مجالس الأدباء في العصر الأموي
تُعدُّ «مجالسُ الأدباء» ظاهرةً مهمة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، وكانت قد خَطَت أولى خطواتها في العصر الأموي (41 - 132 هـ) فعلى الرغم من انشغال بني أمية في الصراعات الداخلية والفتوحات الخارجية، فقد حظي الأدبُ باهتمامهم ورعايتهم. وربما يعود ذلك إلى أن بعضاً من الخلفاء الأمويين وأولادهم كان يقول شعراً، مثل معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد وعبدالملك بن مروان وحفيده الوليد بن يزيد. وكان بعضهم الآخر واسع العلم في ميادين الأدب وأيام العرب. فالخليفة معاوية (ت 60 هـ)كان عالماً بأخبار العرب وأيامهم وبأساليب «العربية» وناقداً لها.
الخليفة عبدالملك (ت 86 هـ) كان، كما يذكر المبرد في «الكامل»: «أكثر الناس علماً وأبرعهم أدباً»، وكان «يتجنب الجلوس مع غير الأدباء». ويضاف إلى ذلك أن الأمويين كانوا بحاجة إلى الأدباء والشعراء والقصاصين كي يشيدوا بذكرهم، ولهذا فتحوا لهم أبواب مجالسهم.
مظاهر الاهتمام بالأدب
تجلى اهتمام الأمويين بالأدب في كثير من المظاهر، منها:
1 - حرصهم الشديد على إتقان اللغة العربية، فاللحن (الخطأ في اللغة) كان في نظرهم عيباً كبيراً، فقال الخليفة عبدالملك: «اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس»، وقيل له: «لقد عجَّل عليك الشيبُ يا أمير المؤمنين؟ قال شيبني ارتقاءُ المنابر وتوقع اللحن». كما قال ابنه مسلمة: «اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه».
2 - طلب الخلفاء من مؤدبي أبنائهم أن يركِّزوا في تعليمهم على الأدب. فقال معاوية لمؤدبي أولاده: «اجعلوا الشعر أكثر همكم وأكثر آدابكم، فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم». كما قال عبدالملك لمؤدب ولده، كما يذكر ابن قُتيبة في «عيون الأخبار»: «علِّمهم الشعر يمجدوا وينجدوا».
3ذ حركة التعريب التي قادها الخليفة عبدالملك، حيث عرَّب القراطيس (ورق البردي) والنقد، (حيث أصدر الدينار العربي الإسلامي بدلاً من دينار الروم) ونقل دواوين الخراج إلى العربية، بعد أن كانت تُكتب في الشام باليونانية وفي العراق بالفارسية. كما نقل ابنه الخليفة الوليد ديوان مصر من اليونانية والقبطية إلى العربية.
4ذ عقد المجالس الأدبية، حيث شعر خلفاء بني أمية بحاجتهم إلى عقد هذه المجالس تلبية لرغبتهم في الآداب والعلوم وتحقيقاً لمكانتهم الاجتماعية. ويقول المسعودي في «مروج الذهب»: إن الخليفة معاوية كان يمضي وقتاً طويلاً من الليل مع جلسائه في مذاكرة «أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسير ملوك الأمم وحروبها، ثم يحضر الدفاتر في سير الملوك وأخبارها، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها». وكتب الخليفة عبدالملك إلى والي العراق الحجاج يقول: «إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه، ولم يكن عنــــدي شيء ألذه إلا مناقلة الإخوان للحديث». ثم طلب منه أن يبعث إليه عالم العراق عامر الشعبي.
وقال الخليفة سليمان بن عبدالملك (ت 99 هـ) أيضاً، كما يقول أبوحيان التوحيدي في «الإمـــــتاع والمؤانــــسة»: «لقد ركبنا الفاره (النشيط من الدواب) ولبسنا اللين وأكلنا الطيب حتى أجمناه (مللناه)، وما أنا اليوم أحوج مني إلى جليس يضع عنـــــي مؤونة التـــحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع ويطرب إليه القلب».
ومن ناحية أخرى أدرك بنو أمية أن مشاركتهم في ميدان العلم تحقق لهم مكانة اجتماعية وأدبية، وقــــد أشار إلى ذلــــــك الخليــــفة عبدالملك عندما قال للشعبي: «لا تقولوا (أنتم معشر العلماء) إننا (أي بني أمية) فزنا في الملك فحسب، وإنما شاركناكم في العلم أيضاً».
وفضلاً عن ذلك فإن الأصول الأولى لهذه المجالس قد وضُعت أيام عبدالملك، حيث أوصى الشعبي قائلاً: «لا تردَّ عليَّ الخطأ في مجلسي، ولا تكلفني جواب التشميت والتهنئة ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى واجعل بدل المدح لي صواب الاستماع مني».
وتذكرنا هذه الوصايا بقول الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت193 هـ) للأصمعي: «وقِّرْنا في الملأ وعلِّمْنا في الخلاء».
أغراض الشعر
كانت مجالس الأدباء تُعقد في قصور الخلفاء والأمراء الأمويين، وتحت رعايتهم ومشاركتهم، وكان بعضهايعقد يومياً وبعضها الآخر أسبوعياً. وكانت تضم شعراء وأدباء ولغويين ورواة وفقهاء وغيرهم. وكان من أشهر شعراء مجالس بني أمية: الأخطل وجرير والفرزدق وكُثيِّر ونُصَيب والكُمَيت بن زيد وغيرهم. ومن الفقهاء والرواة نذكر: عامر الشعبي وحمَّاد الراوية وغيرهما. وكان الخليفة يستدعي من يشاء من العلماء إلى مجلسه.
ويقول الأصفهاني في «الأغاني»: «إن الخليفة هشام بن عبدالملك (ت 125هـ) استدعى حمَّاد الراوية من العراق ليسأله عن بيت من الشعر، كما استدعى الوليدُ بن يزيد الشاعرَ مطيع بن إياس من الكوفة عندما سمع شعره غناءً». وكان أهم ما تناولته المجالس من موضوعات يدور حول الشعر، الذي توزعت أغراضه ما بين المديح والفخر والهجاء والغزل. ويروي الأصفهاني واقعة تؤكد ذلك، وفحواها أن الخليفة عبدالملك صنع طعاماً ودعا إليه الناس، وكان بين الحضور أعرابي من بني عُذرة. فقال عبدالملك للأعرابي: إن بني عُذرة فصحاء الناس، فهل لك علم بالشعر؟ فقال الأعرابي: سلني ما بدا لك. قال: أي بيت قالته العرب أمدح؟ قال الأعرابي: قول جرير:
ألستم خيرَ مَنْ ركِب المَطايا
وأَندى العالمين بطونَ راح؟
وكان جرير بين الحضور فرفع رأسه، ثم قال الخليفة للأعرابي: فأي بيت قالته العرب أفخر؟ قال الأعرابي: قول جرير:
إذا غضبتْ عليك بنو تِميم
حسبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضَابَا
فتحرك جرير، فقال الخليفة له: أي بيت أهجى؟ قال الأعرابي: قول جرير:
فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمير
فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلاَبا
ثم سأل الخليفة الأعرابي: أي بيت قالته العرب أغزل؟ قال الأعرابي: قول جرير:
إن العيون التي في طَرْفِها مَرَضٌ
قَتَلْنَنا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا
وكان التباين في الآراء حول المفاضلة بين الشعراء يُعدُّ أمراً طبيعياً، ويقول الزجاجي في «مجالــــس العلماء»: إن الوليـــــد بن عـــــبدالملك (ت 96 هـ) كان يُقدِّم الشاعر النابغة، في حين كان أخوه سليمان يُقدًّم الشاعر امرأ القيس وحكم بينهما أعرابي فصيح استدعي لهذا الغرض، فقال لهما الأعرابي: أنشدوني لهما وقاربوا بين المعنيين. فقال الوليد: صاحبي يقول:
وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همِّه
تضاعف فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ
تَطَاول حتى قلتُ ليس بمنقضٍ
وليس الذي يرعى النجومَ بآيب
فقال الأعرابي: ما ينبغي أن يكون في الدنيا أشعر من صاحبك. فقال له سليمان: لا تعجل حتى تسمع صاحبي الذي يقول:
وليلٍ كموج البحر مُرخِ سُدولَه
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
قال الأعرابي: حسبك صاحبك أشعر. قال سليمان: فاسمع ما بعده.
قال الأعرابي: لا أحتاج.
الشعبي
كان الشعبي عالماً بالفقه والحديث والأدب وأيام العرب، ومكث سنين يُزيِّن «مجلس الأدباء» أيام الخليفة عبدالملك، فكان اول من يدخل المجلس وآخر من يخرج منه. وقد تحدى الشعبيُ الأخطلَ في مجلس عبدالملك، حيث أثبت أن النابغة أشعر من الأخطل نفسه، هذا في الوقت الذي لم يكن يجرؤ أحد فيه على ذلك. فهذا جرير يقول لابنه: «يا بني أدركتُ الأخطلَ وله ناب واحد، ولو أدركته وله ناب آخر لأكلني به».
وكان الخليفة معجباً بعلم الشعبي وأخلاقه حتى إنه أوفده إلى ملك الروم، وعاد الشعبي يحمل خطاباً من الملك إلى الخليفة وقد وردت فيه العبارة التالية: «العجب لقوم فيهم مثل هذا (مثل الشعبي) كيف وَلَّوا أمورَهم غيره». وعندما قرأ عبدالملك ذلك قال للشعبي: «لقد حسدني الملك عليك، فأراد أن أقتلك». فقال الشعبي للخليفة: «إنما كَثُرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يَرَكَ».
حمَّاد الراوية
ومن العلماء الذين ذاع صيتهم في ذلك العصر حمَّاد بن ميسرة، والذي اشتهر باسم حمَّاد الراوية. ويقول الأصفهاني إنه كان «من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها.
وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد إليهم وينادمهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها ويجزلون صلته». وقد سأله الوليد بن يزيد: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فأجابه: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر منهم مما لم تعرفه ولم تسمع به. فقال الوليد: فكم مقدار ما تحفظ؟ قال: أنشد على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبرى سوى المقطعات من شعر الجاهلية... فقال سأمتحنك. وأمره بالإنشاد فأنشد حمَّادُ حتى ضجر الوليدُ، ثم وَكَّل به من استحلفه أن يُصْدقه. فأنشد ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأُخبر الوليدُ بذلك فأمر له بمائة ألف درهم.
النساء في مجالس الأدباء
لم يفد إلى «المجالس» الشعراء والأدباء من الرجال فحسب، وإنما وفدت نساء ذاع صيتهن في الآداب والعلوم، مثل الشاعرة ليلى الأخيلية، التي قدمت على مجلسي معاوية وعبدالملك وغيرهما، وقالت عنها المصادر إنها من النساء المتقدمات في الشعر ومن شعراء الإسلام. كما قَدِمت عائشة بنت طلحة بن عبيدالله (وهي حفيدة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من ابنته أم كلثوم) على مجلس الخليفة هشام، وكانت عائشة من اللاتي نبغن في الأدب وأيام العرب والنجوم. فبعث الخليفة إلى مشايخ بني أمية يخبرهم بقدومها ويطلب منهم أن يسْمِروا عنده تلك الليلة، فحضروا.
ويقول الأصفهاني: «فما تذاكروا شيئاً من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت عائشة معهم فيه وما طلع نجمٌ ولا غار إلا سمَّته، فقال لها الخليفة: أما الأول فلا أنكر وأما النجوم فمن أين لك؟ فقالت عائشة: «أخذتها من خالتي عائشة (أم المؤمنين رضي الله عنها). فأمر لها الخليفة بمائة ألف درهم، وردها إلى المدينة».
تكريم الأدباء
تعددت صور التكريم التي حظي بها الأدباء، فقد خصص الخليفة عبدالملك للشعبي ألفي درهم من العطاء ولكل واحد من أهله وأولاده ألفي درهم سنوياً أيضاً. وأعطى الخليفة هشام الشاعر الكُمَيت بن زيد أربعين ألف درهم، وثلاثين ثوباً هاشمية. ومنح الخليفة نفسه حمَّاد الراوية جاريتين ومنزلاً ومائة ألف درهم. وأعطى الوليد بن يزيد شاعرَه يزيد بن ضبه ألف درهم عن كل بيت من قصيدة بلغت خمسين بيتاً.
أما التكريم المعنوي فقد اشتمل على منح الألقاب الفخرية. فقد منح الخليفةُ عبدالملك الشاعرَ الأخطل ألقاباً، مثل: «أشعر العرب» و«شاعر أمير المؤمنين» و«شاعر بني أمية». وأعفى ابنه الخليفة يزيد عن الشاعر الأحْوَص الذي كان الخليفةُ عمر بن عبدالعزيز قد نفاه إلى اليمن، واستقبله يزيد وقرَّبه وأكرمه. كما كرَّم الخلفاءُ أبناءَ الأدباء. فيروي ابن قتيبة أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان استقبل ابن الشاعر أبي محجن الثقفي وأكرمه وأجزل جائزته، بعد أن أنشده أبياتاً من شعر والده، مثل:
لا تَسألي الناسَ عن مالي وكَثْرَتِه
وسائلي الناسَ ما فِعْلي وما خُلُقي
سيكثُر المالُ يوماً بعد قِلته
ويكتسي العُودُ بعد اليُبس بالوَرَقِ
ومن ناحية أخرى طرد الخليفةُ عبدالملك ابن الشاعر عبدالله بن جحش من مجلسه بعد أن اكتشف أنه لا يروي شيئاً من قصائد والده، وقال له: «رَحِمَ اللهُ أباك. فقد ضَيَّعتَ أدبَه وعققته إذ لم تَرْوِ شعرَه: اخرج فلا شيء لك عندنا».
كانت مجالس الأدباء صفحة مشرقة قي تاريخ الثقافة العربية الإسلامية وعاملاً مهماً من عوامل تطورها وازدهارها.
وشكَّلَ، ما تناولته من آداب وعلوم، وما انتهجته من أصول وقواعد، تراثاً ثرياً أفادت منه أجيالٌ بعد أجيال من بناة الحضارة العربية الإسلامية ■