إتيــان دينيــه فنان غيّر مفهوم الفن الاستشراقي

إتيــان دينيــه فنان غيّر مفهوم الفن الاستشراقي

حقيقة لا نستطيع انكارها أن الفنان الفرنسي الفونس إتيان دينيه (1861 - 1929)، أو الحاج ناصر الدين دينيه، هو فنان استثنائي بكل المقاييس، فقد رفض أن يكون فناناً استشراقياً كبقية المستشرقين يكتفي بالسفر إلى الشرق ليعود بمجموعة من لوحات تخلد الحياة الشرقية، بل تحول هو نفسه إلى جزء من هذه الحياة.

 

ولد دينيه في عائلة فرنسية برجوازية عام 1861 لأب يعمل بالقانون، وبناء على مهنة والده، فهو ينتمي إلى طبقة النبلاء. نشأ في بلدة ذات طبيعة خلابة تسمي إيرسي في قصر رائع على ضفاف نهر السين، ومنذ صغره كان يميل نحو العزلة، فلا صحبة له سوى فرشاته وألوانه لممارسة الرسم. وضع منذ سن العاشرة في مدرسة هنري الرابع الداخلية في باريس، كان متميزاً في التاريخ والجغرافيا عنه في الرياضيات والعلوم، وجعله ميله نحو الرسم يحصد كل جوائز الرسم، وفي الوقت الذي رفض والده أن يمارس ابنه الرسم، لأنه نبيل ولا يجوز له أن يمتهن هذه المهنة، كانت أمه المحبة للفنون تشجعه، وفي النهاية استسلم الأب ووافق على التحاق ابنه بكلية الفنون الجميلة.
تتلمذ دينيه على يد الفنان فكتور غالون، لكنه لم يبق طويلاً هناك، فترك الكلية وذهب للالتحاق بعدها بأكاديمية جوليان، وهي واحدة من أكبر أكاديميات الفنون في العالم، فتتلمذ هناك على يد الفنان الفرنسي الشهير البوغرو، لكنه لم يكن يميل إلى نوع الفن الأكاديمي الذي يتبعه أستاذه، فقد كان ميله إلى الطبيعة وصخب الحياة والعالم الحقيقي أكثر بكثير.

قصة حب أبدية
بدأ مشواره الفني عام 1880، أي بعد أعوام قليلة من ظهور الانطباعية وإنجازاتها المهمة في عروضها الأولى، وبذلك يكون دينيه قد عاصر عهداً نمت فيه أهم إبداعات التشكيل.
في هذه الفترة الزمنية كان الاستيطان الفرنسي في الجزائر، وكانت فرنسا تشجع على رحلات سياحية واستكشافية إلى هناك، وكانت مدينة بوسعادة، وهي بالفعل مدينة السعادة التي تقع على بعد 250 كيلومتراً من جنوب الجزائر على سفح جبل كردادة وادي بوسعادة، وهي مدينة قديمة جداً، وتمتاز بجمال خاص، ومن أكثر المناطق جذباً للسياح، وهي المدينة التي وقع دينيه في عشقها، وارتبط بها بقصة حب أبدية لن تنتهي فصولها حتى بموته.
كانت المصادفة وحدها وراء زيارة الفنان إلى هذه المدينة، فكان لدى دينيه صديق يسمى سيمون، له أخ مختص بعلم الحشرات، وكان يجهز نفسه للذهاب إلى «بوسعادة» للبحث عن حشرة (خنفساء نادرة)، فطلب من أخيه مرافقته، فاشترط الأخ أن يصطحب معه صديقه دينيه، وفي سياق هذه الرحلات الاستكشافية للجزائر جاءت هذه الرحلة، وهناك اكتشف دينيه الصحراء والعالم النقي الجميل البعيد كل البعد عن عالمه، كانت المدينة بالنسبة إليه عالماً جديداً للرسم لم يكتشف بعد، ولكن هذا الشاب الأوربي المسيحي الغريب كان بحاجة ماسة إلى مفتاح لهذا العالم الصحراوي المحافظ الغريب عن عالمه، ولم يكن المفتاح سوى سليمان بن إبراهيم، الذي أصبح فيما بعد صديق عمره. كان سليمان شخصاً مميزاً ومختلفاً عن أقرانه، لأنه كان يمتهن مهنة لم يعتدها مجايلوه أو يعرفوها، فكان يعمل مرشداً سياحياً ودليلاً للأجانب، إضافة إلى أنه كان يتقن اللغة الفرنسية جيداً، وقد فتح سليمان الطريق لدينيه للتعرف على المجتمع الجديد عليه، فمن خلاله اكتشف المجتمع البدوي الساحر والجذاب، وبفضله كان دينيه في غضون سنوات قليلة يتحدث العربية بطلاقة كبيرة، وتعرف أكثر على الثقافة الإسلامية.

اعتناق دينيه الإسلام
شكلت بوسعادة مصدر إلهام لريشة دينيه، وأصبح ملاذ السكان البسطاء لدى المستعمر الفرنسي للدفاع عنهم والتوسط لبحث مظالمهم، وقد اعتبرته السلطات الفرنسية شخصاً مزعجاً، لأنه كان مناضلاً معروفاً في كل النزاعات التي كانت تتعلق بحقوق الأهالي، وبفضل تدخلاته رفع عنها الحكم العسكري لتصبح مدينة ذات حكم مزدوج، مدني وعسكري، وقرر دينيه الاستقرار النهائي في «بوسعادة» وشراء بيت في الحي العربي، وفي بيت متواضع جدرانه من الجص الأبيض قضى دينيه مع صديقه سليمان بقية عمره، وبعد سنوات قليلة قرر اعتناق الإسلام عن اقتناع وثقة، وقد أخذ بعض الوقت قبل أن يعلن إسلامه وبدّل اسمه ليصبح ناصر الدين دينيه.
وصلت أصداء الخبر إلى فرنسا وزلزلت دوائر الفنانين والمستشرقين، فاعتبره البعض خائناً لفرنسا، في حين اعتبره آخرون عاراً على جوقة الشرف التي حازها سابقاً، وتحاشى الجميع شراء لوحاته، وتوقفت الجوائز التي كان يحصل عليها، وأُقصي من جميع المعارض التي كان يعيش من ربحها، وأمام هذه الحملة الشرسة زاد إصراره وجنّد قلمه وريشته لإظهار الحياة الدينية والاجتماعية للمسلمين، وألّف مجموعة من الكتب أغلبها كانت قصصاً من التراث، وكتب عن حياة سيدنا محمد [، كما كتب قصة «عنترة وربيع القلوب»، وهي عبارة عن مجموعة قصص شعبية مستوحاة من حياة البدو، وكان له الفضل في تصويت البرلمان الفرنسي على إنشاء مسجد في باريس تكريماً للجنود المسلمين الذين سقطوا من أجل فرنسا، وأسهم بخبرته الفنية في تصميم المسجد وزخارفه.
تجمع أعمال دينيه التشكيلية ميزة واحدة هي الدفء؛ دفء شمس الصحراء، دفء ألوان ملابس البوسعاديين، دفء العلاقات الأسرية، ومن شدة حبه للصحراء كانت لوحاته توحي بأنه يستعمل الرمال نفسها في تشكيل الألوان، ويعود إليه الفضل في نقل الفن الاستشراقي المولع بأجساد النساء إلى كفاح الإنسان الشرقي ومعاناته اليومية. التفاصيل في رسومه كانت غزيرة ودقيقة، فمثلاً في لوحة «الفتاتان الراقصتان» نرى في خلفية الصورة رجلاً بطربوش أحمر، وفي لوحة «جمع المشمش» يتهافت الأطفال على جمع حبات المشمش، إلا أن أحدهم استغل انشغال الأطفال، وتسلق هو الشجرة للحصول على عدد أكبر منها، كما اهتم بأدق تفاصيل الملابس والحلي وأشكال الوشم المختلفة على أجساد البدو من الرجال والنساء، وتعد لوحاته توثيقاً لعادات وتقاليد وطقوس أهالي هذه المدينة.
لم يختلف دينيه عن فناني الربع الأخير من القرن التاسع عشر في التحيُّن للحظة المناسبة لرسمها، لذلك من السهل استنتاج أن هذه الأعمال مرسومة لشخصيات حقيقية، ومنه فإن هذه اللوحات رسمت في ورشته ربما من خلال «اسكتش» لما شاهده يوماً، ومن خلال صور كان قد التقطها بنفسه، وفي مجمل أعماله وجدنا أنه لم ينطلق يوماً من نمط محدد، ويعود ذلك إلى تكوينه الكلاسيكي.

 أعمال متفردة 
تابع دينيه نفس مسار الذين سبقوه، ولكنه طوره بشكل سريع، بوضع لمسة خاصة به بألوان نابضة بطريقة مغايرة لأي فنان آخر، حيث إن طريقته الخاصة أعادت ذلك البريق إلى الألوان تحت إضاءة خاصة.
اعتبر النقاد أن أعمال دينيه متفردة، فمن ناحية نجده صور عالماً مسروراً لأطفال يلعبون بحجارة، أو لشيوخ يلعبون مع صغار، أو لعائلة تلتف حول بعضها في دفء حميم، ومن ناحية أخرى هو الأرقى بين الفنانين الاستشراقيين، لأنه فهم العرب بطريقة مغايرة ومختلفة، ويعد أفضل مترجم ومعبّر لهذا العالم.
في عام 1929 ذهب إلى الحج، وخلّد رحلته الروحية في لوحة سماها الانطلاق إلى مكة المكرمة، أرهقته الرحلة وأتعبت جسده الستيني الضعيف، فسافر إلى باريس للعلاج، وهناك فارق الحياة ، ونقل جثمانه ليدفن في «بوسعادة» بناء على وصيته، وخرج في وداعه الجميع، وحضر علماء ورجال الدولة والحاكم العام الفرنسي، كما حضرت أخته جان ورفيق دربه سليمان الذي جاوره في المدفن فيما بعد، كما جاوره من قبل في الحياة.
وزعت لوحات دينيه في المعارض العالمية، وبيع في العشرين عاماً الأخيرة أكثر من 200 لوحة له، وقد بيعت لوحته «شهيد العشق» بـ 200 مليون يورو، كما بيعت لوحته «معركة حول فلس»، وهي لوحة صغيرة الحجم، بمليون يورو، وأقامت له وزارة الثقافة الجزائرية متحفاً باسمه في مدينة بوسعادة■

 

الألوان الزاهية والتفاصيل الغزيرة والدقيقة في لوحات دينية

 

اكتشف دينيه الصحراء والعالم النقي الجميل ومن خلال رسوماته سجل الحياة الاجتماعية لأشخاصه

 

في لوحات دينيه اكتشاف المجتمع البدوي الساحر والجذاب

 

اهتم دينيه في لوحاته بأدق تفاصيل الملابس والحلي وأشكال الوشم المختلفة على أجساد البدو من الرجال والنساء

 

صور دينيه بريشته فتيات يحملن الحجارة ليلعبن بها وتبدو على وجوههن البهجة والسرور