«على عُهدة حنظلة» رواية التصاق الضمير والمصير

«على عُهدة حنظلة» رواية التصاق الضمير والمصير

في رواية «على عهدة حنظلة» للروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل يبدو بارزاً بقوة التصاق حنظلة، النموذج الفني الافتراضي الممثل للإنسان الفلسطيني البسيط أو العربي عموماً، بناجي العلي بطل الرواية. 

 

تحت وطأة الغيبوبة والموت السريري الذي يعيشه أو يعانيه ناجي العلي في بريطانيا، تتماهى الحدود تماماً بين الفنان ومنتَجه الفني الذي جسّد عبره الألم العربي والفلسطيني بشكل خاص، ويصبح متحداً معه أو يصل إلى النقطة التي يصبح فيها لقاؤهما وارتباطهما جبرياً، ويمثل نقطة العودة إلى الأصل، فالإبداع الذي خرج منه يعود إليه ويسكنه مرة أخرى ويحاوره، وهو جزء منه، وربما يختلف معه أو يتفق. وتتحد الذاكرة بينهما، فتصبح محتويات ذاكرة حنظلة هي نفسها محتويات ذاكرة ناجي العلي، ومن ثم تاريخهما.
في مستويات عدة يمكن ملاحظة هذا الالتصاق، فهو قائم في مستوى اللغة الشعرية المخاتلة أو العامدة إلى صنع هذا اللبس بين ضمير المخاطب الذي يمثل شخصية حنظلة وضمير المتكلم الذي يمثل شخصية ناجي العلي الرسام الفلسطيني الذائع الصيت، وما يحدث بينهما من تبديل في المواقع ومن ثم الضمائر. إن هذا التشابك هو في الأساس تشابك المصير في المقام الأول، ليكون كلا الشخصين مرآة للآخر، وليصبح وجعهما واحداً، أو ليصنع حالاً من وحدة الألم الذي يمثل افتقاد الوطن بشكل من أشكاله مصدراً له.
يتسم خطاب رواية «على عهدة حنظلة» بقدر كبير من الخصوصية النابعة من سمات عدة؛ مثل اللغة التي تتحرك بين الوعي والحقيقة بشكل من المراوحة والمزج المحسوبين بدقة، حيث تتداخل الأصوات والضمائر وتذوب في فضاء الرواية بشكل يحتاج إلى قدر من اليقظة، ويصنع نوعاً من التداخل والدراما العقلية القائمة على الشد والجذب وتبادل الأفكار وصراعها، وتنفتح على تأويلات واجتهادات وتصورات ورؤى عديدة للشخوص حول العام والخاص، حول الحب والزوجة والصحبة والصداقة ومسيرة النضال والعطاء، والتحول منها إلى العام أو العكس في حركة «بندولية» بينهما، حيث القضايا السياسية والمسألة الفلسطينية ومشكلات العروبة والأيديولوجيا ومشكلات اليسار العربي بالتحديد وطموحه. 

تداخل وامتزاج
في سيطرة هذه اللغة المجازفة وغير النمطية والمغايرة كثيراً، يحتاج المتلقي إلى أن يكون في أقصى درجات اليقظة ليقوم بدور الفصل بين هذه الأصوات والضمائر المتقاطعة، حيث تتداخل وداد مع ناجي عبر التخاطر، وناجي مع حنظلة حد الامتزاج في الصحو والغيبوبة وبينهما، ويبدو أنه سيكون كذلك بعد الموت، ثم يمتزج ويتقاطع ناجي وحنظلة مع أصدقاء ناجي، سواء كانوا الفلسطينيين شركاء الوجع والقضية، أو الكويتيين وغيرهم من العرب. 
من جمل قصيرة مكثفة تتداخل وتتقاطع وتتعامد أصوات عدد كبير من الشخصيات بداخل غرفة العناية المركزة التي يرقد فيها ناجي العلي أو «يعيش» موتاً سريرياً، ويسبح في محيط هلامي حليبي الصبغة بوصف الرواية نفسها، ليكون العلي متاخماً لحدود الوعي المشروط بمن حوله واللاوعي المرضي والغياب الطارئ في أي وقت، ويتاخم حدود شخصيته الفنية الافتراضية الأبرز، وهي شخصية حنظلة الطفل الذي ولد كبيراً في العاشرة من عمره ولم يغادرها، ويمنح ظهره دائماً باستمرار للجمهور.
يتحاور ناجي العلي في هذا الرقاد مع حنظلة الذي يبدو بوضوح صورة من صور صاحبه، ولا يختلف عنه في شيء، فيفكر بمنطقه ويرى الأمور وفق رؤيته، فهو في النهاية إنتاجه هو. ويكون قادراً -عبر التخاطر أو الوعي الضعيف بمن حوله - على التواصل مع صديقيه الكويتيين الأقرب إليه.
هذه السمة من التفرع أو التشعبية في لغة الرواية واشتباك ضمائرها تجعل منها مباراة عقلية شعورية ثرية بالنسبة إلى المتلقي، وتجعله في تحدٍ لفرز هذه الأصوات وفك الاشتباك بينها. وتأويلياً يمكن القول إن هذا الاشتباك والتداخل في الضمائر هما بالأساس اشتباك وتشابه في المصير، والرواية برغم اتجاهها إلى أحداث صارت شبه تاريخية مرتبطة بناجي العلي الذي اغتيل في عام 1987م، فهي لا تبتعد كثيراً عن الواقع العربي الراهن، سواء بقضاياه القديمة الممتدة مثل القضية الفلسطينية التي لم يطرأ عليها تغيير، أو القضايا الجديدة التي زادت من الشتات العربي وشردت شعوباً أخرى. لتكون متماسة مع الوجع الجديد الممتد، ولتتماس مع مشاعر القارئ العربي الآن بقضاياه الملحة.

قيمة معرفية خاصة
من الأبعاد الجمالية الأخرى في الرواية تلك المرتبطة بالحوار الفني الذي يقوم به خطابها مع رسوم ناجي العلي ويحاول قراءتها قراءة فنية ويستنبط معانيها أو يحاول تأويلها وتفكيكها، وكذلك القيمة المعرفية الخاصة بفن الرسم ومراحله، وما ينتاب الرسام من التردد أو معاناة البحث عن فكرة ملائمة، وكيف يقيّم نفسه وأفكاره ويحاول التعديل عليها، لتكون الرواية على هذا النحو مقدمة لمنظومة من العلامات المعرفية المرتبطة بفن الرسم الكاريكاتيري ومقاصده، كما تقدم معلومات تاريخية عن المدة التي عاشها ناجي العلي ومثلت فترة ازدهاره ومحاولته التجاوب مع قضايا الوطن العربي والقضية الفلسطينية. 
كما كان الصوت السردي في الرواية؛ سواء كان صوت الشخصية منسوباً لحنظلة أو لناجي العلي أو لإحدى الشخصيات التي تتلاحم مع بعضها وتتشابك إلى درجة كبيرة، يميل كله إلى ممارسة نوع من النقد الفني للرسمات التي أنتجها ناجي العلي أو لم تكتمل أو تراجع عنها، ليكون قد انصهر في خطاب الرواية خطاب فني تشكيلي يمدها بقدر كبير من الثراء والمعلوماتية التاريخية والفنية التي تجعل خطاب الرواية جديداً ومهماً بالنسبة إلى عدد كبير من المتلقين تقديرياً أو احتمالياً. 
يبدو ناجي العلي في غيبوبته أو موته السريري محاطاً بالأحباب والأصدقاء، لكن الرواية لا تكتفي بهذه الحدود في إنبات شخصياتها، بقدر ما تعود إلى الذاكرة لتستمد منها عالماً زاخراً بالشخصيات الأخرى الافتراضية والحقيقية، الواضحة والمعروفة تاريخياً، أو العامة والمجهولة وغير المحددة بشكل حاسم ودقيق، فالرواية تبحث في الأعداء وتفتش عن القاتل، أو بالأحرى من قام بمحاولة الاغتيال التي تبقى محض محاولة طوال الزمن الآني في الرواية.
ومن هذه المحاولة للتفتيش عن القاتل أو العودة للبحث عن أي إشارات أو علامات أو أحداث دالة عليه، ينتج قدر كبير من التشويق الذي يبقى مفتوحاً على كل خطاب الرواية حتى آخرها، حيث الأمل في معرفة أي شيء عن هذا الفاعل المجهول.
ومثل هذا الخط في البحث عن الفاعل عبر التقليب في الذاكرة غير العادية أو غير الطبيعية، يبقى هناك خط آخر في الرواية لا يقل أهمية عنه، وهو الماثل وراء الأمل في تحسُّن حال ناجي العلي وقهر أعدائه بالعودة مرة أخرى إلى الحياة، ومن ثَم الرسم والمقاومة بالفن الذي اختاره سبيلاً له من البداية. 
هذا الأمل في أن تبقى محاولة الاغتيال محض محاولة يهيمن على خطى الرواية حتى آخرها كذلك، برغم ما هو ثابت تاريخياً من موته؛ ذلك لأن حال الأمل بثقلها وهيمنتها على حنظلة وعلى المحيطين حوله كزوجته وداد وحبيبته حنين الكويتية تجعل المتلقي مدفوعاً لتجاوز الحقيقة التاريخية التي تأتي من خارج النص، ويخضع تماماً لهذه الحال من الأمل التي يعيشها غالبية الشخوص الذين يصبح المتلقي واحداً منهم عبر ما تكرسه الرواية لديه من حال التعاطف مع البطل وشخوصها. 

الحقيقي والمتخيل
في غرفة العناية، وعلى مدار شهر هو مدة بقاء ناجي العلي في المستشفى بلندن حتى وفاته، يبدو الإطاران الزماني والمكاني مُحْكَمين بقدر كبير، ولكن الرواية في الحقيقة تتجاوز هذين الإطارين الضيقين - الشهر والغرفة - وتنطلق خارجهما إلى الكويت وإلى فلسطين ولبنان وغيرها من شوارع لندن، ومقرات الصحف التي عمل بها ناجي العلي، أو كان على صلة بها مثل «القبس» و«السفير» و«السياسة».
وفي مستوى المقابلة بين الحقيقي والمتخيل في الرواية والموازنة بينهما، يبدو واضحاً أن الرواية تجنح عن عمد إلى ما يشبه التوثيق وكتابة السيرة الغيرية. فهناك عديد من الشخصيات الحقيقية التي عمل معها ناجي العلي أو كانت تربطه بهم علاقة صداقة وقرابة أفكار وتفاهم، ولعل أبرزهم غانم النجار ووداد زوج ناجي وأولاده كذلك الذين ينحصر حضورهم أحياناً في الشعور بالفراغ والرجاء في عودته ومحاولة تحفيزه وشحذ طاقته.
ثم شخصية إميل حبيبي الكاتب الفلسطيني عضو حزب ركاح الإسرائيلي والمناضل اليساري الذي استلهمه ناجي العلي كثيراً، وشعر بأنه يقترب منه مع خلاف الوسيلة بين الكتابة والرسم. وعلى نحو ما يحضر حنظلة في بؤرة أصوات الرواية وأحداثها بوصفه شخصية افتراضية فنية تحضر شخصية أخرى من النوع نفسه، وهي شخصية سعيد أبي النحس المتشائل التي أنتجها إميل حبيبي، فتحضر بكيفية مغايرة لحنظلة وتلقي بظلالها على النص الذي ينكأ جراح الإنسان العربي الممتدة، ولعله لم يجد مرجعاً يمثل هذا الوجع بمثالية هذين النموذجين (حنظلة وسعيد أبي النحس المتشائل)، والأخير يمثل حضوراً مضاعفاً لصاحبه إميل حبيبي، لأنه منتجه ومخترعه، وعلى نحو ما يمثل حنظلة حضوراً آخر ومضاعفاً لناجي العلي. 
تبدو الشخصيات هنا، وعلى نحو ما سبق توضيحه، مزيجاً من الحقيقي والمتخيل الذي ينتجه الخطاب السردي، ومزيجاً كذلك من التاريخي أو المتحقق بالقوة والافتراضي المتحقق بالفن مثل هاتين الشخصيتين؛ حنظلة والمتشائل. وهو في تقديرنا الأمر الذي يجعل خطاب الرواية يتجاوز فكرة النقل الدرامي أو السطحي لواقعة الاغتيال إلى محاولة تمثيل العالم المحيط بها بكل أفكاره وتجلياته المتنوعة، فالتحقق له مصادر عدة، وذلك الذي أنتجه الرسم أو السرد يبدو بعد مدة فارضاً لحضوره وثقله على نحو لا يختلف في أهميته وتأثيره عن الشخصيات الحقيقية التي ربما تقترب من حدود البطولة.
حنظلة، على سبيل التمثيل، يحضر في خطاب الرواية وفي مدة الثلاثين يوماً في غرفة العناية  بملامح البطل المراوغ الذي يأخذ عدة صفات جديدة عما بدا عليه في رسوم ناجي العلي، ويجعله إسماعيل فهد إسماعيل يعود إلى مصدره/ مُنتِجه ويستمد منه صفاته من الإصرار والمقاومة والعناد والتحدي.
يبدو مراوغاً ومحاوراً ومجادلاً لا ينهزم أو يستسلم، ويبدو ماكراً وفكاهياً ولمّاحاً، وغيرها من الصفات الأخرى التي تنبت كلها من المصدر، وتجعله ذا ملامح كاملة ومستقلة من حيث الحركة والقدرة على الوعي، بخلاف صاحبه ناجي العلي الذي صار ساكناً أو مسلوب الإرادة.

خطاب ثري منفتح
الحقيقة أن حوار الرواية وتناصها مع فنون ونصوص أخرى ينفتحان كذلك على صوت محمود درويش الذي يفتتح كل فصل بمقطع شعري له، يرتبط بالقضية الفلسطينية أو بالشعر الذي قاله درويش في العلي. لتبدو الرواية خطاباً ثرياً منفتحاً على الإبداع الفلسطيني أو العربي الذي قارب القضية أو مسها أو مس حياة ناجي العلي، في حال من الذوبان الإنساني والفني الذي يجاوز الحشد، ويصنع ما يشبه الملحمة أو القضية التي تجتمع عليها أطراف عدة، وكي لا يبدو ناجي العلي سالكاً لسبيل شاذ أو متروك، بقدر ما يبدو محاطاً بغيره من السالكين الآخرين الذين ربما لا يختلف عنهم إلا في صراحته وسرعة تأثيره وسرعة نفاذ رسوماته نحو قلوب أعداء القضية كرصاصات ملحة على القتل.
ووفق لعبة الأصوات وجمعها التي كانت من البداية هواية خاصة لهذه الرواية، يمكن القول إنه نتج عن هذا التداخل لأصوات عدة مرتبطة بالقضية قيمة دلالية واضحة، وهي أن القضية الموجعة صارت تمثل ضميراً مشتركاً لعدد غير قليل من المخلصين على مر العصور مهما بدا الأمر على النقيض من ذلك. فهذه الأصوات المختلفة اتحد صوتها في صوت القضية/ الوجع المشترك، وانصهرت في بوتقة واحدة، وصار كل واحد بإمكانه أن يتحدث عن الآخر، فلا فرق بين ناجي العلي ودرويش وحبيبي وحنظلة وأبي سعيد المتشائل.
يقول محمود درويش في أحد المقتبسات التي يصدّر بها إسماعيل فهد الفصل السادس متحدثاً عن ناجي العلي: «ناجي يقطر ويدمر ويفجر، لا ينتقم بقدر ما يشك، ودائما يتصبب أعداء». (الرواية ص97).
ويفعل الأمر نفسه حين يجتزئ فقرات من رواية حبيبي المعروفة «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل». في مرآة رواية حنظلة ينعكس واضحاً الشتات على ملامح الإنسان العربي وليس الأمر مقصوراً على الفلسطينيين فقط، إذ إن حنين الكويتية هي الأخرى تفتقد بصورة ما وطنها وتشعر بالحنين إليه بشكل من الأشكال، فكأن المنطقة كلها لها أوجاعها المشتركة التي تنهش الإنسان العربي في المجمل ■