).‬

ومن‭ ‬الملاحظ‭ ‬أيضاً‭ ‬تخصيص‭ ‬العربية‭ ‬القديمة‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭ ‬بالاسم‭ ‬نفسه،‭ ‬حيث‭ ‬جعلوا‭ ‬لفظ‭ ‬المرأة‭ ‬مؤنث‭ ‬لفظة‭ ‬المرء‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬لفظة‭ ‬المروءة،‭ ‬وهي‭ ‬وفق‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬القيمة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الأخلاقي‭ ‬العربي‭ ‬الخالص‭ (‬الجاهلي‭). ‬فلو‭ ‬كان‭ ‬تصور‭ ‬العربي‭ ‬للمرأة‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬السلبية‭ ‬التي‭ ‬شاعت‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬الناس،‭ ‬لما‭ ‬سمح‭ ‬لنفسه‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬التنازلات‭ ‬اللغوية‭. ‬

 

رتبة‭ ‬المكونات‭ ‬في‭ ‬الجملة‭ ‬العربية‭ ‬

‭(‬لماذا‭ ‬الفعل‭ ‬أولاً؟‭)‬

من‭ ‬المميزات‭ ‬التركيبية‭ ‬للغة‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نجد‭ ‬لها‭ ‬مثيلاً‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬لغات‭ ‬قليلة،‭ ‬هي‭ ‬رتبة‭ ‬المكونات‭ ‬داخل‭ ‬الجملة‭ ‬الفعلية،‭ ‬حيث‭ ‬تبتدئ‭ ‬بالفعل‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬قرأ‭ ‬خالد‭ ‬الكتاب‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬برهن‭ ‬اللسانيون‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الرتبة‭ ‬الأصلية‭ ‬بأدلة‭ ‬دامغة‭ ‬منها‭: ‬كثرة‭ ‬ورود‭ ‬هذه‭ ‬التراكيب،‭ ‬والحياد‭ ‬الدلالي‭ ‬لتركيب‭ ‬‮«‬فعل‭+ ‬فاعل‭+ ‬مفعول‮»‬،‭ ‬وظهور‭ ‬هذه‭ ‬الرتبة‭ ‬مع‭ ‬المعمولات‭ ‬التي‭ ‬تغيب‭ ‬عنها‭ ‬العلامة‭ ‬الإعرابية‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬ضرب‭ ‬موسى‭ ‬عيسى‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موسى‭ ‬هو‭ ‬الفاعل‭ ‬وعيسى‭ ‬هو‭ ‬المفعول،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الإضمار‭ ‬يقتضي‭ ‬تقديم‭ ‬الفاعل‭ ‬على‭ ‬المفعول،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬أعطيتكه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬لحن‭ ‬تراكيب‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أعطيتهك‮»‬‭... ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يهمنا‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬فهم‭ ‬تقديم‭ ‬الفعل،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬التقديم‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬دليل‭ ‬اهتمام‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬البلاغيون‭.‬

ونعتقد‭ ‬أن‭ ‬فهم‭ ‬هذه‭ ‬الرتبة‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الحياة‭ ‬العربية‭ ‬الصحراوية‭ ‬القاسية‭ ‬والشاقة‭ ‬التي‭ ‬يتوقف‭ ‬البقاء‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬والحركة‭. ‬فنقص‭ ‬الطعام‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬بحثاً‭ ‬عنه‭ ‬وشح‭ ‬الماء‭ ‬يدفع‭ ‬بالعربي‭ ‬إلى‭ ‬قطع‭ ‬مسافات‭ ‬طويلة‭ ‬للسقي،‭ ‬والحروب‭ ‬المستمرة‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الاستعداد‭ ‬الدائم‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬القبيلة‭ ‬أو‭ ‬مهاجمة‭ ‬الأعداء،‭ ‬والتجارة‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬السفر‭ ‬لمسافات‭ ‬طويلة‭ ‬ومواجهة‭ ‬أخطار‭ ‬متعددة،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬حياة‭ ‬الصحراء‭ ‬تتوقف‭ ‬على‭ ‬الفعل،‭ ‬فإذا‭ ‬توقف‭ ‬هذا‭ ‬توقفت‭ ‬معه‭ ‬الحياة،‭ ‬فيكون‭ ‬الإخبار‭ ‬بالفعل‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬الجملة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬عادت‭ ‬القافلة‮»‬‭. ‬فما‭ ‬يهم‭ ‬السامع‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬هو‭ ‬عودة‭ ‬القافلة‭ ‬من‭ ‬عدمه،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬إنجاز‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬الرحلة‭ ‬الشاقة‭ ‬والطويلة‭.‬

 

لماذا‭ ‬يحتاج‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬مؤكدات؟

ما‭ ‬يميز‭ ‬العربية‭ ‬أيضاً‭ ‬هو‭ ‬ظاهرة‭ ‬التوكيد،‭ ‬حيث‭ ‬يغلب‭ ‬استعمال‭ ‬المؤكدات‭ ‬في‭ ‬الجمل‭ ‬الخبرية،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الشمس‭ ‬مشرقة‮»‬‭ ‬و«لقد‭ ‬جاء‭ ‬زيد‮»‬‭... ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬شبيهاً‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬اللغات‭. ‬فلماذا‭ ‬هذه‭ ‬الصيغ‭ ‬التأكيدية‭ ‬في‭ ‬العربية؟

‭ ‬لقد‭ ‬حاول‭ ‬البلاغيون‭ ‬تفسير‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬عنصر‭ ‬المقام،‭ ‬لكن‭ ‬لنا‭ ‬تفسيراً‭ ‬آخر‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬اللغوية‭. ‬فلا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬طبيعة‭ ‬الحياة‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعيشها‭ ‬العربي‭ ‬والمحاطة‭ ‬بالمخاطر‭ ‬والصعوبات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات‭ (‬غارات‭ ‬الأعداء‭ ‬وقُطَّاع‭ ‬الطرق‭ ‬وتقلبات‭ ‬الجو‭ ‬والعواصف‭ ‬الرملية‭ ‬التي‭ ‬تغير‭ ‬معالم‭ ‬التضاريس‭ ‬فتكون‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬التيه‭ ‬والفقد‭ ‬والموت‭...) ‬جعلت‭ ‬العربي‭ ‬كثير‭ ‬الشكوك‭ ‬تجاه‭ ‬صروف‭ ‬القدر‭ ‬وتقلبات‭ ‬الدهر،‭ ‬فقلما‭ ‬يصدق‭ ‬بخبر‭ ‬عودة‭ ‬القافلة‭ ‬أو‭ ‬وصول‭ ‬الأهل‭ ‬حتى‭ ‬يراها‭ ‬ويراهم‭ ‬رأي‭ ‬العين،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬انتشرت‭ ‬هذه‭ ‬الصيغ‭ ‬التوكيدية‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تبدد‭ ‬شكوكه،‭ ‬وترد‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬بعض‭ ‬الثقة‭ ‬التي‭ ‬تغتالها‭ ‬الصحراء‭ ‬باستمرار‭.‬

ونشير‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬العربي‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أصوات‭ ‬العربية‭ ‬وبنيتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وتعاملها‭ ‬مع‭ ‬الأسماء‭ ‬الأجنبية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬قصور‭ ‬التصور‭ ‬العلامي‭ ‬للغة‭ ‬العربية،‭ ‬بل‭ ‬جعلها‭ ‬خزاناً‭ ‬لتصورات‭ ‬مختلفة‭ ‬للعالم،‭ ‬كان‭ ‬للصحراء‭ ‬نصيب‭ ‬وافر‭ ‬في‭ ‬تشكيلها،‭ ‬ولهذا‭ ‬قال‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬الوجودي‭ ‬المعاصر‭ ‬هيدغر‭ ‬‮«‬إن‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬سر‭ ‬الوجود‮»‬‭ ‬