شهادة علي قيد الحياة

مهرجانات السينما في العالم

في العام الآن، يوجد ما يزيد على مائة مهرجان سينمائي، تعقد على مدار أيام السنة. وهذا العدد الضخم للمهرجانات السينمائية، بقدر ما يدعو للدهشة بقدر ما يعكس - في نفس الوقت - حالة الاختناق التي تعاني منها العديد من مناطق صناعة السينما في العالم. وبحيث تصبح هذه المهرجانات وسيلة للتنفس.

بالرغم من الضربات المتلاحقة، والهزات الاقتصادية العنيفة التي تمر بها صناعة السينما في العديد من دول العالم، والتشكيك المستمر في قدرة فن السينما على الاستمرار والانتعاش في مواجهة غول التليفزيون وسطوته في إرغام عدد كبير من المشاهدين، وتحديد إقامتهم أمام الشاشات الصغيرة، مما أثر بالتالي على تناقص دور العرض السينمائي وانسداد في شرايين التوزيع وانخفاض بالتالي في العائد المادي. بالرغم من كل هذا، فإن عشاق السينما ومبدعيها من الفنانين يواصلون في نضال عسير دفع الدماء في عروق السينما والاحتفاظ ببريقها وسحرها الخاص.

خريطة المهرجانات في أوربا

والمثير أن النسبة الغالبة من المهرجانات السينمائية تتركز في أوربا وبالتحديد في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.

فرنسا مثلا تشهد 14 مهرجانا سينمائيا، موزعة على شهور السنة وما بين العاصمة باريس إلى بعض المدن الفرنسية، وبالتأكيد فإن أهم هذه المهرجانات على المستوى العالمي كله هو مهرجان (كان) السينمائي الذي يعقد في مدينة كان على شاطئ الريفيرا، واحتفل هذا العام بمرور 44 عاما على إقامته.

ولكن على مستوى آخر من الأهمية والسمعة العالمية، تشهد فرنسا أيضا مهرجانات: نانت - ستراسبورج - مونبليه - كريتاي (لأفلام المرأة) - آنس (لأفلام رسوم متحركة) - ليل (للأفلام التسجيلية والقصيرة).

وفي إيطاليا ما يقرب من ثمانية مهرجانات سينمائية أشهرها بالقطع على المستوى العالمي أيضا مهرجان فنيسيا السينمائي، وهو من أقدم المهرجانات العالمية وأكثرها التزاما وجدية.

وبخلاف مهرجان فنيسيا، هناك مهرجان (جيوفاني) بمدينة تورينو ومهرجان (فيارجيو) ومهرجان السينما الحرة بمدينة بولونيا ومهرجان (راسيا) للسينما الإفريقية.

وفي إسبانيا سبعة مهرجانات سينمائية موزعة على المدن، وأشهرها مهرجان (فالنسيا) ومهرجان (سان سباتيان) وهما يتخصصان في الأفلام الروائية وتأتي بعدهما مهرجانات تتخصص في أحد مجالات الفن السينمائي كأفلام البحار، وأفلام الخيال العلمي، وأفلام الطبيعة.

وإذا وصلنا إلى ألمانيا سنجد ثالث أشهر مهرجانات السينما في العالم وهو مهرجان (برلين)، بالإضافة إلى مهرجانات أخرى متخصصة في الأفلام التسجيلية والقصيرة (ليبزج - ابرهاوزن - شتوتجارت).

وفي سويسرا نجد مهرجان فيفاري للفيلم الكوميدي بالإضافة إلى مهرجانات لوزان - لوكارنو - وتيون للأفلام القصيرة والتسجيلية.

وفي هولندا مهرجان روتردام.

وفي تشيكوسلوفاكيا كان هناك مهرجان هام وهو مهرجان (كارلو فيفاري).

أما في إنجلترا، فقد اكتفى مهرجان لندن بدوره كمهرجان المهرجانات أي يقوم بعرض أهم الأفلام التي عرضت، في المهرجانات الأخرى خلال عام.

لماذا أوربا؟

وحتى لا تتوه خطواتنا داخل خريطة المهرجانات السينمائية في العالم نتوقف بالانتباه أمام حقيقة هامة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية رغم اتساع مساحتها فإنها لا تقيم سوى مهرجانين للأفلام الروائية، مهرجان سان فرانسيسكو، ومهرجان واشنطن، وكلاهما لا يعتبر من المهرجانات الهامة على المستوى العالمي.

والسبب واضح - فيما اعتقد - أن أمريكا ليست في حاجة إلى الإعلان عن وجودها السينمائي أو الترويج لأفلامها داخل بلادها، فشركات التوزيع الضخمة والمتشعبة كفيلة بهذه المسألة، بكل أسلحة الدعاية والتأثير والانتشار.

وهي إذا كانت تستطيع التغلغل داخل قارات العالم، وتفرض وجودها في الأسواق، وفي المهرجانات أيضا، وتخلق لهفة الانتظار والترقب لكل ما تقدمه السينما الأمريكية، فقد ضمنت الأرض والرصيد والجوائز أيضا.

فهي موجودة في أكثر مهرجانات العالم الشهيرة، موجودة في مهرجان برلين وفي مهرجان كان ومهرجان فنيسيا، وموجودة في مهرجان موسكو وقادرة أيضا على عقابه - كما حدث هذا العام - عندما حجبت أفلامها الهامة عن الاشتراك في المسابقة الرسمية، احتجاجا على تسرب أفلامها إلى السوق السوفييتي الضخم بوسائل مختلفة من التهريب ودون اتفاقيات رسمية.

ولعل هذه القوة التي اكتسبتها السينما الأمريكية، هي الدافع الحقيقي والرئيسي وراء ظاهرة تعدد المهرجانات السينمائية في أوربا بالذات، كرد فعل طبيعي لحماية السينما الأوربية وأيضا السينما القادمة من العالمين الثاني والثالث وتدعيمها ماليا وإعلاميا لتشكل جبهة أمام الزحف الأمريكي، ولتؤكد أن هناك فنا آخر وفكراً آخر ومذاقاً آخر غير السينما الأمريكية.

سطوة السينما الأمريكية

ولكن هذا الهدف لم يحقق نتائجه بالشكل المأمول، وبالتحديد في العائد المادي، فبالرغم من إبداعات فناني السينما الأوربية على مدى تاريخها، والإضافات المتميزة التي حققوها في التطور الفني، والمدارس السينمائية الجديدة والتي غيرت موازين وأفكارا ومعتقدات كثيرة، فإن أرقام الإحصائيات أكدت - ومازالت حتى هذه اللحظة - أن الفيلم الأمريكي هو المسيطر على أسواق العرض، فالجمهور يذهب أولا إلى الفيلم الأمريكي الذائع الصيت والذي تزفه الدعاية الضخمة، أما أفلام السينما الأوربية فهي تتراجع إلى مرتبة متأخرة في الاهتمام الجماهيري.

وقد وصل الحال باتحاد منتجي السينما الإيطالية - مثلا - إلى الاعتراف بأن الفيلم الإيطالي لم يعد يجد بسهولة دارا للعرض داخل إيطاليا أمام زحف أفلام السينما الأمريكية، والتي استولت على اهتمام 70% من الجمهور الإيطالي الذي يرتاد دور السينما.

ومعنى هذا بمنتهى الوضوح خسارة شركات الإنتاج السينمائي الإيطالي وهو ما يبرر موقفها الأخير من امتناعها عن تمويل الأفلام ذات الميزانيات الكبيرة والاكتفاء بالأفلام القليلة التكلفة ذات العائد السريع، وهدا الوضع يعطي أفضلية بالطبع للأفلام الأمريكية ذات الميزانيات الضخمة والتي تستطيع أن تنفق على الإبهار الفني وأحدث ابتكارات تكنولوجيا الصناعة.

السينما العربية تكسب

أما الفائدة الحقيقية للمهرجانات السينمائية فقد كسبتها - بلا شك - السينما الإفريقية، والسينما العربية، وسينما أوربا الشرقية.

فقد كانت المهرجانات نافذة تطل منها سينما تلك الدول ويتعرف عليها العالم ويكتب عنها ويتابعها النقاد، وتستضيفها مهرجانات أخرى، وتدور حولها حلقات البحث والمناقشة.

فمن المعروف أن المهرجانات تغذي بعضها، فالمهرجان الكبير يفتح الباب بعرض أحدث وأهم ما قدمته سينما تلك الدول، وفي أثناء انعقاد المهرجان يكون ضيوف ومندوبو المهرجانات الأخرى قد وضعوا أيديهم على هذه الأفلام لعرضها عندهم.

وأحيانا تكفي علامة الثقة، بأن هذا الفيلم قد تم اختياره للعرض في مهرجان كان أو برلين أو فنيسيا، ليجد الطريق مفتوحا أمامه للعرض في العديد من المهرجانات الصغرى، وحسب ما تقتضيه لوائح تلك المهرجانات.

وهذا ما حدث بالضبط مع ثلاثة شبان من السينما العربية أتيحت لهم فرصة عرض أفلامهم في برنامج نصف شهر المخرجين أحد أقسام مهرجان كان السينمائي.

الثلاثة هم: المخرج السوري محمد ملحي وفيلمه (أحلام مدينة). المخرج المصري يسري نصر الله وفيلمه (سرقات صينية). المخرج التونسي فريد بوغدير وفيلمه (الحلفاويين).

وكل منهم حمل فيلمه بعد ذلك ليجوب نصف الكرة الأرضية مدعوا من المهرجانات.

وبعض المهرجانات العالمية، أصبحت تعرف أسماء المخرجين العرب وتطلب منهم أفلامهم بالاسم، يكفي مثلا أن يقال إن يوسف شاهين أو صلاح أبوسيف انتهى من إخراج فيلم جديد ليجد الدعوة موجهة إليه لعرض فيلمه في المهرجان.

وقائمة المخرجين المصريين الذين أصبح لهم رصيد من السمعة الفنية والثقة في أعمالهم تضم أسماء محمد خان، وخيري بشارة، وعاطف الطيب، ورأفت الميهي.

وهناك مهرجانات أصبحت تعتمد في برامجها بشكل أساسي على ثقل السينما العربية وإبداعات بعض مخرجيها، من هذه المهرجانات: مهرجان (فالينسيا) في إسبانيا - ومهرجان (ستراسبورج) ومهرجان (مونبليه) في فرنسا - ومهرجان السينما الحرة في بولونيا بإيطاليا - ومهرجان (ميونخ).

إن هذه المهرجانات السينمائية المتعددة، مهما كان طموحها ومهما كان حصادها، إلا أنها دليل قوي على أن السينما مازالت حية، قد تصيبها الأوجاع والآلام، إلا أنها تتماسك وتتجدد وتقاوم، مازالت ساحرة، تنشر المتعة والبهجة والفكر.

ومازال عشاقها يدافعون عنها، ويحرسونها ويخطون بأقلامهم وألوانهم لوحات الدعاية لها، كذلك اللوحات التي تحمل هذه السطور.