الإعلام الثقافي في العالم العربي
حلقة حوارية أعدتها للنشر: مازال الإعلام العربي في أغلبه، وخاصة منه العمومي بعد ما يسمى بالربيع العربي، يتنافس على استضافة السياسيين ويتناقل أخبار الإرهابيين والمجرمين بشكل مكثف، وكبر التنافس بين وسائل الإعلام لاستضافة مثيري الشغب والفضائح السياسية والمالية وهُمشت الثقافة والمثقفون، بل إن بعض السياسيين ذهبوا إلى اعتبار الثقافة من قبيل الرفاه والزمن ليس زمنها، نظراً لجهلهم الشديد بأن التنظير للثورات أو الحراك الاجتماعي يسبقه عادة ثورة في الفنون والفكر، كما حدث في عصر النهضة في أوربا مع مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي، أو ما حدث على سبيل المثال في الفترة التي سبقت الثورة الفرنسية حيث نظر إليها جان جاك روسو في كتابه «العقد الاجتماعي» ومونتسكيو في كتابه «روح القوانين» على سبيل المثال لا الحصر.
بدأ المهتمون بالشأن الثقافي يتساءلون: ما الذي يمكن في هذه الظروف أن يكون أهم من المعرفة ومما يفكر فيه الناس ليتواصلوا وليحلموا وليحيوا وليسمحوا للآخرين بالحياة، وكان لابد من الحديث في هذا الموضوع، لأن أحد أكبر مواضع الوجع في تونس هي الثقافة، على اعتبار أن الإعلام في تونس متهم أيضاً بتبييض الأموال والإرهاب، وبأنه أداة في يد مافيات المال والسياسة.
ومن أجل تناول مسألة الإعلام الثقافي في تونس نظمنا ندوة مع أهم وجوه الإعلام الثقافي في وسائل الإعلام المختلفة واستضفنا كلاً من الأستاذ عزالدين المدني الكاتب المسرحي والروائي والناقد وصاحب ومؤسس جريدة الأسبوع الثقافي، والأستاذة رشا التونسي الإعلامية المعروفة ومعدة ومقدمة برنامج أهواء المهتم بالشأن الثقافي على القناة الوطنية الثانية، والأستاذ منصف المؤذن، الصحفي وصاحب ومؤسس موقع هنا تونس بجريدته الإلكترونية وقناتيه الإذاعية والتلفزية، والأستاذة بسمة السلطاني رئيسة مصلحة البرامج بإذاعة تونس الثقافية بعد تجربة طويلة بين إذاعة الكاف الجهوية وإذاعة الشباب ثم الإذاعة الوطنية.
صعوبة إعداد برنامج ثقافي للتلفزيون
وانطلق الحوار بسؤال الأستاذة رشا التونسي عن مدى صعوبة إعداد برنامج ثقافي في قناة تلفزية عمومية، وهل يهتم المثقفون بحضور مثل هذه البرامج، على اعتبار أن المثقفين في تونس غالباً ما يتجنبون وسائل الإعلام الرسمية التي أشارت إلى أن من حسن حظها أنها انطلقت في إعداد وتقديم البرنامج بعد أربع سنوات من التشنج في القنوات التلفزية.. بعد أن أصبح الناس في أمسِّ الحاجة إلى نَفَس مختلف. وتقول الأستاذة رشا في هذا الإطار إنها قدمت مادة تلفزيونية مختلفة، ذلك أن «أهواء»، وهو عنوان البرنامج يقدم مادة ثقافية في متناول المتلقي العادي ولا تحتاج إلى تكوين أكاديمي، مضيفة أن ردها كان سيختلف لو سئلت قبل سنتين أو ثلاث، مشيدة بجريدة المغرب الأسبوعية، حيث أشرفت الأستاذة رشا على تكوين فريقها الصحفي، فخصصت للثقافة أربع صفحات، بينما كان رد المسؤولين عن صحيفة أخرى حين اقترحت عليها تخصيص باب للثقافة أن الوقت ليس مناسباً وإن كان ليس من اليسير اليوم تقديم ثقافة في مستوى قدرة استيعاب القارئ أو المستمع أو المشاهد. لكن الظرف مهيأ نوعا ما لتقبُّل المادة الثقافية بسبب سأم الناس من السياسة والحديث فيها، فالظرف الآن ظرف الثقافة بامتياز، ولا بد للإعلام أن ينتهز هذه الفرصة.
رهان على الثقافة
وحول تقبّل القارئ التونسي لجريدة مختصة في الثقافة وهي الأسبوع الثقافي، خصوصاً أن أغلب قرّاء الجرائد اليوم يهتمون بالصفحات الاجتماعية ومتابعة أخبار الجرائم والرياضة أشار الكاتب الكبير الأستاذ عز الدين المدني إلى أنه خلال عام 2011 أصدر مع مجموعة من المثقفين والإعلاميين «الأسبوع الثقافي» والتي تكلف إصدارها مبلغاً كبيراً وإن كانت الخسارة المادية ليست مهمة، لكن المشكلة الأساسية تمثلت في أن الناس لم تتقبل الثقافة أو لم يتقبلوا ما قدمناه... ربما لو قدمنا مغريات مثل القضايا الإجرامية والسياسة وقليلاً مما يقوله الحقوقيون وشيئاً من السب والشتم ربما كان يمكن أن تنجح الجريدة، لكننا راهنا على الثقافة وأردناها أن تكون أولاً وأخيراً محور اهتمام الجريدة.
وحول ما إذا كان هذا الرهان صائباً أي أن نقدم الثقافة دون مغريات أخرى، خاصة في المجتمع التونسي المتهم بأنه لا يقرأ، يرى المدني أنه في هذا المجال تحديداً لابد من الواقعية، فكم من التونسيين يحسن القراءة والكتابة أو يهتم بالثقافة ويقتني الجرائد أو يهتم ببرنامج ثقافي أو تحقيق؟! وهذا يجعله يشعر بأن هذا المشروع مثله مثل مشروع «دون كيشوت» خصوصاً في 2011 في ذروة الصراع وذروة الكلام الفارغ والجري وراء المناصب والخصومات وتدليس المبادئ واشترك في المعارك الذين لا يعلمون، وهي من المضحكات المبكيات في تونس في تلك الفترة، وبعد خمسة أعداد سلّمنا أمرنا إلى الله، والحقيقة أن بعض المثقفين شتموا هذه المبادرة. المهم أن بعض الناس يرون، وأنا منهم، أن الثقافة ليست بهلواناً يُراد منه الإضحاك أو أنها قطعة حلوى بعد وجبة دسمة، مشيراً إلى أن تونس لم تكن قط كما هي اليوم، إذ كثرت اليوم الغوغاء والجهلة، والإنسان عدو ما يجهل. في الجريدة لم نتحدث عن الفلسفة أو علم الكلام، تحدثنا في الأشياء التي في مستوى الشعب التونسي, في الفن والأدب والمسرح والموسيقى: الثقافة هي العنصر الأساسي لأي حياة سياسية وفكرية واقتصادية ومالية وهي أساسية، هكذا كان يقول بورقيبة، من الأفضل أن تحكم شعباً مثقفاً على أن تحكم شعباً جاهلاً، إذ من السهل قيادة الجهلة، وتصعب قيادة المثقفين بسبب النقد لأن المثقفين نقّاد وبينهم وبين الأشياء مسافات.
ويرى المدني أن بعض الإعلاميين يستبعدون المثقفين لأنهم يسببون قلقاً للناس، فالمثقف يتصور تونس على غير ما يتصورها السياسي ورجل الاقتصاد. إذ في كثير من البلدان يتكلم المثقفون في الثقافة وعن الآفاق perspectives، لكن في تونس أُبعد المثقفون من التلفزيون والإذاعة والجرائد، لأن الثقافة أصبحت إزعاجاً، رغم أن المثقف لا يفرض أفكاراً لأنه ليس سياسياً، والسياسي لا يساوي مثقفاً.
ففي فرنسا يطرح اليوم المثقفون قضية اللاجئين السوريين على التراب الفرنسي، إذ إن الفيلسوف الفرنسي Michel Onfray وكثيرون غيره يعتبرون أن الموضوع على رأس قائمة التفكير الفرنسي الحر.
وقد خصصت جريدة Le monde صفحتين للموضوع، إذ إن الفيلسوف يخاطب السياسي وغيره من المفكرين الفرنسيين، وهنا يأتي دور الإعلام.
وإذ يعود إلى الحديث عن تونس، يتساءل المدني عن سبب اختفاء النقاشات التي كانت تعج بها تونس رغم وجود الحزب الواحد زمن بورقيبة، الناس صامتون اليوم والسياسيون لا يتحاورون مع المثقفين.
الإذاعة مشروع لتقديم الثقافة
وترى بسمة السلطاني، أن هذه الإذاعة زمن إنشائها كانت مشروعاً لتقديم الثقافة لكل التونسيين، لكنها مع الوقت اتجهت إلى أن تكون إذاعة ثقافية للمثقفين وفي تونس كثيرا ما يختلط الأمر على الناس، فيصبح المثقف هو من ارتاد الجامعة أو الذي يتكلم بغموض.
وتعتقد السلطاني أن السؤال المطروح اليوم في علاقة الإعلام بالثقافة هو: هل تبرأ الإعلام من الثقافة؟
وهي تعتبر، إجابة عن هذا التساؤل، أن إذاعة تونس الثقافية التي انطلقت في البث سنة 2006 ليست معروفة بالشكل الكافي في الوسط الثقافي بعد قرابة عشر سنوات من العمل، وقد كانت في منطلقاتها وبغض النظر عن الأهداف السياسية وحتى السياسوية من بعثها، كانت تهتم بالمبدع وبالمهتم بالثقافة. وعموماً، فإن الإذاعة التونسية أسست على الثقافة وعلى استقطاب المثقفين الذين أثروا بدورهم المشهد الإعلامي في تونس حتى قبل الاستقلال، ذلك أن الجزء الفرنسي من الإذاعة أشرف عليه الشاعر الفرنسي الكبير فيليبي سوبو.
كما أشرف المؤرخ الكبير عثمان الكعاك على إدارة البرامج في الإذاعة، لكن حالياً لا وجه للمقارنة بين الثقافة في الإذاعة بين الأمس واليوم.
أما عن الإذاعة الثقافية، فتشير السلطاني إلى أن من يؤسس البرامج فيها هم مجموعة من الأسماء المهمة في عالم الثقافة.
وللإجابة عن تساؤل البعض حول تكريس الإعلام العمومي والخاص لبعض الأسماء دون غيرها، حتى احتكروا الحديث في الثقافة وفي البرامج الثقافية والذين كرست لهم أيضاً الإذاعة الثقافية التي لم يكن لها جرأة الانفتاح على الثقافة الأخرى المختلفة عن السائد، أشارت بسمة إلى أن إذاعة تونس الثقافية في مختلف شبكاتها كانت دائماً تفتح المجال لكل مواطن يأنس في نفسه الكفاءة، وما عليه إلا أن يتقدم بمشروع برنامج.
مع ملاحظة أن بعض معدي ومقدمي البرامج يستسهلون العمل، وحتى بعض الإداريين، فتتم دعوة هؤلاء المشار لهم آنفاً، على أن بعض المثقفين يتخذون مواقف سلبية من الإعلام العمومي أو الرسمي، وعندما تتم دعوتهم لإعداد وتقديم البرامج يرفضون بتعلة أنهم يكتبون مقال الرأي أو الدراسات فقط، بل إن بعضهم يحتقر الإعلام ويعتبره من شؤون العامة، خصوصاً إذا طلب منه تقريب الفلسفة والعلوم والفنون إلى المواطن، وهذا هو دورنا باعتبارنا مرفقا عمومياً، فقليلون هم الذين يتجاوبون معنا ويقبلون الحديث في الفلسفة والتصوف وعلم الكلام بما يتناسب والمستوى العام للناس.
والفرق كبير بين ما يوضع بين دفتي كتاب وما يقدم في الإذاعة للمستمع، فمقاييس إعداد البرامج مختلفة لكن ما يطرح أمامي هو تكريس فكرة ثانوية الثقافة أو تهميشها حتى في نشرات الأخبار، فآخر ما يُعرض فيها هو ما يتعلق بالثقافة، كما تتخصص الأوقات التي تنخفض فيها نسبة المشاهدة ونسبة الاستماع في التلفزيونات والإذاعات للبرامج الثقافية، وبهذا ترسخت فكرة أن الثقافة جزء من الإعلام في حين أن الإعلام، حسب رأي الأستاذة بسمة، هو جزء من الثقافة، وعليه أن «يقوي عضلاته» بها ويستلهم من الثقافة كل ما يقدم، كما ترى أيضاً أن الوضع الراهن في تونس وبعد أحداث يناير 2014 يبرر مطالبة الكثيرين بثورة ثقافية بسبب هذا الخواء والفراغ الثقافي في البلاد، وأن ما يقدم من أعمال فنية فيه كثير من المباشرة لتخلص إلى القول «نحن فعلاً في أزمة ثقافة في تونس».
من «الورقي» إلى «الرقمي»
وحول رأي الأستاذ منصف المؤذن صاحب التجربة الطويلة في الكتابة الصحفية وفي إدارة الصحف ومؤسس وصاحب موقع «هنا تونس» الإلكتروني بخصوص اتهام المحمل الرقمي بأنه حمّال قمامة حتى في الثقافة أكثر منه حمال معان، فكيف يمكن استعمال هذه الأداة الجديدة لتكريس القيم والثقافة، خصوصاً أنها أداة متاحة للجميع والرقابة عليها عسيرة؟ وبسبب هذا اليسر في الوصول إلى الجمهور دخلت عن طريق الوسائط الجديدة إلى اللهجة الدارجة كثير من المفردات القبيحة التي كانت سجينة الأماكن المغلقة وانطلقت اليوم حرة في الشوارع، وكيف يمكن مراقبة هذا المتاح السهل الذي أتى به المحمل الرقمي؟
عن هذا السؤال إذا كان رد المؤذن أنه لا وجود لجمهور ثقافي في تونس فقد خضت تجربة إصدار ملحق ثقافي لجريدتي، لكنه فشل تماماً، لأن الثقافة في تونس لا تضمن لقمة العيش ولا نملك هياكل تستطيع الصمود. كما أشار إلى أنه من حسن حظه أنه كان يتابع نشاط نادي أبي القاسم الشابي بمنطقة الوردية، وكان النادي ينظم لقاءات وينشر بعض الأعمال، لكن كل هذا اختفى الآن ولمجابهة هذه الأزمة ونشر الثقافة عبر وسائل الإعلام يرى المنصف أن على المؤسسات الاقتصادية أن تهتم بالثقافة فتتكفل بطباعة كتاب مثلاً وتتبنى غير ذلك من الأنشطة الثقافية، وبذلك سيتغير وجه البلاد خلال خمس سنوات فقط، لا أحد اليوم يغامر بإصدار مجلة، لذلك يمكن استغلال هذه التقنيات الجديدة المتاحة، فتونس تصدر أكثر من 60 صحيفة تبيع كلها 118 ألف نسخة فقط يومياً، بينما يطلع يومياً 6 ملايين ونصف المليون على المواقع الإخبارية من هواتفهم الذكية، فلابد إذن من استخدام هذه الأدوات في الثقافة وستكون النتائج مدهشة.
لكن الأستاذة رشا التونسي تخالفه الرأي بخصوص تبني المؤسسات الاقتصادية للبرامج والكتاب، وتتساءل: وماذا بعد أن يحصل ذلك؟ أين المتابع؟ وأين القارئ؟ وترى أنه لابد من إعادة تأسيس، فتونس كانت بلد ثقافة، إذ في «دار الثقافة ابن خلدون» كان الأستاذ عز الدين المدني يشرف على نادي الخميس الثقافي، وكان يصدر مجلة ثقافة وملحق العمل الثقافي، والآن لابد من إرساء ثقافة الثقافة، فإذا لم نؤسس لقارئ ومستمع ومشاهد فلا فائدة من كل ما يقال.
وفي رد على ما قالته السلطاني حول إذاعة تونس الثقافية ترى التونسي أن هذه الإذاعة تغيرت في السنوات الأخيرة وأصبحت تشبه إلى حد كبير الإذاعة الوطنية، لأنها دخلت مجال الحديث في السياسة وعنها، ووقعت في فخ فكرة إرضاء المستمع لأنك عندما تخاطر بمشروع ثقافي انتظر حتى يأتيك المتلقي، فإذا انتظرته ولم يأتِ واستعجلت الذهاب إليه لتعطيه طبعاً جاهزاً على مزاجه فكأنك لم تفعل شيئاً.
وتعتقد الأستاذة رشا أن العمل في مجال الإعلام الثقافي هو نوع من الحب والوله والغرام: «إذا لم تحب الثقافة لا يمكن أن تعمل في مجالها، لذلك أظن أني نجحت في مجال عملي، رغم أن ضيوفي نخبويون، لكننا مع ذلك نخاطب كل الناس... وحالياً هناك استقبال جيد من المواطن للإعلام الثقافي على ألا يكون أكاديمياً... الناس يحتاجون الآن إلى الثقافة.
وتضيف التونسي أنه «يتم اليوم تحميل الإعلاميين مسؤولية كل المصائب إذا تكلموا وإذا صمتوا... نحتاج اليوم رغم شيطنة الإعلام إلى الحديث في الدين وفي السياسة... الناس مبالون فعلاً، ورغم أني كنت يائسة أصبح اليوم عندي أمل في هذا الشعب».
هشاشة الهياكل الثقافية
وفي تعليق على ما سبق من حوار يقول الأستاذ عز الدين المدني:
«أردت أن أسوق بعض الملاحظات... العلة الأساسية للثقافة في تونس هي أن الهياكل الثقافية على المستويين الخاص والعام هشة منذ وضع الخطتين الأولى والثانية في تونس... لم يقع تطوير للهياكل، بل حصل العكس».
ويخلص المدني إلى القـــول «إنه لا يـــمكن في تونس الاعتماد على هياكل قوية منيعة، ولا يمكن في هذا المجال مقارنتنا بالمغــــرب الأقصى، إذ يعتمد في الفن على قوة الهيكل ليمكن أن يصل الإنتاج... وقد فقدت الهياكــل الثقافية في تونس دورها وفاعليتـــــها في نشر الثقافة، لذلك نجد تصحراً في الثقافـــــة التونسية، لأن السلطة كانت فـــــي يد الوزير ورئيس البلدية، وكان العمل يتم وفقاً لخططه وتوجيـــهاته، وهذا ما يقوم به الحزب الواحد وهي طريقة عمل منعت وجود هــــياكل قوية تضـــمن تواصــل العمل بين الأجيال».
وفي عودة إلى «إذاعة تونس الثقافية» التي لا تلتقط موجاتها في كل تراب الجمهورية تشير السلطاني إلى أن عوائق كثيرة تقف أمام الإنتاج الإذاعي الثقافي، فالإعلام الخاص مثلا يوفر التنقل ويدفع مقابلاً مالياً للحضور، وغالباً ما تكون ظروف العمل أحسن، رغم أن الإعلام العمومي يمتلك إمكانات دولة، ولا شيء يمنع تحسين ظروف إنتاج البرامج الثقافية، ما العائق إذاً؟ يبقى السؤال مطروحاً.
وفي الحقيقة وقعنا في كثير من الأحيان في مواقف محرجة من هذا النوع، لأننا نكون مضطرين إلى شرح الظروف لمعد برنامج ثقافي يكافأ على محاضرة من عشرين دقيقة بضعف ما يحصل عليه من إعداد وتقديم برنامج ثقافي من ساعتين من البث، وهكذا تقع في حرج شرح وضعية الميزانية وصعوبات العمل في المرفق العمومي، ولكم أن تتخيلوا حرج إقناع المثقفين بقيمة العمل من أجل الوطن ومن أجل الثوابت الوطنية، وأننا لا نعمل في محل تجاري. وتخلص الأستاذة بسمة إلى أن الواقع مر، وأن العاملين في القطاع لهم وعي كامل بخطورة الأمر، لكن الظروف لا تتحسن والمسؤولين لا يسعون لتحسينها.
ومشكلة الإنتاج في تونس تعاني المعضلة نفسها في الإذاعة وفي التلفزيون، كما ترى أن عقلية الإنتاج في الإذاعة الثقافية ليست متطورة في إذاعة تونس الثقافية، فغيرنا يخطط لسنوات ونحن نعد لكل شيء في الوقت الحرج... الشبكة البرامجية تعد في الساعات الأخيرة قبل انطلاقها، وكذلك مسلسلات رمضان وغيرها، وهذه العقلية تترسخ أكثر، خاصة في ظل الاضطراب الحاصل اليوم في الإعلام والثقافة وتضيف، «يبدو لي أنه حان الوقت لضبط استراتيجيات للعمل الإعلامي الثقافي الخاص والعمومي، فالقنوات اليوم بلا لون ولا رائحة ولا طعم... ليس هناك وضوح في الخط التحريري».
وتلح الأستاذة بسمة على تحية مجموعة ممن بادروا بكل حماسة وتقدموا لخدمة الثقافة فيمنحونك وقتهم وجهدهم، فالبعض يأتي من داخل الجمهورية لحضور حلقة يقدم فيها كتاباً أو قصيداً على نفقته الخاصة، وهذه نقطة مضيئة في إذاعة تونس الثقافية رغم أن بعض الإعلاميين ينفرون المثقف والمستمع المهتم بالشأن الثقافي، وتخلص بسمة إلى أن المادة الثقافية ليست جماهيرية، فإذا استطعنا التأثير في مستمع فقط فهذا يكفينا.
التلفزيون في أيدي المستثمرين
أما الأستاذة رشا التونسي فترى، للإجابة عن سؤال حول تبني المستثمرين والمستشهرين للأعمال الثقافية التلفزيونية كما يفعلون مع برامج الألعاب وبرامج ما يسمى بتلفزيون الواقع المعتمد على نشر الغسيل القذر للعائلات على الملأ، تقول ضيفتنا إنها تحبذ العمل في التلفزيون الرسمي أو الإذاعة الرسمية، فرغم مغريات العمل في القنوات الخاصة والعروض التي قدمت لها فالمسألة مسألة خيارات وليست مرتبطة بالمغريات المالية التي لا يمكن الحديث عنها أو مقارنتها بالقطاع الخاص حين يتعلق الأمر بالمرفق العمومي.
وترى ضيفتنا أنه لابد من تكوين معدي البرامج الثقافية داخل المؤسسات الإعلامية الرسمية، إذ هناك قليلون فيها مؤهلون لإعداد مثل هذه البرامج، فليس الانتماء للمؤسسة مبرراً لكي يمنح هؤلاء مساحات زمنية على الشاشة يتابعها ملايين من الناس.
أما عن الاستشهار والتمويل فتعترف التونسي بأن البرامج الثقافية هي الأفقر، وحتى إذا تمكن صاحب البرنامج من إقناع المستشهرين تؤول الأموال إلى البرامج الأخرى، وكأن الثقافة ترف أو فائض.
ورغم أنها- كما تقول - تقدم ثقافة للناس عموماً وليست نخبوية، فقد عرض أحد رجال الأعمال تبني برنامجها «أهواء»، وهو أمر مشجع لأن الأستاذة رشا تأمل أن تتمكن من دعوة كتاب ومثقفين عرب، كما يمكنها أن تشتري كتباً لتقدمها هدايا للضيوف والمشاركين، كما تتمنى إقامة مجالس أدبية.
وتشير الأستاذة رشا إلى أنها تركز الآن على تونس، لأن خدمة الثقافة لابد أن تبدأ محليا، وأنها بعد أكثر من عشرين حلقة لم يتكرر ضيف في حلقتين، وهذا يعني أن تونس ثرية بالمبدعين، وإن كانت أيضاً تحلم بالانفتاح ولو قليلاً وإن اقتصر الأمر على بلدان المغرب الكبير... اليوم تقدَّم للبرنامج ممول ولا تدري الأستاذة رشا إن كانت الإدارة ستــقبل تبنيه لبرنامج ثقافي أم لا.
ويرى المؤذن أن الإعلام الرقمي هو أخطر المحامل اليوم، وأن المهم هو ضبط خطة واضحة فيها حوافز وتشجيــــع وتأطيــــر وتكــــوين يبدأ من المدرسة ومراحل التعليم عموماً، فهو يرى أن البلاد تحتاج إلى تغيير العقليات حتى نحسن التعامل مع الثقافة... الناس تحتاج إلى تعلم الانضباط واحترام الآخر حتى يجد الأفراد أرضية للحديث في الثقافة بـالمواقع الإلكترونية، الحوافز ضرورية لنشر الثقافة. ورداً على استفسار التونسي عن القصد من الحوافز، هل هي مادية؟ يرد المؤذن بالتأكيد على فكرة الحوافز المادية، فحسب رأيه تلك هي الحياة، على أن هذه الحوافز يمكن أن تكون في شكل رحلة أو زيارة، إضافة إلى الحوافز المالية.
بينما يتواصــــل احتـــجاج التونسي التـــي ترى أن هذه الطريقة تعـــلم الناس أن الأخـــــلاق تكون مقابل المال أو المنفعة، وهذا خطر يرى المؤذن أنه لابد من الانطلاق من حد أدنى من أخلاق التعامل، وإذا كانت الحوافز في شكل بطاقات سفر فهذا يساهم في الانفتاح والتطور، فالتعرف على الآخر هو النور الحقيقي والثقافة الحقيقية، فإذا أمكن لنا تعليم القيم في الصغر، فسيأتي الباقي بشكل طبيعي.
بينما يتجه الأستاذ المدني إلى تشخيص الحالة التونسية، فيرى «أن ما حدث في تونس ليس ثورة» لأن الجانب الفكري لم يكن موجوداً... فلو كانت الثورة حقيقية لكان فيها جانب فكري، فما طرح كان خصومة بين جماعة الإنترنت وجماعة الكتب.
فقد وقع اختلاط في الأفكار، أي إن جماعة الإنترنت ضد الكتاب والعكس صحيح، وهي مسألة يرى المدني أنها مغلوطة... هي أشياء تتكامل، فهذا التقسيم جعل الصراع يشبه صراع الكباش، فقد فقدت الضوابط في الأخلاق والسلوك، ولا يمكن إرجاعهما بسهولة. ويسأل الكاتب الكبير: «هل القانون في تونس هو من الضوابط الأساسية التي يمكن أن تعوض المسؤول أم لا؟» ويجيب أنه لابد من رادع ومنظم، وهو القانون، فالنظام الديمقراطي يحترم القانون والمجتمع يسير بالقانون، وهو ما سيعوض النظام السابق، وينتهي تحليل المدني إلى أن الشعب التونسي مازال مبتدئاً في وعيه بالقانون والتزامه به.
الإعلام الثقافي واسطة خير
كان لابد في هذا المستوى من طرح السؤال حول ماذا يمكن أن يصنع الإعلام الثقافي في هذا؟ وللإجابة يعتبر المدني أن الإعلام الثقافي واسطة خير بين المثقفين، ولابد لفهمه من تحديد معنى المثقف. هل هو من يكتب الشعر فقط؟ إنها أفكار قديمة ومضحكة، فالمثقف ليس فقط المسرحي أو السينمائي أو الموسيقي... المثقف اقتصادي ومعماري أيضاً، لأن الثقافة ليست آداباً وفنوناً فقط، وإلا كيف نصنِّف العلوم الإنسانية والاجتماعية، هل نزيحها من مجال الثقافة؟!
ويواصل المدني تعريته للحقائق، فيرى أن التونسي المتعلم مازال يحتقر نفسه ولا يعرف معنى النقد، لأن الثقافة والنقد أمر واحد، فإذا لم تكن ناقداً لا يمكن أن تقوم بالمراجعات، ولا يمكنك أن تطرح الأسئلة المحرقة، فالثقافة هي نقد محرق والعلوم الاجتماعية والإنسانية هي التي تعلم النقد وتعلم معنى أن تكون هنا وفي العالم، معنى أنت والآخر... الآخر القريب والآخر البعيد.
أما عن كيفية التوفيق بين إعلام ثقافي والمعطى الجديد المتمثل في حرية التعبير، فترى التونسي أن حرية التعبير لابد أن تكون مضمونة للإعلام بكل أشكاله وليست خاصة بالإعلام الثقافي فقط.
وهي حرية حتماً لها سقف، إذ لولا ذلك لما كان هناك قانون الصحافة، لكننا في تونس وخلال أربع سنوات أثبتنا أننا لسنا أهلاً لحرية التعبير، إذ تحول الأمر إلى انفلات وفوضى، وإن كانت ترى أيضاً أن الثقافة لا تحتاج إلى هذه الحرية، لأنها في ذاتها حرية. ومن يخاف الثقافة هو من لا يفهمها ومراقبو البرامج الثقافية غالباً لا يفهمون الثقافة، وهنا تموت حرية التعبير.. حين تبني مسرحاً تغلق سجناً، ومثلاً كاتب ياسين في الجزائر قدم مسرحاً في الشارع باللهجات المحلية الجزائرية... جربوا اليوم أن تفعلوا ذلك، وسوف ترون ماذا سيحدث.
وتتفق معها في الطرح نفسه الأستاذة بسمة السلطاني التي ترى أن الثقافة حرية أو لا تكون... ولتكون مثقفاً لابد أن تكون قد قرأت لليساري والمتزمت وغيرهما... أن تقرأ داروين والغزالي وحتى سيد قطب وابن تيمية لتتمكن من صنع توازنك وتتعرف على كل الآراء... لتختار.
فالثقافة في تعريفها اللغوي البسيط... ثقف العود، أي هذبه وشذبه ونزع عنه الزوائد. بينما يرى المؤذن أنه وتحت مسمى حرية التعبير تحصل كثير من التجاوزات، إذ الموضة اليوم أن يدَّعي البعض امتلاكهم لملفات خطيرة، ويهددون بكشفها، ثم لا شيء... لابد هنا من تفعيل القانون بكل صرامة.. من لا يملك الدليل عليه أن يصمت.
وحرية التعبير في النظم الجديدة تعتبر مشكلة وفق المدني، لأنها لم تنضج، فالخطاب الإعلامي لا يخضع لأي قيود سياسية ولا أخلاقية... غير أن تونس كما يرى ضيفنا الكريم لم تعد تحتفل بالابتكار وهذه مشكلة... فالشاب الذي صنع صاروخاً وضع في السجن.. ويرى المدني أن المشكلة هنا فكرية، لأن من زج بهذا المخترع في زنزانة لم يفهمه، فأساس أي مجتمع هو الابتكار والبحث.، سواء كان في الآداب أو الفنون أو العلوم، فإذا اختفى البحث كيف نتحدث عن حرية التعبير؟
في ختام اللقاء أشارت الأستاذة رشا إلى أن الإعلام الثقافي متعب فإذا فُرضت عليه قيود انتهى.
أما الأستاذة بسمة فترى أن تونس تعرف أزمة تثمين مجهود المبدعين الكبار.. يحاربون النجاح، وفي هذا نحتاج إلى تحليل شخصيتنا وأن نعود إلى أنفسنا ونضع المعايير لنمارس الثقافة بمفهومها الكبير وتوافقها. وأنهت الأستاذة رشا المتفائلة اللقاء بأن إنقاذ الثقافة ممكن عن طريق الإعلام الثقافي ■