الحكم التركي والاحتلال الفرنسي بالجزائر نظرات مقارنة لحمدان خوجة في كتابه «المرآة»

الحكم التركي والاحتلال الفرنسي بالجزائر نظرات مقارنة لحمدان خوجة  في كتابه «المرآة»

 قدّم الكتّاب الجزائريون الذين عاشوا في عهد الحكم العثماني بالجزائر عديداً من الانطباعات والأفكار، وطبعوا في أذهان قرائهم صوراً عن العثمانيين، حكاماً وضباطاً عسكريين ومواطنين بسطاء، ولعل أبرز شخصية مثقفة شاركت في هذه الحركة التأليفية حمدان خوجة الجزائري، وهو من الشخصيات التي تستحق العناية، لما له من سمعة وصدى لدى النخبة والحكام، والتجار المالكين، ولعل أبرز تأليف يعنينا في هذا المقال كتاب «المرآة»، الذي ألّفه كاتبه في باريس عام 1833، أي بعد ثلاث سنوات من احتلال الفرنسيين للجزائر، وقد ضاع الأصل العربي وبقيت الترجمة الفرنسية التي قام بها حسين دغيز الطرابلسي، لتعاد ترجمته إلى «العربية» على يد محمد العربي الزبيري.

 

إن كان كتاب المرآة لحمدان خوجة سجلاً تاريخياً، متعلقاً بأحوال الجزائر والجزائريين، في فترة ما بعد الحملة الفرنسية عليها، ووثيقة حية تصور عادات السكان العرب والبربر والأتراك، وحياتهم الاجتماعية والسياسية والدينية، فإن الكتاب يدور في مجمل خطابات كاتبه حول محورين أساسيين متصلين ببعضهما البعض:
المحور الأول: العلاقة بين الجزائريين والأتراك العثمانيين حكومة وجيشاً وشعباً.
المحور الثاني: علاقة الجزائر بفرنسا.
والمحوران متصلان؛ لوجود نشاط مقارنة بين نظام الحكم العثماني ونظام الحكم الفرنسي في الجزائر، مع تفضيل الأول، كما أن حمدان خوجة كان يطمح إلى عودة الفرنسيين إلى ديارهم، خاصة أنه كتب مؤلفه بعد فترة قصيرة من الاحتلال، ثم إنقاذ الجزائر من الضياع، واسترجاع الحياة المشتركة بين الجزائريين والأتراك العثمانيين بالوطن الجزائري، ولن تتحقق تلك الأمنية إلا بأمرين هما: خروج فرنسا، وتصحيح ما شاب العلاقة الطيبة بين الشعب الجزائري؛ بربراً وعرباً وصحراويين، والشعب التركي القاطن بالجزائر، ولهذا تولى حمدان خوجة إظهار النقاط الإيجابية في هذه العلاقة من تكامل وحماية للأملاك والأنفس والدين، غير أنه لم ينسَ في كل مرة نقد سلبيات العلاقة التي غالباً ما جسّدها الحكام الأتراك، وأطراف ذات وزن من الجزائريين.
ويمكن اعتبار كل ما وجّهه الكاتب خوجة في المرآة من رسائل واضحة أو مشفرة إلى فرنسا ما هي إلا لتحقيق الأمنية المذكورة سلفاً، حتى أن خوجة سعى إلى التوسط بين باي قسنطينة والأمير عبدالقادر في محاولة لرأب الصدع بين الحكومتين العثمانية والجزائرية.

خطابات خوجة لفرنسا
حاول حمدان خوجة صرف نظر الفرنسيين عن بلاد البربر، بوصفها وصفاً واقعياً وموجزاً نابعاً عن الزيارة والمشاهدة، فأفاد بحال وعورة أراضيها ومنعتها، وفقرها، فيقول في هذا المعنى: «أما القرى الكبيرة، الواقعة في الجبال الوعرة، فإنها منيعة لا يصل إليها العدو إلا بشق الأنفس». 
كما حذّر حمدان من احتلال البربر القريبين إلى التوحش: «من الصعب – يقول – على فرنسا أو على غيرها من الدول أن تخضعهم، وإلى جانب ذلك، فإن هذا الاحتلال بالنسبة إلى فرنسا لن يكون في مستوى عظمتها، إنها تملك ثروات متعددة من حيث الرجال والأموال، فماذا ستستفيد من محاربة هؤلاء السكان وإنفاق كنوزها وإراقة دماء جنودها وتعريضهم للموت الناتج عن المناخ؟ وما هو الهدف من قيامها بمثل هذه الحملة، أيكون ذلك لمجرد الرغبة في إبادة الناس أم لأجل نيتها الحمقاء في اكتساب أراض لا تنبت شيئاً».
وقد حاول حمدان خوجة بهذا القول أن يغيّر النظرة الفرنسية التي قرأ عنها في كتب العسكريين والرحالين والسياسيين آنذاك عن حلم فرنسا في التوسع وامتلاك أجزاء أخرى من العالم، ضمن مخطط أكبر لدول أوربا هو اقتسام ما كانت الدولة العثمانية تملكه، والولوج إلى مجاهل إفريقيا الغنية بالثروات، وغيرها من المشاريع، كما أراد إضعاف عزيمة الفرنسيين، بتصوير مآل الاحتلال، وهو خسارة الأرواح لخطورة البلد، وصعوبة مناخه، وضياع الأموال، وخسارة الهيبة التي كانت فرنسا تملكها، ويظهر خوجة من خلال مدحه لفرنسا ووصفها بالعظيمة والغنية متأثراً بما رآه في هذا البلد من تقدّم حضاري يفوق كثيراً ما وجده في بلده.
وبإزاء التنفير من احتلال الجزائر، يستخدم خوجة أسلوب المقارنة بين الحكمين التركي والفرنسي، وعليه يقدّم نظرة متأنية عن أسباب استقرار الأتراك في الجزائر وثقة السكان العرب والبربر بهم عدا القليل منهم، حيث أرجع ذلك إلى عوامل عدة أهمها: احترام الأتراك للمرابطين المبجلين من الشعب، وإعطاؤهم امتيازات كبيرة، ودفاعهم عن الدين وحمايته في البلاد، والعمل بقوانينه، إضافة إلى محافظة الأتراك على صلواتهم، مما أشاع لدى السكان فكرة صلاحهم ومرابطيتهم.
 ويضيف خوجة عاملاً رابعاً هو تطبيق العدالة والإنصاف: «اللذين يعتبران أساساً لجميع الحكومات التي تريد أن تكون عظمتها دائمة، وعندما يتم التأثير على العقول فإن الأجسام تتبع بالطبع، وما الفتح الحقيقي إلا ذلك الذي يستهدف القلوب لا الأجساد». وإن كانت هذه حال الأتراك، فإن الفرنسيين لم يستطيعوا تطبيق هذه المبادئ، وأعمتهم الثروة عن ذلك: «فأصبحوا صمّاً عمياً لا يبصرون».

عدل الحاكم وظلم المارشال
ويقارن في موضع آخر بين عدل الحاكم التركي الباشا حسين، وظلم وجور المارشال دوبورمون، حيث لم يجتهد القائد الفرنسي في التحري عما يصل إليه من الوشاة، وأصدر أحكاماً خطيرة كنفي الأتراك من البلاد وإبعادهم عن نسائهم وأطفالهم، بعدما اتهموا زوراً بالتآمر على الفرنسيين، وتبرم السكان الجزائريين بهم، وهو أمر بعيد عن الصحة، إذ كان الجزائريون آنذاك يشتكون من بعض اليهود الذين أهانوا المسلمين، بينما شهد خوجة مع الباشا حسين عكس الذي حدث مع دوبورمون، فقد وصلت إليه شكوى من أحد القضاة الجائرين، فلم يعزله حتى تأكّد بشخصه من صحة ما فعله من حكم دون الاستناد إلى القانون: «هذه مقارنة - يقول خوجة - بين إدارة الإيالة والإدارة الفرنسية، ومع ذلك فإن السيد دوبورمون يزعم أنه جاءنا ليقضي على التعسف، ويطبق القانون وفقاً للعدالة والإنصاف، فلو أن هذه الأخطاء ارتكبها شخص آخر غير السيد دوبورمون لكان يمكن غفرانها، ولذلك صار كل واحد منا يقول: أين هم إذاً أولئك الفرنسيون المشهورون، تلامذة نابليون العظيم، أين هم أولئك الجنرالات المتصرفون، والمواطنون والقضاة النزهاء؟ ماذا فعلوا بعلمهم، ومقدرتهم وذكائهم؟». 
ومن الشخصيات التركية التي نالت مدح خوجة، يحيى آغا الذي كان قائداً كفؤاً له جيش منظم، مستعد للقتال أيام الحرب والسلم معاً، لشدة مراقبة هذا الآغا لجنوده واختباره لهم، ولهذا تحسّر خوجة كثيراً لعزل حسين باشا هذا الأغا، وعدّ ذلك: «غلطة فادحة لا تغتفر، قد تكون هي الوحيدة التي يمكن أن يلام عليها حسين باشا خلال السنوات الثلاث عشرة التي دامها عهده». عالج حمدان خوجة مسألة المرابطين، وأسباب انتشارهم والاعتقاد بهم من قبل الشعب، حيث رأى أنه منذ دخل الفاتحون المسلمون البلاد، حاولوا التعايش مع السكان، وتجنب فرض قوانين جديدة عليهم، لما لاحظوه من عناد وتزمّت فيهم، واحترام شديد للصلحاء والمرابطين، هذا الأمر استمر مع الحكام المتعاقبين عبر الزمن، وعندما تولى الأتراك العثمانيون الحكم لم يكتفوا «بأن فرضوا على أنفسهم احترام هؤلاء المرابطين، وإنما صاروا يقدمون لهم أكبر الامتيازات وأثمنها، وصارت أماكن سكناهم وضرائحهم بعد الموت مقدسة».  
ومن الملاحظات الدقيقة التي قدّمها خوجة في خضم نقده للحكم العثماني رغبة في الإصلاح، توصله إلى سبب الحقد المتولد بين المواطنين في تلمسان والأتراك، وهو إبعاد كل عربي أو كرغلي عن تولي الحكم، أو الانضمام إلى صفوف الميليشيا، وهذا الحقد الذي أدى إلى حصول الشقاق والخلاف بين السكان والأتراك في تلمسان لم يزُل إلا بعد: «أن رأوا أن سلطان المغرب بغى عليهم، وأن الفرنسيين، من جهتهم سلطوا على مدينة الجزائر حكماً جائراً، ووجدوا أنفسهم بين نارين، بادروا إلى إبرام الصلح فيما بينهم، كانت مصالحهم تستدعي الوحدة فنسوا كل الضغائن المهلكة التي لا معنى لها». 

الموالاة للعثمانيين
وبرغم احتقان الوضع بين الحكام العثمانيين والسكان، يشير خوجة في أكثر من مناسبة إلى وجود طوائف كانت موالية للعثمانيين، منهم سكان السهول من العرب والرحّل، الذين بسبب حاجتهم إلى الحماية من قبل الأتراك لغلتهم وأملاكهم، ولحرصهم على الزراعة كانوا: «يدفعون طواعية ضريبة لرئيس الإيالة».
 ويقدّم خوجة توضيحات بالغة الأهمية عن مسألة دخول الفرنسيين ميناء سيدي فرج، والملابسات الدقيقة لهذا الحدث، وهو إن كان فيما سبق مادحاً للأتراك، وللداي حسين، فإنه هنا يوجه نقداً لما شهده في حكم الأتراك من وجود تعيينات غير مناسبة، وعزل للبايات بشكل أهوج، إلى حين وصل الداي حسين إلى الحكم، واستقراره نسبياً مقارنة بسابقيه مدة تتجاوز الثلاثين سنة، وبرغم أنه من «أسرة كريمة، كما يتمتع بثقافة واسعة، من ذلك الأصل التركي العريق، حرص دائماً على عدم إراقة الدم البشري، ووفاؤُه فيما يخص القيام بالالتزامات معروف في كل أنحاء أوربا»، فإن الداي كان مخطئاً في عدم استفادته من قدماء الحكومة ذوي الخبرة، وعدم اجتهاده في رد عدوان فرنسا، خاصة بعد أن عزل القائد الشجاع والمخلص يحيى آغا وولّى مكانه إبراهيم آغا، الذي وجّه إليه خوجة مسؤولية فشل مقاومة الفرنسيين؛ إذ: «كان إبراهيم آغا - كما قال حمدان - يريد محاربة الفرنسيين من دون جيش منظم ولا ذخيرة ولا مؤن، ولا شعير للخيل، ومن دون أن تكون له المقدرة الضرورية للقيام بالحرب»، ولهذا ذم حمدان الآغا إبراهيم، بعدما يئس من نصحه وتوجيهه، إذ وجده صبياً لا رجلاً: «كثيراً ما أظهر الفشل والقنوط». 
وفي فصل خاص بانحطاط حكومة الأتراك وسقوطها، حلّل خوجة أسباب هذا الانحطاط، التي ذكر منها فساد أعضاء الميليشيا، وتجنيد ذوي السوابق من الأتراك واليهود واليونانيين، هذه الميليشيا أصبحت: «ترتكب المخالفات ضد البدو والقبائل، ثم قام هؤلاء البؤساء بإشعال الثورات وقلب قادة الدولة بحسب هواهم»، ويضيف حمدان سبباً آخر في انحطاط الحكومة التركية، وهو إعطاء البشوات السلطة المطلقة وإبعاد الديوان وأعيان البلاد، والكراغلة عن المشاركة في القرارات والمناصب، مما أدّى إلى توسّع الهوة بين الجزائريين والأتراك، واحتلال اليهود بدلاً منهم مرتبة كبيرة، وحصولهم على امتيازات مكنتهم من الاحتيال على الحكام الأتراك، وربح الأموال الطائلة من ذلك ■