الرسم بالكلمات (1)

الرسم بالكلمات (1)

ظاهرة جديدة وجدتها في الشعر الأخير لمحمود درويش، وهي ظاهرة دالة ولافتة للانتباه من حيث إضافتها إلى الثراء النوعي والكيفي لشعر درويش الذي نعرفه، والذي يبدو أنه لاحظ نوعاً من الفراغ في فن الوصف بالقصيدة العربية المعاصرة، فأراد أن يثري هذا الفن، ويعيد إحياءه، ولكن بأسلوب حداثي لا يستطيعه إلا أمثال درويش من عباقرة الشّعر. 

وقديماً قال البلاغيون العرب: إن أفضل الشّعر ما قلب السمع بصراً، والتفت البلاغيون اللاتينيون إلى هذه الخاصية، فحدثونا عن أن الشّعر نوع من الرسم، متابعين في ذلك ما ذكره الجاحظ قبلهم من أن الشّعر نظمٌ وتصويرٌ... وهكذا إلى أن نصل إلى الإمام محمد عبده، الذي تحدث عن فن الشّعر، مقارناً إياه بفن الرسم، فوصف الرسم بأنه شعرٌ صامت، والشّعر بأنه رسمٌ ناطق، وقد رأينا حرص الشعراء التراثيين على هذه التقاليد التي وصلت فن الشّعر بالرسم والتصوير الشّعري بالرسم، فكتب أحمد شوقي قصائد عن «البسفور كأنك تراه». وهكذا توارثنا تقاليد التصوير الشّعري الذي بلغ ذروته في فن الوصف على وجه التحديد. 
ويبدو أن محمود درويش أراد إحياء هذا الفن، متابعاً في ذلك الإرهاصات الحداثية التي سبقته، فجعل أجزاء من قصائده الأخيرة مخصصة لتحديث فن الوصف، وتحويله من غرض قديم إلى مجال جديد تماماً ونوع من الرسم بالكلمات. 
وفي هذا المجال تختلط المجردات بالمحسوسات، وتتأمل الذات الطبيعة، كما لو كانت الطبيعة مراية ينعكس عليها الحضور الإبداعي لهذه الذات، وتتجاوب المدركات وتتراسل الحواس. وقد بدأت هذه الظاهرة تلفت نظري بقوة، وعلى نحو خاص في ديوان درويش قبل الأخير «أثر الفراشة»، الذي سبق أن كتبت عنه في هذه المجلة منذ سنوات. 
وفي هذا الديوان مثلاً نقرأ ما يخطه درويش بعنوان «كقصيدة نثرية»:
صيفٌ خريفيٌّ على التلال كقصيدةٍ نثرية النسيم
إيقاعٌ خفيف أحسُّ به ولا أَسمعه في تواضُع الشجيرات
والعشب المائل إلى الاصفرار صُوَرٌ
تتقشَّفُ، وتُغري البلاغة بالتشَبُّه بأَفعالها 
الماكرة. لا احتفاء على هذه الشِعاب إلاّ
بالـمُتاح من نشاط الدُوريّ، نشاطٍ يراوح
بين معنى وعَبَث والطبيعة جسدٌ يتخفَّف 
من البهرجة والزينة، ريثما ينضج التين والعنب 
والرُّمَّان ونسيانُ شهواتٍ يوقظها المطر...
هذا المقطع لو أعدنا فيه النظر لوجدناه يمثل كتابة جديدة في شعر درويش، ووجه الجدة فيها متعدد؛ فهو أولاً يركز على وصف الطبيعة متحدثاً عن الصيف بمصاحباته الدالة من نسيم وتلال وغابات تحتشد بالشجيرات وعشب متعدد الألوان، بحيث تبدو الطبيعة كما لو كانت جسداً عارياً ينتظر النضج، أو كما لو كانت الطبيعة تتأهل للانتقال من فصل الخريف إلى فصل الربيع. 
لكن الجدة في هذا المقطع ليست في الموضوع، وإنما في الكيفية التي يصاغ بها فَيصِل إلينا من خلال صياغة إيقاعية نثرية، وتشابكات دلالية تلفتنا إلى حضورها الذاتي قبل أن تلفتنا إلى الموضوع، فكأننا نتطلع إلى الموضوع من خلال تعاشيق زجاج ملون تشد انتباه العين إلى حضورها الذاتي، قبل أن تشدنا إلى الموضوع الذي تصوره أو تنقله إلينا، ولذلك فغرابة التشبيه دالة، لها دلالة تتجاوب مع دلالة الاستعارة الغريبة المفاجئة؛ خصوصا حين نتذكر أن الأذن العربية لم تعتد على وصف الصيف الخريفي على التلال بأنه قصيدة نثرية، ولا حتى النسيم بأنه إيقاع خفيف يحس ولا يسمع، ولا اعتدنا أن نرى الاستعارة المكنية التي يكتسي بها تواضع الشجيرات، ولم نسمع في وصف العشب المائل للاصفرار بأنه صور تتقشف أو تغري البلاغة بالتشبه بأفعالها الماكرة. 
قد نكون على ألفة بالطبيعة من حيث هي جسد يتخفف من البهرجة والزينة، ولكن لا لكي ينتظر نضج التين والعنب والرمان، ولم نألف أن الشهوات ينقذها المطر في هذه التلال بصيفها الخريفي الذي يبدو أنه قصيدة نثر؛ خصوصاً في إيقاعها الرهيف الذي يحس به الشاعر ويريد أن ينقله إلى القارئ في نوع من الهمس الخفيض أو الكتابة الملتفة بالغموض والالتباس الذي يبين ولا يبين عن المعنى في نوع من المراوغة التي هي أساس البناء الشعري لهذه اللوحة المرسومة بالكلمات، التي تلفت الانتباه إلى حضورها الذاتي، جاذبة الأعين إلى ندرتها وغرابة تشبيهاتها وطرافة استعاراتها، فضلاً عن الشعرية البرية لشبكات دوالها التي تأخذ من تشابك العوسج مبناها. 
هذا النوع من الرسم بالكلمات نراه على نحو أوضح في قصيدة بعنوان «ثلج»، نقرأ فيها:
تـكثَّـفَ الــهــواءُ الأبـيـض، وتــبــاطـأ وانــتــشــر
كـالـقـطـن المنـفـوش في الـفـضـاء وحـين لامــس
جـَسَــدَ الـلـيــل أضـاءه مــن كــل نـاحـيـة ثــلــج
انـقـطـع الـتـيـار الـكـهـربـائـي، فـاعـتـمـدت عـلى
ضــوء الـثـلـج لأهـتـدي إلــى الممــر، الــفــاصـل
الموسيـقـي، بـين جـدارين، فـإلى الغرفة المجاورة
لشـجيـرات الـنخـيـل السـت الـواقـفـات كـراهـبات
عـلـى كـتـف الـوادي فـَرَحٌ شِـبـْهُ مـيـتـافـيـزيـقـي
يـأتـيـني مـن كـُلّ ما هـو خـارجي، وأَشكـر الـريح
الـتـي جـاءت بالـثـلـج مـن أقـالـيـم لا تـصـل إلـيهـا
إلا الـروح لـو كـنـتُ غـيري لاجتهـدت في وصف
الـثــلــج لـكــنـي إذ أنـخـطـفُ فـي هـذا الــعـشــب
الـكـونيّ الأبـيض، أتـخـفـف مـن نفـسي فـلا أكـون
أنـا، ولا أكــون غــيـري، فـكـلانـا ضـيـفـان عـلى
جــوهــر أبـيــض، مـــرئــي وواســـع الــتـأويـــل
وحـين عـاد الـتـيار الـكـهـربـائـي، أطـفـأت الضوء
وبـــقــيـت واقــفــاً أمــام الــنـافـذة لأرى كــم أنـا
هـــنـــاك... طــيــفـــاً فــي مـــا وراء الــثـــلـــج!
والقصيدة قصيرة من حيث الحجم. وربما كان أول ما يلفت الانتباه إليها هو نثريتها التي يخيل معها للقارئ خلوها من الوزن والإيقاع، ولكن القصيدة موزونة وتنطوي على إيقاعها الخاص المراوغ الذي يحتاج إلى روية وصبر في الاستماع إلى تموجاته.
ومن ناحية أخرى، تلفت القصيدة الانتباه إلى أنها تنبني على التدوير العروضي؛ فالجمل تمتد على أكثر من سطر ولا تتوقف إلا حين يكتمل الحضور النسبي للمعنى الجزئي. 
وتلفت القصيدة الانتباه ثالثاً بغرابة استعاراتها، ولا يتوقف الأمر - في هذا السياق - على الاعتماد على الاستعارة التي قال عنها أرسطو إنها آية الموهبة الطبيعية وعلامة الشاعر الكبير.
فالاستعارة في هذا السياق تنتشر كالقطن المنفوش في القصيدة كي تضيئها من كل ناحية، لتكشف لنا هوية هذا الثلج الذي يراه الشاعر في الظلام، بعد أن انقطع التيار الكهربائي، فيكتفي بالنظر إليه كأنه نديف متواصل من قطن، أو كموجات لحن موسيقي بين جدران وأشجار نخيل واقفات كراهبات على كتف الوادي. 
وينتشي الشاعر بالمشهد فيشعر بنوع من الفرح الصوفي شبه الميتافيزيقي يأتيه من الخارج والداخل، فيشكر الريح التي جاءت بنديف الثلج من مناطق لا تصل إليها إلا الروح. 
ودالة جملة «لو كنت غيري لاجتهدت في وصف الثلج» من حيث إبرازها تحول فن الوصف إلى رسم بالكلمات، ولكن هذا الرسم لا يتوقف عند وصف الحسيات فحسب، وإنما يغادرها إلى غيرها في ذلك المدى الأثيري الذي يتخفف الشاعر فيه من نفسه، فلا يكون هو ولا يكون غيره، وإنما هامش يضاف إلى جوهر أبيض، نتفق على أننا نراه، ولكننا نختلف في تأويله. 
وعندما تنتهي القصيدة تأتي المفارقة التي تجعل من الفاعل مفعولاً به، ومن الذات موضوعاً، ومن الثلج المتساقط نفسه نوعاً من المرآة التي لا ترى الذات حضورها إلا فيها، كأنها المتكلم والكلام، والمرآة التي تنوس بين الحضور والغياب.هل يمكن أن نصف هذا المشهد بأنه لوحة من لوحات الطبيعة الصامتة التي يرسمها الرسامون؟ إن الأمر أوسع من هذا الاختزال؛ فالرسم بالكلمات في مشهد «الثلج» لا يهدف إلى محاكاة حضوره ولا حتى بيان الأثر النفسي لوجوده على نفس شاعر متوحد في كوخ يقع في غابة، ولا حتى محاكاة لفن الرسم، فالأمر أبعد من ذلك، لأنه بالدرجة الأولى توسيع لحدود الكتابة من ناحية، وتوسيع لحدقتي عين الشاعر من ناحية موازية، ووصول بالرسم بالكلمات إلى مداه الشعري الخاص الذي لا يمكن أن نراه في لوحات الرسامين، وإنما في أعمال شعراء لا يقلون عبقرية عن عبقرية درويش في تحويل المدركات إلى رموز، والتجرد من الذات لرؤية انقسامها على نفسها، وتحويلها إلى فاعل للتأمل ومفعول له. 
ومَن غير محمود درويش يستطيع أن يصل في قصيدة «أغبطُ كلَّ ما حولكِ» إلى هذا المستوى الجمالي الرفيع؟
أغبط حواسي. للهواء لون الجاردينيا...
ولرائحتك على كتفي أقواس نصر وضحك
أغبط الخناجر المسالمة النائمة في أغمادها
أمامك على المنضدة، في انتظار إشارة
منك لقتلي. أغبط المزهرية، تستغني عن
وردها الأصفر بما تغدقين عليها من قرمز
الشفتين الجائعتين إلى جوعي. وأغبط اللوحة
المحدقة إليك بضراعة: انظري إليّ أطول
لأكمل ما ينقصني من بحيرات وبساتين كرز
وأغبط أعشاب السجادة تشرئب إلى حجلة
تهبط إليها من علٍ، وإلى حجلة تستريح على
الركبة، فيسخن رخام الغرفة وخيالي.
وأغبط المكتبة المضطربة المكتئبة لخلوها من
كتاب شهواني في مديح ربوتين عاجيتين صغيرتين
مكشوفتين أمامها على هياج الجيتارات، ومغلفتين
بموجة حرير يتنهد، وأغبط أصابعي تلتقط
ما يفيض عن حاجة يديك إلى حوار الضوء
والظل وحركة الملعقة في فنجان الشاي،
وتحريك الملح في جسد يحن إلى عاصفة
لتأجيج نار النشيد...
أذكر أن الناقد الفرنسي رولان بارت قسّم النصوص الأدبية إلى قسمين؛ الأول أطلق عليه اسم النص القرائي، أما القسم الثاني فهو النص الكتابي. 
النص القرائي هو النص الذي يطالعه القارئ بسهولة، فهو كالأرض المنبسطة أو كالمرآة الصافية يعطي نائله لكل طالب، وللمرة الأولى بيسر وسهولة، بسيط ومباشر كأنه الخط المستقيم الذي لا يتعرج ولا يفارق استقامته من نقطة الابتداء إلى نقطة الانتهاء في ذهن القارئ.
وكل النصوص التقليدية هي نصوص قرائية عادة، تقرأ نفسها بنفسها، على نحو تدعم معه نظرة جامدة إلى الواقع وهيكل ثابت من القيم التي تخطاها الزمن. 
أما نصوص الكتابة فهي نصوص تفرض علينا أن ننظر إلى طبيعة اللغة نفسها، وليس النظر - من خلال اللغة - إلى عالم واقعي مقدور، فتورطنا هذه النصوص في نشاط مربك، لكنه نشاط بهيج نعيد فيه خلق العالم في الآن ومع المؤلف كلما مضينا معه في النص. 
وإذا كانت نصوص القراءة تعتمد على فرضيات جاهزة، وتفرض نوعا من المرآوية في التقديم، فإن هذه النصوص تقوم على علاقات ثابتة بين الدال والمدلول تدعمها هذه الفرضيات الجاهزة، وذلك التقديم المرآوي، فتبدو هذه النصوص كأنها تقول لنا في ثباتها: هذا ما كان عليه العالم وما سوف يظل عليه. 
أما نصوص الكتابة فإنها لا تفترض شيئا وتتأبى على النقلة اليسيرة من الدال إلى المدلول فتظل منفتحة، على نحو لا تتوقف معه حركة الشفرات التي نستخدمها في تحديد هذه النصوص.
وأعتقد أن النص الذي استشهدت به من قبل هو نص كتابي بامتياز، فهو نص يلفتنا حضور اللغة نفسها إلى ذاته قبل أن يلفتنا إلى ما وراءه، فلا نستمتع بالموضوع الذي ترسمه الكلمات بقدر ما نستمتع بطريقة الرسم وبالكيفية التي يأخذ بها الهواء لون الجاردينيا أو الرائحة التي تتحول على الكتف إلى أقواس نصر وضحكات، وإلى الحناجر المسالمة النائمة في أغمادها على المنضدة، وإلى المزهرية التي تستغني عن وردها الأصفر، وذلك بالقدر الذي نستمتع به ونحن نطالع تسرب نوع من الإيروتيكية الرهيفة في حنايا الرسم، كأنها شعيرات مراوغة بين نسيج السجادة أو حجلة تستريح على الركبة. 
ولماذا نقول إن تداخل الاستعارات والتشبيهات التي تؤذن بتداخل العوالم والدوالِ والمدلولات هي الألوان التي تختلط في فرشاة الرسام، الذي يرسم لوحة من لوحات الفن الحديث، تظهر لنا مشهداً، نشعر به ونقرأه بإحساسنا أكثر مما نراه بأبصارنا. وشيء مثل ذلك نراه في قصيدة «حمام» التي تفاجئنا بالكلمات التالية:
رفٌّ من الحمام ينقشع فجأة من خلل الدخان 
يلمع كبارقة سِلْمٍ سماوية، يحلِق بين الرماديّ
وفُتات الأزرق على مدينة من ركام ويذكِرنا
بأن الجمال مازال موجوداً، وبأن اللاموجود
لا يعبث بنا تماماً إذ يَعِدُنا، أو نظنُّ أنه
يعدنا بتجلِي اختلافه عن العدم في الحرب
لا يشعر أَحد منا بأنه مات إذا أَحسَّ
بالألم. الموت يسبق الألم، والألم هو 
النعمة الوحيدة في الحرب، ينتقل من حيّ إلى 
حيّ مع وقف التنفيذ. وإذا حالف الحظّ أحداً
نسيَ مشاريعه البعيدة، وانتظر اللاموجود
وقد وُجِدَ مُـحَلِقاً في رفِّ حمام أرى في سماء 
لبنان كثيراً من الحمام العابث بدخان يتصاعد
من جهة العدم!
ونقابل رمزية الحمام في هذا النص، وهي رمزية ذات تراث طويل في الإبداع الإنساني من حيث دلالتها على السلم والأمان، ولكنها رمزية خدّاعة، لأنها موجودة في بيروت التي سرعان ما تتفجر فيها غرائز الإخوة الأعداء فيتبادلون القتل والتدمير، لكن ما بين اللحظات التي يتوقف فيها الغبار أو ينقشع عن السماء يبدو الحمام فجأة كلمعة البرق السماوية، يحلّق بين الرمادي وفتات الأزرق على مدينة من ركام كي يذكّرنا بأن الجمال لايزال موجوداً، وبأن القبح كالعبث واللاجدوى ينتظر أن ينشب أنيابه فينا، ولذلك فرؤية الحمام الصاعد في سماوات لبنان هي رؤية بارقة سلم سماوية تحلق صوب جهة العدم، تشير إلى السلام في الوقت الذي تحذر فيه من نقيضه: الموت والعدم.
هذا النص الذي يتراوح بين الكتابية والقرائية لا ينطوي على مجرد رسم محايد بالكلمات، وإنما سردية تتأرجح بين الرمز والكناية كي تؤكد ضرورة أن تتغلب الحياة على الموت، وأن يظل الحمام منطلقاً في سماوات صافية، لكن بما يشي برسالة لن يفلتها انتباه القارئ؛ كي يدرك مغزاها، فيعمل ما يستطيع كي تبقى السماوات صافية ومغوية بانطلاق الحمام في آفاق السماوات التي تحدق فيها الأعين.
ويتصل بهذا النوع من الرسم بالكلمات الوقوف عند الألوان والتحليل الشعري لكل لون على حدة، أو حتى المزج بين الألوان، حيث يتراسل تعدد الألوان وتجاوب دلالاتها، في الميراث الخاص بالشعر الرمزي. 
وهو الميراث الذي ينتسب إليه شعر محمود درويش الأخير، خصوصاً حين يتوقف عند «اللون الأصفر» الذي هو عنوان هذه القصيدة التي تقول:
أزهارٌ صفراء توسّع ضوء الغرفة. تنظر
إليّ أكثر مما أنظر إليها. هي أولى رسائل
الربيع. أهْدَتنِيها سيّدةٌ لا تشغلها الحرب
عن قراءة ما تبقَّى لنا من طبيعة
متقشفة. أغبطها على التركيز الذي يحملها
إلى ما هو أبعد من حياتنا المهلهلة...
أغبطها على تطريز الوقت بإبرة وخيط
أَصفر مقطوع من الشمس غير المحتلة.
أُحدّق إلى الأزهار الصفراء، وأُحسّ
بأنها تضيئني وتذيب عتمتي، فأخفّ
وأشفّ وأجاريها في تبادل الشفافية.
ويُغويني مجاز التأويل: الأصفر هو
لونُ الصوت المبحوح الذي تسمعه الحاسة
السادسة. صوت مُحايدُ النَّبرِ، صوت
عبّاد الشمس الذي لا يغيِّرُ دِينَه.
وإذا كان للغيرة - لونهِ من فائدة،
فهي أن ننظر إلى ما حولنا بفروسية
الخاسر، وأن نتعلم التركيز على تصحيح
أخطائنا في مسابقاتٍ شريفة!
إن اللون الأصفر هنا متعدد الدلالات؛ فهو أولاً لون زهور تهديها صديقة إلى الشاعر، وهو ثانياً أول رسائل الربيع. ولكنه ليس أولى الرسائل المغلقة التي لا نستطيع أن نقرأها، وإنما هو أولى الرسائل التي تلفتنا تعاشيقها المجازية إلى ضرورة تأويلها؛ حيث يمكن أن نرى في الأصفر لون الصوت المبحوح الذي تسمعه الحاسة السادسة. 
وغواية مجاز التأويل في هذا النص هي الغواية التي تنقلنا من الظاهر إلى الباطن، ومن الدال الذي يومئ بمراوغة إلى وضع قائله بوصفه شاعرَ أرض محتلة، وشاعراً يشعر بكوارث من ينتمي إليهم، ومن يعرف قضاياهم الخاسرة، ومن يحاول أن يدفعهم إلى مجاوزة هذه الخسائر كي ينتقلوا من واقع الضرورة إلى آفاق الحرية، ولكن بصعوبة تكاد تكون مستحيلة، لكنها لا تفارق دائرة الإمكان، فيتحول اللون الأصفر إلى ألوان أخرى أكثر بهجة في دلالاتها على مستقبل أفضل. 
وإذا كانت الرمزية الغالبة على هذه القصيدة هي رمزية اللون الذي يعلو على غيره من رمزيات تجاوب الحواس، فإن هناك رمزية أخرى في الرسم بالكلمات، وهي رمزية تتصل بدرجات الأصوات التي تبدأ من «الحفيف»؛ حيث نقرأ:
كَمُصْغٍ إلى وَحْيٍ خفيّ، أُرهف السمع
إلى صوت أوراق الشجر الصيفيّ... صوتٍ
خَفِرٍ مُخَدَّر مُتَحدِّرٍ من أَقاصي النوم...
صوتٍ شاحب ذي رائحة حنطية قادم
من عزلة ريفيّة... صوتٍ متقطعٍ مُوَزّع
بتقاسيمَ مرتجلةٍ على أوتار نسيم مُتَمَهّل.
لا يسترسل ولا يطيل الفواصل. لصوت
أوراق الشجر في الصيف تَقَشُّف الهمس
وتعفُّف النداء. كأنَّ الصوت هذا لي 
وحدي، يخطفني من ثقل المادة إلى خفّة
الإشراق: هناك وراء التلال، وما
بعد الخيال، حيث يتساوى الظاهر والباطن، 
أَسبح خارج ذاتي في ضوء بلا شمس
بعد غفوة تشبه الصحوة، أو بعد
صحوة تشبه الغفوة، يعيدني حفيف
الشجر إلى ذاتي معافى مُصَفّى من
الوساوس والهواجس. لا أَسأل
عن معنى هذا الصوت: هل هو نجوى ورقة
إلى أختها في هذا الخلاء، أم هو حنين الهواء إلى قيلولة؟ 
صوت بلا كلام يهدهدني ويمسّدني ويحولني
وعاء ينضح بما ليس منه... ولا فيه 
كأنه عاطفة تبحث عن عاطفيّ... شبيهِ!
والحقيقة أن هذه أول مرة أقرأ في العربية عن حفيف الشجر أو حفيف الأغصان، فأرى كيف ينقلب السمع بصراً، كما كان القدماء يقولون، وذلك عبر تشبيهات واستعارات تتسم بالغرابة، لكن بالجدة وبالقدرة على التقاط أوجه شبه نادرة، فنحن لا نرى الحفيف في ذاته، وإنما نرى الحفيف من خلال مشابهات له أو كنايات عنه أو استعارات له، ولهذا يتجلى الحفيف، كما لو كان كياناً حياً قادماً من عزلة ريفية، وذلك عبر أوجه شبه متعددة، فهو صوت مخدر متحرر من أقاصي النوم، وصوت شاحب ذو رائحة حنطية قادمة من عزلة ريفية، وصوت متقطع موزع بتقاسيم مرتجلة على أوتار نسيم متمهل. 
هذا الصوت هو صوت الشاعر وحده أو هو العلامة الصوفية التي تنقله كالبادةِ من ثقل المادة إلى خفة الإشراق، وتطير به إلى ما بعد الخيال، حيث التجلي الذي يعلو على الظاهر والباطن، وتصبح الروح في ضوء بلا شمس بعد غفوة تشبه الصحو، أو الصحو الذي يشبه الغفوة في حال من النعمى التي ليس لها مثيل في الشعر العربي الذي قرأته قبل ذلك في فن الوصف في تراثنا الشعري إلى عصرنا الحاضر، وأؤكد ذلك بهذه القصيدة الجميلة التي أنقلها كاملة للقارئ، وهي بعنوان «استعارة»:
في هذا النهار الأزرق تُطيل الوقوف
على جبل مرتفع وتطيل النظر إلى
غيوم تَحْتَكَ تغطِّي البحر والسهل فتظنُّ
أنك أعلى من نفسك... شِبْهُ طائرٍ
لم يوجد إلا في استعارة. وتُغْريك
الاستعارة بأن تنفصل عنها وتنظر إلى
سماء مهجورة؛ كصحراء زرقاء؛ خلوٍ من
سراب. ثم تناديك الاستعارة للرجوع
إلى مصدرها فلا تجد طريقا في الغيوم.
وفي هذا الليل الأزرق؛ ترى الجبال
تنظر إلى النجوم؛ وترى النجوم تنظر إلى
الجبال. وتظن أنها تراك؛ فتشكرها على
لطيف المسامرة. ولا تريد الخروج من
الاستعارة لئلا تسقط في بئر الوحدة!
من الذي يتحدث في هذه القصيدة؟ مؤكد أنه الشاعر، ولكنه يتحدث عن نهار ليس كالنهار الذي نعرفه، وعلى جبل مرتفع ليس كالجبال التي تعودنا عليها، ويطيل النظر إلى الغيوم التي تحته؛ لكي يرتفع عن مستوى إدراكنا، فيتحول إلى طائر خفيف كهبة الريح التي تنطلق من الأسفل لتغطي البحر والسهل.
وتؤكد في الشاعر إحساسه بالسمو والتحليق فوق الكون الذي يراه من علٍ، فيظن أنه أعلى من نفسه، وينفصل عنها لكي يراها أشبه بطائر لا يوجد إلا في استعارة، والاستعارة سحرية تغري بالانفصال عنها، كما تغري بالعودة إليها. وما بين حال الانفصال وحال الاتصال، تعبر الاستعارة كالنفس التي تحدث عنها ابن سينا: هبطت إليك من المحل الأرفع. أعني سماء مهجورة كصحراء زرقاء خالية من السراب، وتسعى الاستعارة التي تتحول إلى ما يشبه الطائر الأسطوري محاولة العودة، ولكنها تضل طريقها، فتهيم ما بين النجوم وتتحول إلى حضور أثيري مطلق بالغ الرهافة لا يريد الشاعر مفارقتها أو الخروج منها. 
هذه الاستعارة التي يتحدث عنها محمود درويش غير الاستعارة التي يتحدث عنها البلاغيون القدماء والمحدثون، وإنما هي استعارة سحرية أشبه بالبساط السحري الذي يحمل صاحبه كي يُريه ما لا عين رأت، ويُسمعه ما لا أُذن سمعت. 
وظني أن الاستعارة في هذه القصيدة هي مركبة الخيال الذي هو أداة الشاعر في أن يكون الذي لم يكنه، وفي أن يرتحل إلى حيث لم يرحل أحد قط، فيضع قدميه على أرض لم تطأها أقدام البشر، فيرى ما لم يره البشر. 
وهذا المعنى هو ما نجده في بعض قصائد هذا الديوان؛ خصوصاً حين يحدثنا الشاعر في قصيدة أخرى قائلاً:
أَصعدُ من هذا الوادي، على درجات
نفسي تقريباً. أَصعد إلى ربوة عالية
لأرى البحر. لا أغنية تحملني ولا سوء
تفاهم مع الكينونة. أَتسلى بمراوغة ظلّي،
وبالتفكير المريح في مآل قوس قزح الذي
يلهيني، فجأة، عن ظلّي المشتبك بعوسجة
جرحته ولم ينزف. أَنحني عليه لأسعفه
من وخزات الشوك، فتنغرز شوكةٌ في
يدي وتسيل قطرةُ دمٍ حمراءُ خِلْتُها، في
البداية، انعكاساً لأحد ألوان قوس قزح.
لكن أَلماً خفيفاً في يدي نَبَّهني إلى أَن ما
تفعله الشمسُ بكثافة الماء الطائرِ هو
شيء آخر. ضمَّدتُ جرحي التافه بمنديل
ورقيّ، وواصلتُ الصعود إلى الربوة
العالية لأرى البحر. لكن الغيوم تكاثفت
وغطَّت السهلَ والجهاتِ والبحرَ الذي وقع
أَسيراً في إحدى الحروب. هبط الليل
على كل شيء، وظهرتْ أضواء المستعمرات
من كل ناحية. وحين نزلتُ على درجات 
نفسي تقريباً، من الربوة العالية إلى الوادي، تذكَّرتُ
أني نسيتُ ظلِّي عالقاً بعوسجة.
لا أعرف إن كنت حزنت أَم لا، فإنَّ
خسارةً أدبيَّةً مثلَ هذه لا تصلح للتدوين.
وقلت: غداً أصعد إلى ربوة أعلى
لأرى البحر خلف المستعمرات. لكني سأربط
ظلي برَسَنٍ لئلا أُضيّعه مرة ثانية!
وربما كان أكثر ما يلفت العين في هذا النص المراوغ هو صعود الذَّات الشعرية - في عالمها الخيالي - بمركبة الاستعارة السحريَّة إلى العوالم العليا؛ لكي ترى منها الأرض والبشر والكون؛ فتتأمل في الكينونة البشريَّة، وترى البحر لكي ترى ما لم ير وتسمع ما لم يسمع.
وهذا هو الشّعر في جوهره الخالص كشفٌ عن كلّ ما يظل في حاجة إلى الكشف، وإبحارٌ في عوالم جديدة لا يكفُّ الشاعر عن اقتحامها. وهذه كانت عبقرية محمود درويش وسحره في الوقت نفسه...  (وللحديث بقية) .