أحمد دحبور... «الولد الفلسطيني»

أحمد دحبور... «الولد الفلسطيني»

يُعد الشاعر أحمد دحبور (1946 - 2017) أحد أبرز أصوات شعر المقاومة الفلسطيني تعبيراً عن المأساة الفلسطينية وروح النضال، والاستمساك بأهداب الحلم بالتحرر، برغم شعور محبط بالوجع والفقد. 

 

برز دحبور كشاعر يستخدم قالب الشعر التفعيلي في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين حد التجريب التفعيلي، كمــــا فـــي ديوانه «واحد وعشرون بحراً»، الذي نظــم فيـــه إحدى وعشرين قصيـــدة في واحـــد وعشـــرين وزناً، في محاولة للعب العــروضي وصوغ حالة شعــــرية في تنويع إيقاعي. دائماً ما تكــــون علاقة الذات بشعرها والشاعر بقصيدته سؤالاً مُلحاً وهمّاً مستمراً لدى أحمد دحبور.
قالت رحابُ: أما كتبتَ قصيدةً عنا؟
وكنا عائدينِ من القصيدةِ،
فالتمستُ بدايةً
هل غادر الشعراء من حلم سوى هذه 
البداية؟
غايتي أن تصبح الكلمات أدفأ من نهار
الصيفِ،
والشفراتُ أرفق من مجس الطيفِ،
أن تصل القصيدةُ
يستعمل الشاعر مطالبة الآخر/ الزوج «رحاب» المُحرّضة له على كتابة قصيدة عنها لطرح همّ أكبر وإشكالية فنية يُكثّفها في سؤال: هل غادر الشعراء من حلم سوى هذه البداية؟ الذي يستدعي نص عنترة بن شداد: هل غادر الشعراء من متردم؟ كنص غائب يتجادل معه؛ فإذا كان الشاعر القديم يحلم بمغادرة «المتردم» الطلل الذي كان مفتتحاً إجبارياً لقصيدة الشاعر القديم، في محاولة للفكاك من أسر الموروث الفني، فإنّ الشاعر الحديث يبحث عن بداية لقصيدته، كما يبحث لكلماته عن حرارة ولشفراته عن شفافية، بغية وصول القصيدة إلى متلقيها. فمنذ خمسينيات القرن العشرين والشاعر العربي يضع نصب عينيه وصول كلمته ونفاذها إلى الجمهور، مثلما يتبدى عند أحمد عبدالمعطي حجازي الذي يقول عن كلمات الشعراء:
كلماتُنا مَصلوبةٌ فوق الورقْ
لمَّا تزل طيناً ضريراً، ليس في جبينه روحْ
وأنا أريد لها الحياة
وأنا أريد لها الحياة على الشفاه
تمضي بها شفةٌ إلى شفةٍ، فتولد من جديدْ!
فالشاعر الحديث يريد لكلماته الحياة، وأن تُبثّ روح فيها من أجل تداولية الكلمات، وهو ما يستدعي من جهة أخرى تخلي الشعر عما كان ينتهجه من أسلوب متعالٍ وتغنيه بالمثل المجردة والقيم المفارقة، وتحوله نحو الانهمام بالواقع الحياتي المعيش وانشغاله بقضايا الناس. الجدل القائم بين الشاعر وقصيدته هو محور انشغال الذات الشاعرة لدى أحمد دحبور الذي يقول:
وتمسكتُ بالقصيدة
فاستلَّت سكاكينها وقصبت القلبَ،
طمأنينةٌ وشعرُ؟
محطات وشعرُ؟
لا يهدأ البال في الشعر فجرّب سِواه
يبرز الشاعر ثمن تمسكه بالقصيدة وحرصه على الشعر، إذ يبدو الشعر كاشفاً عن مواجع القلب وفاضحاً لجروحه ومتاعبه، فيأتي الاستفهام المُكثَّف: «طمأنينةٌ وشعرُ؟»، ليؤكّد نفي الشعر للطمأنينة باعتبار أنّ الشعر قلق وجودي، ويعكس التحوُّل الالتفاتي بالانتقال من ضمير المتكلّم إلى ضمير المخاطب حالة انقسام الذات الشاعرة بين ذات، وذات ضد، ذات تتمسك بالشعر وذات أخرى تدعوها إلى التخلي عنه في تمثيل لوعي شقي. 
ثم يأتي استدعاء الشاعر لبيت السري الرّفاء الشاعر العربي القديم، ووضعه داخل مستطيل في موازاة تنوع إيقاع بصري للشعر الكونكريتي «المجسم» لتنوع إيقاعي، وكأنّ الشاعر بتنقله بين أصوات الذات المركزية ثم الذات الضد ثم صوت السري الرّفاء إنّما يسعى - على نحو ما - إلى تأسيس بولوفونية شعرية.
ولكن، إذا كان الشعر نفياً للطمأنينة، فماذا سيكون موقف الشاعر من الشعر؟
يقول أحمد دحبور:
هل سأخرج من يدي ضعفي 
وأدخل في الجموع كأنني منهم
وأخجل من دموعي؟ 
لا أريد سوى كما يحيون أن أحيا
ولكني أرى ما لا يرون
تعبت أو تعبت بي الرؤيا

اغتراب الذات
يريد الشاعر أن يتخلص من ضعفه بالانخراط في الجماعة، ولكنّه يتردد بين اختياره أو محاولته بأن يكون فناناً يمارس نوعاً من «الالتزام» إزاء الجماهير بانتمائه إليها والتحامه معها، وكونه يرى ما لا يرونه أي تقدمُ رؤيته ومجاوزة وعيه وعي الجماهير؛ فالذات تشعر باغتراب إذن بين مسعاها أن تكون ديمقراطية في حياتها وطريقة عيشها، بالتآخي مع أرستقراطية فكرها ونخبوية وعيها، فكأنّ الذات تشعر بثمن الكلمة الذي تدفعه:
لماذا تُنزعُ الأظفارُ؟
ماذا يفعل المسمار في اللحم الطري؟
هل المقص لخدمة الصحفي أم لتمرُّد الأفكار؟
لو قبض السعاة على النهار الأرجواني المبشر 
هل سينقرضُ النهار؟
تعمل الصياغة الشعرية على تكثيف السؤال، وتشعير الاستفهام، مع بثّ دفقة من الأسئلة المتتابعة، ولا يعكس غزارة التساؤل في خطابات الشاعر نقصاً إدراكياً أو عوزاً معرفياً، وإنّما هو سؤال استنكاري، كما في الأسئلة الثلاثة الأولى في هذا المقطع، أو سؤال غرضه النفي والسخرية، كما في السؤال الأخير من المقطع. وسواء هذا أو ذاك، فكتابة التساؤل لدى دحبور تبدو محرضة على الثورة والتمرد. وتأتي القضية الفلسطينية في شعر دحبور لهباً يشعل قصيدته وانهماماً يشاغل الذات وقلقاً يتلبسها، فيقول دحبور في أشهر قصائده «حكاية الولد الفلسطيني» التي كانت أيضاً عنوان ديوان شهير له:
لأنّ الورد لا يجرح
قتلتُ الورد
لأنّ الهمسَ لا يفضح 
سأعجنُ كل أسراري بلحم الرعد ْ

الاعتماد على الاستعارة
تعتمد الصياغة الشعرية في هذا المقطع على بنية علية مع ازدواج تقفوي، يعمل على إثراء إيقاعات النص، كما يعتمد على بلاغة السلب (لا يجرح - لا يفضح) على إبراز غضب الذات الشاعرة ورغبتها في اقتلاع كل مظاهر الضعف واجتثاث كل سمات الخنوع. 
والغالب على البنية التصويرية لدى دحبور الاعتماد الكثيف على الاستعارة التي تتراوح - كما في هذا المقطع - بين الاستعارة التصريحية «قتلت الورد»، والاستعارة المكنية «سأعجن كل أسراري»، في مقابل الندرة اللافتة للتشبيه حد غيابه التام عن قصائد بأكملها، ربما لأنّ الاستعارة تقوم على علاقة تفاعل امتزاجي بين المُشبَّه والمُشبَّه به، بما يوحي بتبادلية ما بينهما، بينما في التشبيه يظلّ فاصل ما بين طرفيه بما يفيد الغيرية. تبدو فلسطين الحبل السري الرابط خطابات الشاعر، سواء بشكل مباشر أو بشكل متوارٍ، فيقول دحبور:
أنا الرجل الفلسطيني 
أقول لكم: عرفتُ السادة الفقراء
وأهلي السادة الفقراء 
وكان الجوع يشحذ ألف سكينٍ 
وألف شظيةٍ نهضت، من المنفى، تناديني:
- غريب وجهك العربي بين مخيمات الثلج والرمضاء
بعيدٌ وجهك الوضاء
- فكيف يعودُ؟
- بالجسد الفتيِّ تُعبَّد الهيجاء 
ثمة شعور ما بالاغتراب يخامر الذات في منفاها، متجليًّا في إحساس الذات بقسوة الحياة والفقر والجوع وملاحقة الموت لها. فيما يتبدى اتّسام شعر دحبور بغنائية مرتفعة يتجلى أبرز مظاهرها في البذخ التقفوي، كما في هذا المقطع الذي يغلب عليه صوت الهمزة كحرف رويّ، مسبوقة بصوت الألف كحرف إسناد، وهو ما يجعل صوت المد غالباً على خواتيم الأسطر الشعرية، بما يناسب حالة الحماسة العالية، كما يتسم الخطاب بشفاهية متبدية في مخاطبة الصوت الشعري جماهيره الافتراضية كما في «أقول لكم»، وهو يعمل على إشراك المتلقي في الحالة الشعرية.
لقد سعت قصيدة أحمد دحبور إلى أن تكون هي صوت الجرح الفلسطيني والتمرد والثورة في آن، فيقول دحبور:
سنرفع جرحنا وطناً ونسكنه 
سنلغم دمعنا بالصبر بالبارود نشحنه
ولسنا نرهب التاريخ، لكنّا نكوّنُه
- جياعٌ نحن
- طاب الفتح، إن الجوع يفتنهُ 
جياع نحن؟ ماذا يخسر الفقراء؟
إعاشتهم؟
مخيمهم؟
أجبنا أنت ماذا يخسر الفقراء؟
أنخسر جوعنا والقيد؟
في انتقال الشاعر لاستعمال ضمير المتكلم الجمعي كأنّه يسعى إلى أن يكون صوت الجماعة ومغنيها، كما تسعى الصياغة الشعرية إلى إنشاء «ديالوج» بين صوت للجماعة كأنّه «كورس» للإنشاد بما يناسب اتقاد جذوة الاشتعال الثوري، كما تعمل المراوحة الإيقاعية في تفاوت الأسطر الشعرية طولاً وقصراً في عدد تفعيلاتها على خلق جدل إيقاعي وتوتر موسيقي يناسب التوتر النفسي والحماسة التي تتملك الذات في موقفها الثوري ■