في الشعريّة العربيّة التراثيّة

في الشعريّة العربيّة التراثيّة

يُكثر بعض الباحثين من القول إنَّ النقاد والشعراء العرب القدامى رأوا أن الشعر هو الكلام الموزون المقفى الدَّال على معنى. وقراءة التراث النَّقدي العربي تفيد بأنَّ هذا القول ليس سوى رأي مجتزأ من تراثٍ غنيٍّ، تقرب رؤيته إلى الشعرية من رؤى النظريات الشعرية الحديثة.
في ما يأتي محاولة لبيان هذه الرؤية، وإن كانت موجزة، فذلك ما يقتضيه المقام.

 

قال أبوعمرو بن العلاء (68 – 154 هـ): «ما تكلمت به العرب من جيّد المنثور أكثر ممّا تكلمت به من جيّد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره». وقال ابن رشيق (390 - 456هـ): «كلام العرب نوعان: منظوم ومنثور». نلاحظ في هذين القولين، أمرين: أولهما وفرة النثر الأدبي وضياع معظمه، وثانيهما التمييز بين المنظوم والمنثور، استناداً إلى معيار الوزن، أو النظم، وليس بين الشعر والنثر، ما قد يعني أنّه يمكن أن يكون النثر، ثم السرد، شعرياً.
يعزَّز هذا الرأي ما يقوله ابن رشيق في موضع آخر: إن لم يكن للشاعر إلا فضل الوزن، فإن ذلك ليس بفضل، «وإنّما سمّي الشاعر شاعراً لأنّه يشعر بما لم يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه... كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة».
وقال الجاحظ (159 – 255 هـ): «فإنّما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير».

موزون مقفى
وينسب إلى قدامة بن جعفر (260 – 337 هـ)، صاحب مقولة: إنّ الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى، أو إلى تلميذه أبي عبد الله محمد بن أيوب، القول: «إنّما سمّي الشاعر شاعراً لأنّه يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره. وإذا كان إنّما يستحق اسم الشاعر بما ذكرنا، فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف ليس بشاعر، وإن أتى بكلام موزون مقفى». وهذا يعني أنّ قدامة يركز على القدرتين اللتين يتميز بهما الشاعر، أولاهما: الشعور من معنى القول (الرؤية)، وثانيتهما: إصابة الوصف (تجسيد الرؤية، بنيتها)، بما لا يشعر (يعلم به غيره).ويرى ابن طباطبا العلوي (ت 322هـ /934م) أنَّ المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم شيء، والنثر الأدبي شيء آخر، وأنواعه: الخطب والرسائل والأمثال وفقر الحكماء، ويصف هذه الأنواع بأنَّها «شعر محلول»، ويضيف: «فالشعر رسائل معقودة، والرسائل شعر محلول، وإذا فتشت أشعار الشعراء كلّها وجدتها متناسبة إمّا تناسباً قريباً أو بعيداً، وتجدها مناسبة لكلام الخطباء وخطب البلغاء وفقر الحكماء».

ظنون شخصية
ورأى ابن خلدون (732 – 808 هـ) أنّ المتأخرين استعملوا «أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية، وتقديم النَّسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور، إذا تأمّلته، من باب الشعر وفنّه، ولم يفترقا إلاّ في الوزن».ونظر الشعراء العرب إلى هذه القضية من منظور أنّ الانزياح في الرؤية وفي التركيب هو الذي يميز الشعر. يقول 
أبو نواس (145 – 199 هـ): إنّ الشعر هو قول «الظنون» الشخصية ذات الدلالة الاحتمالية:
غير أنّي قائل ما أتاني
من ظنوني مكذِّبٌ للعيان
آخذ نفسي بتأليف شيءٍ
واحد في اللفظ شتى المعاني
ويرى أبو تمام (205 – 284 هـ) أنّ الشعر «بدع» في التركيب تتجاوز السنن، أي هو انزياح في التركيب يعدل عن المعيار، فيقول عن القوافي:
هي جوهر نثر فإن ألَّفته
بالشِّعر صار قواعداً وعقودا
ولي في تركيبه بدعٌ
شغلت قلبي عن السُّنَن
وجدير بالملاحظة، في قول أبي تمام، هو أنّ الشعر «جوهر نثر» يؤلّف... فالعنصر الأساس هو «الجوهر» المؤلّف في تركيب ـ بدعة.ينظر البحتري إلى جمال الشعر وتأثيره، أي المتعة الجمالية، فيقول:
وكأنّها والسمع معقود بها
وجه الحبيب بدا لعين محبِّه
ويرى المتنبي (303 – 354 هـ) إلى هذه المتعة الجمالية، أو ما سمّاه النقد الحديث «الهزة الجمالية» التي تحدثها اللغة، أو «بدعة التركيب»، فيقول:
وأسمع من ألفاظه اللغة التي
يلذّ بها سمعي وإن ضمّنت شتمي
تميَّز هذه الآراء، استناداً إلى الوزن، بين المنظوم والمنثور، وليس بين الشعر والنثر، وترى أنّ «الشعرية» تتوافر في النص الأدبي، سواء كان منظوماً أو منثوراً، وأنّ تمييز نوع أدبي من آخر إنّما يعود إلى كم الانزياحات وأنواعها، فالوزن انزياح / لازم من انزياحات الشعر، لكنّه ليس انزياحاً كافياً، إذ ينبغي أن تتوافر فيه انزياحات أخرى، وإنّ فَقْدَ انزياح الوزن وتوافر انزياحات أخرى في النص يجعلان منه «شعراً محلولاً» كما قال ابن طباطبا.

عنصر لازم
يمكن القول، في ضوء ما سبق، إنّ الانزياح الإيقاعي، الوزني والنغمي، هو عنصر لازم من عناصر الشّعر، لكنّه عنصر غير كاف، وهذا ما كان حازم القرطاجني قد قاله. قال حازم: الشّعر مخيّل موزون، الوزن يتقدّم به الشعر، ويعد من جملة جوهره، وهو تناسب بين أجزاء الكلام ليس كمّاً (لغة) فحسب، وإنّما صوتاً أيضاً، وهو يأتي موزوناً من دون حاجة إلى معرفة العروض، ما يعني، بلغة أيامنا، ووفاقاً لثنائية العالم اللغوي الفرنسي سوسير، أنّه لغة، وانزياحاته كمّاً ونوعاً هي «الكلام». ويقسّم 
أبو نصر الفارابي (ت 335هـ/950م) الكلام، على أساس عنصرَيْ المحاكاة والوزن إلى أنواع هي:
1 - شعر، وهو «أن يكون قولاً مؤلفاً مما يحاكي الأمر، وأن يكون مقسوماً بأجزاء ينطق بها في أزمنة متساوية، ثمّ سائر ما فيه فليس ضرورياً في قوام جوهره، وإنّما أشياء يصير بها الشعر أفضل».
2 - قول شعري، وهو الخطابة التي تستعمل شيئاً من المحاكاة يسيراً.
3 -  قول خطبي، وهو الأقاويل المقنعة الموزونة. ويرى أنّ التخييل في القول المحاكي، مثل العلم في البرهان، والظن في الجدل، والإقناع في الخطابة.
يفيد ما ذكره حازم القرطاجني (608 – 684 هـ) والفارابي بأنّ الوزن والتخييل هما جوهر الشعر، وهذا ما يقوله خليل حاوي في العصر الحديث: «كل قصيدة تخلو من نمط معين من الإيقاع يميزها من الإيقاع العشوائي، أو المعهود في النثر، لا تخرج عن نطاق النثر، بل من الخير أن تنتقل إلى نطاق النثر، وليس هناك ما يمنعها، إذا توافرت فيها الشروط، من أن تكون نثراً جيّداً وأدباً كبيراً». وهذا ما يفيده استقراء تاريخ الشعر العربي، إذ إنّ الوزن بقي ثابتاً طوال مسار التحوّلات التي عرفها تاريخ هذا الشعر.

نظام إيقاعي
السؤال الذي يُطرح هنا هو: أي وزن؟ هل هو الوزن الخليلي، العروضي؟ في الإجابة عن هذا السؤال، نلحظ أنّ خليل حاوي تحدّث عن «نمط معيّن من الإيقاع» يميز القصيدة من إيقاع النثر العشوائي، أي إنّ المقصود هو نظام إيقاعي ما، وليس حكماً الإيقاع العروضي، والسؤال الآخر الذي يطرح هنا هو: من أين نأتي بهذا الإيقاع؟
يفيد استقراء تاريخ الشعر والدراسات العلمية بأنّ الوزن حاجة عضوية ترافق الانفعال القوي، وبخاصّة ذلك الانفعال الذي يعيشه الشاعر الموهوب، ولعلنا نذكر دلالة اسم «الرجز»، وهو أوّل أشكال الشعر العربي، على هذا النوع من الانفعال.
إن تكن الحالة الانفعالية الشعرية الخاصّة تولد نظاماً إيقاعياً خاصاً، فإنّ البنية الإيقاعية لهذا الشعر الذي يصدر عن هذه الحالة هي بنية شعرية خاصّة، قد لا تكون فردية، وإنّما تاريخيّة، أي إنّ تراكم النماذج في مرحلة تاريخية معينة، يبلور النظام الإيقاعي، من دون أن ننفي الخروج عليه والانزياح عنه في سبيل بلورة نظام إيقاعي جديد.
وهذا ما حدث في شعرنا القديم والحديث، إذ حدثت تحوّلات، ولاتزال هذه التحوّلات تجري، والمشكلة الأساس تتمثل اليوم في بلورة النظام الإيقاعي، في مناخ يغزر فيه الإنتاج المسمّى شعراً، ويستسهل النَّشر، ويغيب النقد النصّي المنهجي الجاد، المنظم، المؤسس المبلور.
وما ينبغي التَّذكير به هو أنَّ الوزن العروضي، ينظم أمرين: أوّلهما عدد الوحدات، التفاعيل، وعدد المقاطع في التفاعيل وتوزيعها. وثانيهما حركة الكلمات في الزمن، وهذا يعني أنّه ينظّم تساوي مدى هذه الحركة... إنّه ينظم نوعاً من التوازن على مستوى عدد المقاطع وتوزيعها وزمن القول المتوازن لكل شطر.
أمّا الموسيقى، موسيقى الحروف والكلمات؛ قوتها ولينها وطولها وقصرها، همسها وجهرها، سرعتها وبطؤها، طبيعة تآلفها الصوتي، طبيعة العلاقات القائمة بينها، فلا يدخل شيء منه في هذا النظام. ولهذا من الطبيعي أن تختلف القصائد، القديمة والحديثة، على هذا المستوى، باختلاف التجربة الشعرية التي تلد نظامها الموسيقي.

جوهر الشعر الثابت
إنّ الوزن المعنيّ، الذي هو جوهر الشعر الثابت، هنا، ليس الوزن الخليلي حكماً، وإنّما هو الوزن/ النظام الذي تمليه التجربة الشعرية، ومن الأدلة على ذلك أنّ الشعر العربي الجاهلي عرف، قبل وضع العروض وتحكُّمه، قصائد ذات أوزان مغايرة لأوزان العروض المعروفة، وقد تحدث عنها بعض النقاد بوصفها قصائد «مضطربة الوزن» أو «شاذَّة».
ويرصد عبدالمحسن فراج القحطاني «نصوصاً تتجاوز ثلاثة عشر نصاً» يحكم العروضيون، كما يقول، أنّها خارجة على أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي. ومن هذه القصائد «بائية عبيد بن الأبرص» التي عدَّها التبريزي إحدى المعلقات العشر. وابن قتيبة إحدى المعلقات السبع، وأبوزيد القرشي إحدى المجمهرات، وقد صدَّر بها جمهرته، ودراستها إيقاعياً تفيد بأنّ إنشادها يستقيم عروضيّاً وتقطيعها لا يستقيم، مما يعني أنّ وزناً /نظاماً آخر كان يصاحب العروض، وهو الإنشاد.الوزن والإنشاد، في الشعر العربي القديم، كانا متلازمين، ثم انفصلا بعد كتابة الشعر.
يقول طه حسين: «ووزن الشعر العربي إنّما هو أثر من آثار الموسيقى والغناء، فالشعر في أوّل أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع». ويعبّر بول فاليري عن مسألة لزوم الإيقاع للشعر بوصفه جوهره بقوله: «وهكذا فبالتوازي مع المشي والرقص، يكتسب الطفل المعرفة، ويميز نمطَيْ الكتابة المتعارضين: النثر والشعر» ■