السينما العربية وتجسيد الشخصية النفسية

السينما العربية  وتجسيد الشخصية النفسية

استطاعت السينما الجديدة في الوطن العربي أن تجوب مناطق في منتهى الخصوصية، وأن ترصد الحالة النفسية للشخصيات في تجليات مختلفة، منها الإصابة بمرض نفسي، واستطاع عدد من الفنانين تجسيد الحالة النفسية وتطوراتها، ومن هؤلاء آسر ياسين، وشريف منير، وباسم سمرة، وخالد صالح، وأحمد حلمي الذي نجح في تجسيد عدد من الشخصيات المأزومة نفسياً في أفلامه.

 

المرض النفسي إن كان ليس جنوناً، فإنه يحتاج من المريض إلى وقت وجهد كبير ومواجهة جادة، ليكتشف أنه مصاب أو يستطيع الاعتراف بالمرض. ونجحت السينما العالمية في تقديم عديد من الأفلام النفسية، من بطولة نجوم «هوليوود»، أمثال برادلي كوبر، ناتالي بورتمان، ليوناردو دي كابريو... وغيرهم.
يلاحظ أن فيلمي «باب الحديد» (1958) من إخراج يوسف شاهين، ورسائل البحر (2010)من إخراج داود عبدالسيد، من أهم الأفلام التي تناولت المرض النفسي وتم اختيارهما ضمن قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية، التي تم الإعلان عنها في دبي عام 2013، وبين الفيلمين مدة زمنية تتجاوز نصف القرن، ظهر خلالها عديد من الأفلام التي تناولت البعد النفسي، وهنا سعي إلى مقاربة هذا الاتجاه والوقوف لدى شخصياته اللافتة، مع التركيز على النماذج الأحدث في الألفية الثالثة.تعاملت السينما المصرية مع الأمراض النفسية بطريقتين مختلفتين، الطريقة الأولى سطحية، ساذجة، تسْخر من المرض النفسي وتجعله مادة هزلية، مثل فيلم «إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين» حيث يلاحَظ كمّ الاستهزاء بالمرضى النفسيين، على الرغم من معاناتهم مع المرض، والطريقة الأخرى هي التي تعاملت بجديّة مع المريض النفسي، كما في فيلم «باب الحديد» من بطولة وإخراج يوسف شاهين، حيث التناول الجاد والأداء غير المفتعل، وتبدو على قناوي (يوسف شاهين) الاضطرابات النفسية في سلوكه وفي طريقة نطقه وتلعثمه، وكذلك في حبّه لـ «هنومة» (هند رستم) وتدليله للقطة وتشبيهها بحبيبته، ثم محاولته قتل هنومة حينما علم بأنها ستتزوج من أبوسريع (فريد شوقي). 
على صعيد الأدب، استفادت السينما من النصوص الأدبية، فأخذت عديداً من الأعمال، في مقدمها «الإخوة كرامازوف» لدستويفسكي، التي قدمتها السينما بعنوان «الإخوة الأعداء»، للمخرج حسام الدين مصطفى، وأدى محيي إسماعيل دور شاب مريض بالصرع، فضلاً عن عديد من النصوص الروائية العربية، نذكر منها ثلاثة أعمال لإحسان عبدالقدوس، قامت سعاد حسني ببطولة فيلمين هما: «بئر الحرمان»، و«أين عقلي»، في حين قامت فاتن حمامة ببطولة الفيلم الثالث «لا أنام»، ورواية «السراب» لنجيب محفوظ التي قدّمتها السينما بالاسم نفسه.

الشخصية النفسية في الدراما
لم تغفل الدراما التلفزيونية تجسيد المرض النفسي، فظهرت أعمال تلفزيونية تناولت هذا الجانب الإنساني. ويعدّ الفنان يوسف الشريف أبرز من قام بأداء أدوار المأزوم نفسياً، إذ قدم قبل ثلاث سنوات مسلسل «اسم مؤقت» عن شاب يعاني فقدان الذاكرة، ويبحث عن تاريخه وحقيقته واسمه، وكلما اقترب وجد حقائق مأساوية وتاريخاً لا يرضيه. وفي عمله الدرامي الآخر «الصياد» (2015) جسّد شخصية ضابط شرطة تُقتل زوجته وابنته، فينتقم بذبح كل من شارك في الجريمة، وتبدو الطبيبة النفسية التي تتولّى علاجه ومتابعته ويبوح لها بصدق عن كل ما يخفيه، وتصبح في النهاية شخصية وهمية، ليس لها وجود إلا في خياله.
كما جسد الفنان أحمد رزق دور الشاب المصاب بالتوحد، وذلك في أول أعماله الدرامية «الرجل الآخر» من بطولة الراحل نور الشريف، قبل أن يجسد للسينما شخصية أخرى لمريض بالتوحد في فيلم «التوربيني» من تأليف محمد حفظي وإخراج أحمد مدحت، ويروي قصة شاب مريض بالتوحد يرتبط بالمكان/ الأرض، وحينما يموت الأب، يحاول أخوه الأكبر أن يبيع كل شيء ويسافر.

التحول الكيفي مع الألفية الثالثة 
مع مطلع الألفية الثالثة اختلفت النظرة إلى المريض النفسي، وحدث تحوّل كيفي في التناول، فجاءت المعالجة السينمائية بعيدة عن المباشرة الفجّة التي اعتادتها السينما من قبل، بل ظهرت طرائق أخرى في المعالجة الفنية للمريض النفسي، حيث التناول الأعمق في الكتابة والأرقى أداء وتصويراً وموسيقى، وهو ما يعرف باللغة السينمائية، فظهر فيلم «ويجا» (2005) من إخراج خالد يوسف، حيث جسّد شريف منير حالة الإصابة بمرض الوسواس القهري الذي ظل يهاجمه حتى أقدم على جريمة قتل، وقد أنتجت السينما الأمريكية - بعد ذلك - الفكرة نفسها في فيلم يحمل الاسم نفسه.
وجاء فيلم «رسائل البحر» (2010) سيناريو وإخراج داود عبدالسيد، والذي تم ترشيحه لجائزة مهرجان الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، ويدور حول يحيى (آسر ياسين) الذي يعاني اضطرابات في النطق، ويتعرض للسخرية من أصدقائه وزملائه في العمل، فيعود إلى الإسكندرية مسقط رأسه، ويحيا حياة حقيقية من خلال الشخصيات التي يعايشها هناك، ويحمل الفيلم دلالات عديدة عن الحياة والتمسك بها وقيمة العلاقات الإنسانية في هذه الحياة، إلا أن شخصية يحيى التي أداها آسر بها ظلال من شخصية «مارسو» بطل رواية «الغريب» لألبير كامي، خاصة في التجرد من المألوف والرتوش، والسير نحو ما هو أعمق وغير مفتعل، وهذا موجود في بناء كثير من شخصيات الفيلم، نجده عند بسمة، ومحمد لطفي الذي هرب من المستشفى ورفض إجراء العملية الجراحية، لأنها ستخلّف فقداناً للذاكرة، يجعله ينسى أصدقاءه. وجسّد آسر في البداية الحالة النفسية التي تكشف عن الحيرة والتردد وفقدان الثقة. كما جسّد كريم عبدالعزيز حالة المرض النفسي في فيلم «الفيل الأزرق»، حيث يعمل طبيباً نفسياً، ويمر بحالات نفسية متفاوتة نتيجة وقوعه تحت تأثير قوى أخرى. 
أما فيلم «بعد الموقعة» للمخرج يسري نصرالله (2012)، ومثّل مصر في مهرجان «كان»، فقد جسد الحالة النفسية لشخصيات تأزمت نفسياً بسبب حالة الركود والفوضى التي أحدثتها ثورة 25 يناير وانقطاع أرزاقهم التي تقوم على السياحة بشكل خاص، واستطاع باسم سمرة أن يجسد الحالة النفسية المتردّية لشخصية «الخيّال» بصدق فني بعيد عن الافتعال، وإلى حد ما جاء أداء محمود عبدالمغني في فيلم «رد فعل» مقنعاً.
من أدوار المريض النفسي - أيضاً - في سينما الألفية الثالثة التي تركت أثراً كبيراً لدى الجمهور، دور الراحل خالد صالح في فيلم «الحرامي والعبيط»، حيث جسد شخصية المتسول الساذج الذي يعاني مرض الشيزوفرينيا وفقدان الذاكرة، ويتعامل ببراءة الأطفال ولا يعي شيئاً من مكر البشر، فيما يستغله صلاح (خالد الصاوي) بأن يسرق عينه، ويبيع كليته، ويساعده في ذلك مافيا تجارة الأعضاء البشرية وطبيب يتجاوز كل الخطوط من أجل المال.
في الألفية الثالثة، ظهر عديد من الفنانات اللاتي تمكنّ من تجسيد الأدوار النفسية بصور مغايرة لأقرانهن في حقبتي ثمانينيات وسبعينيات القرن الماضي، مثل حنان ترك في فيلم «أحلام حقيقية»، وبسمة في «زي النهاردة»، وهند صبري في «أسماء»، حيث جسدت بوعي الحالة النفسية لمريضة إيدز يرفضها المجتمع، وتعاني التهاب المرارة، فتحتاج إلى إجراء جراحة عاجلة لاستئصالها، لكن الأطباء يرفضون إجراء العملية خوفاً من عدوى الإصابة بالإيدز.
كل هذه الأدوار وغيرها، جاءت مختلفة تماماً عن الأدوار التي جسدتها فنانات أخريات في حقبة الثمانينيات، على الرغم من براعة الأداء والتعبير الصادق، عن المرأة المأزومة نفسياً، لكل من الفنانة شريهان في فيلم «خلّي بالك من عقلك» مع عادل إمام، ونبيلة عبيد في «توت توت» مع سعيد صالح، وقبلهما بمدة طويلة الفنانة شادية، التي أدت دور سيدة مصابة بانفصام في الشخصية في فيلم «عفريت مراتي» مع صلاح ذوالفقار، حيث مزجت بين الأداء الكوميدي والتراجيدي. 

فنانو الكوميديا والمرض النفسي
تفاوتت شخصية المريض النفسي لدى فناني الكوميديا بشكل حاد، فمثلاً عند محمد سعد لا يتم طرح حالة المرض النفسي باعتبارها موضوعاً يمكن الاتكاء عليه من أجل الكشف عن قيم إنسانية ما، إنما يصبح المرض النفسي مادة للفكاهة والإضحاك، هكذا جاء فيلم «اللي بالي بالك»، وفيلم «كركر» الذي يتعرض فيه البطل لحادث صعق كهربائي يؤثر في حالته العقلية، فلا يصبح المرض العقلي إشكالاً إنسانياً كاشفاً، بقدر ما يضحى مبرراً هزلياً للإضحاك.
أما أحمد حلمي، فهو أحد الممثلين الكوميديين القلائل الذين أولوا البعد النفسي اهتماماً خاصاً، واستطاعوا أن يجسدوه في عديد من الأفلام، مثل: «آسف على الإزعاج»، و«1000 مبروك» و«على جثتي»، وتعدّ هذه الأفلام إضافة حقيقية إلى السينما الجديدة، فهي ترصد علاقة الشخص المصاب نفسياً بالآخرين في أطوار استثنائية، من خلال الوقوف عند الحالة النفسية ومراقبة هواجسها وأوهامها ومزاعمها وأحلامها. 
المتأمل لتلك الأعمال يجد أنها ترصد بدقة علاقة الشخصية المأزومة بأقرب المحيطين (الأب، الأم، الأخت، الزوجة، الأصدقاء) في ظروف عارضة كالمرض وسيطرة هاجس الموت. هذه الأفلام الثلاثة حملت إرهاصاً فنياً لمرحلة مغايرة في السينما الجديدة، خاصة أن فيلم «سهر الليالي» (2003) الذي يعد إحدى العلامات الناتئة في السينما الجديدة، شارك في بطولته كوكبة من النجوم، بينهم حلمي الذي جاء أداؤه استثنائياً، واستطاع أن يجسد بصدق أحاسيس شاب فقير يعيش مع زوجة ثرية لا تغفل فقره، ولا تنسى أنها ابنة المجتمع الراقي. قدّم حلمي في هذا الدور أداءً فنياً راقياً، وعبّر بصدق عن أسمى المشاعر الإنسانية. 

هاجس الموت والفرصة الأخيرة
في فيلمي «1000 مبروك» و«على جثتي»، يسيطر البعد النفسي وهاجس الموت على الشخصية الرئيسة التي يسكنها إحساس بالتقصير تجاه الآخرين، وتسعى إلى عمل أي شيء إيجابي مؤثر. أما فيلم «آسف على الإزعاج» (2008) للمخرج خالد مرعي والمؤلف أيمن بهجت قمر، فهو يؤسس على حالة «الفقد» التي يعانيها البطل بسبب موت أبيه (عزت أبوعوف)، وأدت إلى صدمة عنيفة أسفرت عن الإصابة 
بـ «الشيزوفرينيا» وعقدة الاضطهاد، فيرفض موت الأب، ويقيم معه حواراً مستمراً، بل يلجأ إليه ويأخذ رأيه في شؤون الحياة، وفي الوقت نفسه يشعر بأن الجميع يكرهونه. 
يطرح فيلم «1000 مبروك» (2009) من إخراج أحمد نادر جلال وتأليف محمد وخالد دياب، فكرة حب النفس أو «الأنانية» دون الانشغال بالآخرين (الأم، الأب، الأخت، الأصدقاء)، ويكون هاجس الموت الملحّ هو الدافع الوحيد والأجدى للتغيّر، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، مثل إصلاح العلاقة بهؤلاء المقربين.
ويقوم فيلم «على جثتي» (2013) للمخرج محمد بكير والكاتب تامر إبراهيم، على تناول فكرة أن يقع الإنسان أسير تصورات يفرضها عليه عقله الباطن، فنحن إزاء طرح حوار ثلاثي بين الشخصية المحورية «رؤوف» (أحمد حلمي) وعقله الباطن وضميره الإنساني، فتكون الوساوس أو بالأحرى التصورات التي يفرضها العقل الباطن تجاه الزوجة، الابن، والمستخدمين أو المرؤوسين في العمل، مما يؤدي إلى الوقوع في عديد من المشكلات بسبب تلك التصورات الوهمية. 
ونجح حلمي في «شخصنة» تجليات النفس البشرية بتجسيد شخصية البطل، وتجسيد العقل الباطن، فيما جسّد حسن حسني دور «الضمير الإنساني» كشخصية فنية لها دلالة واضحة في الصراع القائم بين العقل الباطن، والضمير الإنساني أو النفس اللوامة. ويؤثر الوسواس القهري على «رؤوف» ويحدد، بطريقة مرضيّة، طبيعة علاقته بالآخرين. ويضحي أسيراً لتصورات وهمية، تجعله سيّئ الظن بالآخرين. وتصبح للغيبوبة التي تدهمه دلالة واضحة لحالة «الغياب» التام التي يمر بها، تاركاً مقاليد الأمور للعقل الباطن ليقوده كما يشاء. ونتيجة لذلك تسوء علاقته بالمحيطين. فما يحدث في أثناء الغيبوبة من نشاط حاد وسيطرة تامة للعقل الباطن، ينعكس عليه عندما يفيق. غير أن الشخصية الرئيسة، قبيل أن تخسر كل شيء، تلجأ إلى «الضمير» (حسن حسني)، فيناشده التأني في الحكم على الآخرين، والصبر حتى يرى الصورة كاملة، ويثق بالناس ■