فلسفة ميلر... فارس الطاحون
اقتفى الباحثون أثر نحو سبعمائة وعشرين شخصاً ممن يستحقون أن تسعهم الموسوعات كشخصيات لها حيثية وإنجاز في مختلف المجالات ويحملون لقب ميلر، منهم ما يقرب من خمسة وثمانين في مجالات الثقافة والفنون، نصفهم أو يزيد مازالوا أحياء وبالكاد يجد بعضهم من يهتم به، ومن ماتوا لم يتبق منهم غير ذكرى عابرة، ولكن الكاتب أرثر ميلر ولد من جديد بعد وفاته عند آلاف أصبحوا ملايين في السنوات العشر التالية، ليحقق في مئوية ميلاده الأولى ما كان يرجوه وعبر عنه فــي مقــابلة مـــع النــاقد البريطاني جون لار، أن تثير لحظة موتــــه جــــدلاً وتحث البعض عـــلى قــراءة مـــــا تـــرك مــن أوراق، ويكفيه أن يعيدوا لثلاثة أشياء فقط قيمتها الحقيقية في الدنيا، وهي: الإنسان والأخلاق والعمل.
اختلف المؤرخون حول حقيقة مقولة «لا كرامة لنبي في قومه أو في وطنه» ونسبتها لنبي الله عيسى عليه السلام، ولكنها واقع يتكرر، ليس مع الأنبياء فحسب، وإنما مع كل صاحب فكر انحاز للإنسانية والقيم الأخلاقية، والمؤيدون لهذه المقولة يستشهدون دائماً بأهم شخصية في القرن العشرين، أجمعت عليه مختلف الدوائر الثقافية والفكرية والفلسفية، الكاتب الأيرلندي الأمريكي «أرثر ميلر».
لم تكن الحكومة الأمريكــــية ودودة في خلافها مع ميلر منذ خمسيــــنيات القرن الماضي وأصبح الاهتمام بأي من أعماله وتقديمها مسرحياً أو سينمائياً أو نشر مقالاته أو إجراء حوار معه تصاحبه دائماً أزمة، ولم تستمر الهدنة والسكينة التي وجدها بتولي جون كيندي حكم الولايات المتحدة والذي منحه جائزة الإنجاز مدى الحياة من الدرجة الأولى، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه وأسوأ بعد مقتل كيندي.
مرت عشر سنوات على وفاة ميلر، وحلت ذكرى مئويتـــه الأولى ولم تتخل الحكومة الأمريكية عن موقفها ورفضت أن تحتفل به، لكن المسارح والجامعات في مختلف الولايات حرصاً على تاريخها ذهبت تحتفل به على طريقتها بعروض مسرحية وندوات ومطبوعات وغيرها، ودعمتها مؤسسة أرثر ميلر التي أسسها عدد من نجوم المسرح والفنون في الولايات المتحدة عام 2011 بهدف مساعدة العاملين في المجالات الفنية والأدبية، ولكنها في غضون أربع سنوات أصبحت تهتم بشؤون المجتمع ككل، وعمادها عناصر ميلر الفلسفية الثلاثة: الإنسانية، القيم الأخلاقية وقدسية العمل.
تلك العناصر حضر بعضها أو جميعها في كتابات ميلر المختلفة، وكذلك في حــــواراته، ويمكن قراءتها حتى في تقارير جريدة «التلجراف»، التي اهتمت بذكرى مئويته كغيرها من الصحف الإنجليزية كإحدى الدول التي احتفلت به رسمياً, إلى جانب كل من فرنسا وألبانيا والصين وألمانيا وكوسوفو واليونان واليابان وهولندا وإسبانيا وتركيا، ولكن احتفالات بريطانيا كانت مختلفة، فميلر يداعب شعبها ويبعث فيهم الأمل في استعادة ما فُقد، والحفاظ على ما تبقى.
وجاء في أحد هذه التقارير أنه من المثير أن اسمه عبّر عنه تماماً، فأرثر تحريف للفظ «أرتور» اليوناني, ويعني الابن أو الفارس، وميلر التي تنطق بالألمانية «مولر»، والمجرية «مولنر»، والإسبانية والإيطالية «مولنيرو»، وتعني جميعها «عامل الطاحون» ترمز إلى قيمة العمل وقدسيته، ولهذا وبالجمع بين اسمه الأول والثاني يصبح أرثر ميلر «فارس الطاحون».
بيان صحفي
أصبح هذا البيان الذي حرصت نقابة المسرحيين الأمريكية على نشره في عدد من الصحف المحلية والإقليمية، وثيقة صحفية تاريخية، رغم صدوره في الرابع والعشرين من مارس الماضي، حيث قرأت النقابة مبكراً موقف الحكومة والمؤسسات الرسمية وأنها ستتجاهل الاحتفال بمئوية أرثر ميلر الأولى، وذيلوا البيان بعبارة «ما قام به ميلر ليس له وقت محدد، فهو لكل زمان وله أهميته في تاريخ أمتنا تماماً مثل قيمته كفنان ومواطن».
وجاء في البيان «تدعم نقابة المسرحيين الأمريكية والجمعية الوطنية للمسرحيين والملحنين والشعراء الغنائيين بكل فخر حملة تكريم أرثر ميلر في ذكرى مرور مائة عام على ميلاده، التي تحل في (15 أكتوبر عام 2015)، وكان ميلر عضواً مدى الحياة في نقابة المسرحيين وكان أول عضو يحصل على جوائز دائرة الدراما، التوني، البولتيزر للدراما عن عروض «وفاة بائع متجول»، «كلهم أبنائي»، و«نظرة من فوق الجسر»، وله أيضاً عروض خالدة مثل «الثمن» و«البوتقة»، ولا يمر يوم دون أن يقدم أحد أعماله في مسرح واحد على الأقل في مكان ما في العالم.
كرئيس للقلم الدولي يعد أرثر ميلر صوتاً قوياً لحرية التعبير، ليس فقط في مسرحياته ومقالاته، ولكن في خطبه ومظاهره الشخصية، ومثل غيره من أعضاء نقابة المسرحيين موس هارت، تينسي ويليامز، يوجين أونيل الذين احتفلت بهم الولايات المتحدة وأصدرت طوابع بريدية تذكارية لهم، فأرثر ميلر يستحق هذا الشرف، ولهذا تهيب نقابة المسرحيين بالجمعية الاستشارية لإصدار الأختام ومدير مكتب بريد الولايات المتحدة تلبية طلبها، كما تحث النقابة أعضاءها على دعم جهودها، وكذلك المسارح وإدارتها الفنية والفنانين والمصممين وجميع الفنيين العاملين بها في كل الأنحاء على المساهمة في تكريم هذا الكاتب الأمريكي لما قدمه طوال حياته».
العودة للديار
لم تقبل جامعة سانت فرانسيس ببروكلن الرفض، وناضلت بحكم أن ميلر أحد أبنائها، فقد درس وتخرج فيها، حتى نجحوا في تأسيس جمعية تحمل اسمه قبل وفاته بعامين، ودعوه لافتتاحها، فأرسل ابنته باعتذار به كثير من الشجن لعدم قدرته على الحضور، رغم أنه كان يرجو ذلك، لتحل في مئويته الدورة الثانية عشرة للمؤتمر الذي تعقــــده الجمعــــية سنوياً والذي جاء شعاره هذا العـــام «الــــعودة للديـــــار» في إشـــارة إلى عودة ميلر إلى محــــل ميلاده والمكان الذي عاش فيه في الأربعينيات والخمسينيات وبزغت فيه موهبته، وبهذا سبقوا دعوة النقابة بكثير، ولم يعبأوا بتجاهل المؤسسات الرسمية لها.
واعتاد المؤتمـــــر أن يناقـــــش عــــدداً من الأوراق البحثية في كل دورة تتنـــــاول كل ما يخـــص علاقة ميلر بالحياة، حتى بلغ عدد الأوراق في الدورات السابقة أكــــثر من خمسمائة بحث، ومن أبرزها علاقة ميلر بالتصوير الصحفي والدراما وعلوم السياسة والجمال، وكذلك العلوم الاجتماعية والفلسفية، ويواصل المؤتمر مساعيه في دورته الخاصـــة بمئوية ميلر، بالإضافة إلى إعــــادة قــــراءة أفضل ما قدم من قبل.
مئويتان في كليفلاند
ووحدت دار كليفلاند للفنون الجهود، فاستجابت لدعوة النقابة من ناحية، واحتفلت بجمهورها الذي ساندها خلال مائة عام مضت من ناحية أخرى، ووضعت في برنامجها العام الذي أعدته للاحتفال بالمئوية الأولى لتأسيس الدار فقرات خاصة وبارزة تكرِّم فيها أرثر ميلر في عيد ميلاده المئوي.
اختارت الدار دكتور ألفريد ماير، المتخصص في أعمال وشخصية أرثر ميلر ليضع البرنامج الخاص بمئويته بالتنسيق مع المسؤولين عن برنامج كليفلاند العام، والذي يتضمن عرض «قصة عيد الميلاد» في معالجة خاصة عن تاريخ الدار، وفيه يتحدث فنانو هذه المدينة عن جذورها والنداء الذي يخرج من القلب إلى العقل وكيف أسهم في تنمية الوعي الاجتماعي لجماهيره الذين كافأوهم بالاهتمام به وحمايته من أي اعتداء.
تبادل خبرات في متشجن
وضعت عشرات الجامعات في الولايات المتحدة وخارجها مئات البرامج الخاصة للاحتفال بمئوية أرثر ميلر، ولكن جامعة متشجن احتفظت بواسطة العقد لنفسها والمكان الأبرز بينها، رغم اكتفائها بتخصيص جزء له من برنامجها السنوي المعتاد، ولكنه كان كافياً للتعبير عن اهتمامها بابنها وأحد خريجيها، وتمثل هذا الجزء في ثلاث ندوات خلال ثلاثة أيام قوامها 18 ساعة إلى جانب مسرحيتين.
تتضمن الندوة الأولى خطاباً مفتوحاً يلقيه أستاذ الأدب المسرحي بالجامعة إينوك براتر، والثانية حلقة نقاشية عن تاريخ الجامعة الأدبي والمسرحي وميلر كنقطة تحول فيها، أما الندوة الثالثة فتمثل إحدى مرحلتين في برنامج أطلق عليه «تبادل الخبرات في العمل بمسرح ميلر»، ويجتمع فيها الخريجون مع المتمرسين والخبراء في عناصر المسرح لتبادل النقاش حول أهم الدروس المستفادة من مسرح ميلر، ثم ينتقلون لمتابعة مسرحيتين في المرحلة الثانية.
أربعون في ثلاثة
أبت المكتبة الأمريكية وإدارتها أن يستسلموا لإرادة عائلة فورد التي تمتلك أكبر نسبة منها، رغم عطائها وتأسيسها لهذه المكتبة عام 1979 للنشر الذي لا يهدف للربح بل لتحقيق أهداف ثقافية وزيادة وعي أفراد المجتمع، وكذلك تبني كتاب ومفكرين، الشعب الأمريكي في حاجة لكتاباتهم وأفكارهم أمثال مارك توين، فيليب روث، سول بيلو وغيرهم.
ولكن عاب هذه العائلة انحيازها للحكومة في كل قراراتها السياسية التي لها آثارها في كل المجالات المجتمعية، ومنها الثقافة والفنون، والحكومة بدورها أسيرة مجموعات الضغط المختلفة التي وضعت ميلر في القائمة السوداء منذ نصف قرن، ولأول مرة تخرج «المكتبة الأمريكية» عن الإطار المرسوم لها وتقوم بطباعة الأعمال الكاملة لأرثر ميلر ونشرها بمناسبة مئويته الأولى في طبعتين قد تزيد إلى خمسة بعد نفادها كما هو متوقع.
الأولى والأخيرة في دالاس
كتب ميلر نحو خمسين عملاً درامياً وقدّم ما يزيد على 70 في المائة منها في برودواي وخارجها، إلى جانب المسارح البريطانية، ورشح أغلبها لجائزة التوني التي فاز بها سبع مرات، أولاها عن مسرحية «كلهم أبنائي» عام 1947، وآخرها عام 1959، ولكن الأمر لم يتكرر بعد ذلك رغم استمرار ميلر في العطاء لأسباب غير فنية وغير إنسانية أيضاً، واستمر اعتقاد الجوائز السبع سائداً حتى جاء من يفرق بين الجوائز ويكشف الحقيقة.
وفي مئوية ميلر اختار مسرح ووترتاور بدالاس أن يقدم معالجة جديدة عن مسرحية «كلهم أبنائي»، وسبقتها مقدمة تحكي قصة الجائزة الوحيدة التي حصل عليها ميلر ككاتب للمسرحية، والجوائز الست الأخرى فازت بها المسرحيات إنتاجياً ولم ينلها ككاتب، ولهذا فإن الجائزة الأولى التي حصل عليها هي أيضاً الأخيرة، ثم طرحوا تساؤلات حول الحلم الأمريكي إن كان حقيقة أو وهماً وكيفية الاستيقاظ من كابوس يصعب تجاوزه وما يصحب ذلك من آلام شديدة، واستنكروا المبدأ السيئ «كل شيء مقابل المال» وعقبوا عليها بتساؤلات أخرى مكملة «حتى الكرامة؟، والحب؟، والوطن؟»، ثم أخذ أبطال العرض: تيري مارتن، ديانا شيهان وكريستوفر كاسرينو يتحدثون بصوت ميلر ويعبِّرون عن مخاوفهم من تفكيك الأسرة الذي سيؤدي إلى تمزيق المجتمع.
ميلر في كلماته مع نيوفيلد
لم يكتف مبدعو الدراما بما كتبه ميلر من نصوص سينمائية ومسرحية ومعالجات تلفزيونية، فذهبوا يتتبعون كل ما يتعلق به حتى صوره التي التقطت له طوال حياته منذ كان في الرابعة من عمره وحتى قبيل وفاته بأيام، ومن ثم قراءة تعبيرات وجهه وحركات جسده وتحليلها ثم تفسيرها علمياً وفنياً، وتقديم الصور مصحوبة بالقراءات والتحليلات والتفسيرات بمعرض خاص ببرلين في ذكراه، ولكلماته التي تحدث فيها عن أمور مختلفة مقامها أيضاً.
جلس الممثل أنطونيو نيوفيلد في مقعد خاص على خشبة مسرح بلايميكر الأمريكي ليقدم مسرحية مونودراما يعايش فيها شخصية ميلر بكل تفاصيلها ويتحدث بلسانه عن الفن والمسرح والمجتمع، ولم يبتعد عن عناصره الفكرية الثلاث، ومن كلمات ميلر التي ألقاها نيوفيلد على الجمهور «كثيراً ما أعتقد أن إنتاج مسرحية جديدة يمثل فرصة أخرى في الحياة للتطهر من النقائص»، (يناير عام 1955).
وأيضاً «الحقيقة المؤكدة أن الفن له دور حيوي في الحضارة الإنسانية، تماماً كمنابع الأنهار التي تمدها بالمياه، وفي العصور المقبلة سيدرك البشر أخيراً وبقليل من الوعي أن الفن ليس ترفاً، ولكنه ضرورة حياتية»، (أبريل عام 1959).
ومنها كذلك «مشاهدة أي عرض مسرحي لا تشبه الكذب على أريكة الطبيب النفسي أو الجلوس وحيداً أمام شاشة التلفاز، ففي المسرح يمكنك أن تشعر بردة فعل الجالسين بجوارك، إضافة إلى ردة فعلك، ومعه تتعلم شيئاً جديداً عن نفسك، يتمثل في إمكانية مشاطرة الآخرين السراء والضراء، والشعور الذي لا مثيل له بأنك لست وحدك في هذه الدنيا، بل أنت جزء من الجنس البشري، هذا هو المسرح، وذلك سر بقائه»، (نوفمبر عام 1991).
يتوقف الحاضرون لبعض الوقت عند عبارته «يظن البعض أن الفنون دائماً ما تنتقم من الروح البشرية، وهذا قصر نظر، وقلة وعي شديدان، لأنها إنجازات خالدة، فالإغريق بانتصاراتهم والفراعنة بجلالهم والرومان بمجدهم والآشوريون بسلطانهم الرهيب واليهود بصعودهم ثم سقوطهم وبقاء نسلهم على قيد الحياة بلا سبب واضح، جميعهم لم يبق منهم إلا بعض حجارة منحوتة، وشيء من الطلاء على جدران الكهوف، والأهم مسرحيات تنقل قدراً من فكرهم، ومجمل ما تركوه يمثل الفن المطلق دون شيء آخر»، (نوفمبر عام 2002).
جولة في بنترست
اعتبره بنترست شخصية غير عادية في الولايات المتحدة، وبنترست موقع اجتماعي اكتسب شهرة كبيرة منــــذ إنشائه على يد الشركاء بول سكــــيرا وإيفــــان شارب وأحد رائدي الإنترنت بن سيلبرمان، بدأ من مديــنة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، يشبه الفيسبوك في اعتماده على المشاركين فيه، ولكنه خاص بالصور التي ترافقها بعض معلومات عنها.
وخلال السنوات الخمـــس، وهــــي عمــر الموقع، كانت وظيفة القائميـــــن عليه تنظـــــيم عمله ورسم الأطر التي يتبعها المشاركــون أصحاب الصفحات المختلـــــفة، إلا أن القاعدة اختلفت مع ميلر، الاستثناء الوحيــد، وقام بإنــــشاء صفحة خاصة يتـــتبعها الزائــــرون بمناسبة ذكرى مئوية ميلاده الأولى، واعتبروها لبنة يمكن لمن يرغـــب الإضافة إليــها، حيث يـــــقوم مشرف الصفحة بمراجعة الصورة المضافة وحــقوق الملكية الخاصــــة بـــها والمعلومات المصاحبة لها قبل نشرها.
سر البوتقة في عشرات العروض
أبى داولينج أن يكشف سر تمسكه بالبوتقة، إلا أن تسابق عشرات المسارح حول العالم لتقديم هذا النص في معالجات مختلفة ليصبح أكثر أعمال ميلر تقديماً خلال الاحتفال بمئويته الأولى أتاح الفرصة لتحليلات وتفسيرات توضح سر البوتقة التي شبه فيها ميلر محاكمة السحر في مستعمرة ماساتشوستس بين عامي 1962و1963، بما تقوم به الولايات المتحدة تجاه الماركسية ومعتنقيها وما تتخذه من إجراءات ضدهم.
ففي إحياء جديد للبوتقة في برودواي في مسرح سيجنتشر تركز المعالجة على ضمير الفرد الغائب في الحياة العملية وانعكاسه على الحياة الشخصية تحت مسميات الاحترافية التي تقتضي قتل أي مشاعر أثناء القيام بأي عمل، مما يفقد المرء إنسانيته، وذهب استديو المسرح في لندن إلى الهوية الإنسانية للشعوب التي تضاءلت إزاء الخوف من أمور عديدة دون الاقتراب منها ومحاولة فهمها.
وتبنى مسرح شيفيلد الإنجليزي حقيقة أن الدفاع عن النفس حق شرعي لكل إنسان، ومالت معالجة مسرح «نيفرلاند» الكندي إلى الدفاع عن الحريات، وركز مسرح «شيري جريك» اليوناني على رؤية أنه مع الخوف يختل الفكر ويصاب المرء برهاب من كل شيء حوله، وآخر في الأولد أفيك اللندني الإنجليزي يناضلون فيه ضد التطرف الديني، وجسد مسرح «كلية ماكسويل للفنون والعلوم» النمساوي المعركة بين الفكر العلمي والفوضى اللاعقلية.
تدور كل هذه المعالجات وغيرها حول فكرة رئيسة لا تبتعد عن عناصر ميلر الثلاثة، الإنسان وحقوقه، الأخلاق وانعدامها في ظل سيادة الكذب والنفاق باســــم الدين، وضياع الوقت هباء بدلاً من الاستفادة منه في عمل مثمر، وبالتالي تتجلى في «البوتقة» رؤية ميلر الفكرية، لهذا حظي بأكبر اهتمام، ووجدوا فيها أيضاً أعلى درجة من الرمزية وتمنح أقصى اتساع لتناول أفكار ورؤى متباينة يربطها عصب واحد وهو فلسفة ميلر التي أخذت تنتشــــر بعد وفاته بعشر سنوات، ويـــبدو في الأفق أنها تشــــتد وتمتد، كما مثلت «البوتقة» في حد ذاتــها رمزاً لأي قهر وتسلط كشفوا باهتمامهم أنه يتجسَّد في صورة حالية أخرى مع قوة نفوذ المال ومالكيه.
مؤتمر علمي بإكستريمادورا
صنفت مئات الجامعات حول العالم ما كتبه ميلر من إبداعات دراميــــة كأعمــــال فكرية وفلسفية، وبالتالي تخضع باستمــــرار للدراسات والتحليلات المختلفة، واتجهت جامعة غرب أنجيليا بمدينة نوريش البريطانية إلى ما هو أبعد من ذلك، فأسست مركز أرثر ميلر للدراسات الأمريكية بهدف تعـــزيز المشاريع البحثية في المجالات الإنسانية والاجتماعيــــة، وفي ذكرى ميلاده المائة كشفت جامعة إكستريمادورا الإسبانيــــة عن أسبقيتهـــــا وريادتها في الاهتمام بميلر من خلال الرؤية ذاتها، ودعت بقية الجامعات لمؤتمر غير مسبوق.
وأعلنت كلية الفنون والآداب جامعة إكستريمادورا بمدينة كاسيريس بالتعاون مع مركز أرثر ميلر بجامعة غرب أنجيليا وجامعة جورجيا الأمريكية وجامعتي كومبلوتنس بمدريد وبونيفريسداد بإشبيلية الإسبانيتين عن مؤتمر بمنزلة منتدى للتفكير الأكاديمي الموسع في كل جوانب وحياة وأعمال المفكر ميلر، بدأت تتلقى الأوراق البحثية من أي مهتم من مختلف الجامعات، واقتصر القبول على تلقي ملخصات تتراوح كلماتها بين 250 و300 كلمة، بالإضافة إلى سيرة ذاتية للمتقدم في 150 كلمة، وحددت آخر موعد لتقديم الأوراق في 30 سبتمبر ووفرت عدداً من عناوين البريد الإلكتروني لاستقبالها ثم إرسال إشارة قبول الأوراق في 7 أكتوبر، على أن يبدأ المؤتمر فعالياته في النصف الثاني من نوفمبر.
ميلر لكل زمان ومكان
وإلى الشمال الأوربي، التف تسعة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 19 و25 عاماً حول بلورة سحرية، أتت بهم من بقاع مختلفة حول العالم، وكل منهم كان يعيش في عصر مختلف، إلى خشبة المسرح في ثوب عدد من الشخصيات يتضمنها اثنان من أهم ما كتب ميلر «منظر من فوق الجسر» و«عدو الشعب»، والأخيرة معالجة كتبها عن نص لهنريك إبسن.
كتب البلجيكي باتريك السن معالجة مزج فيها بين النصين واختار منهما تسع شخصيات شابة، وجعل كلاً منهم يمثل زماناً ومكاناً مختلفاً، ورغم التزامه بالجمل الحوارية إلى حد بعيد، لكنها جاءت مناسبة ليثبت بهذه التجربة التي قدمها على مسرح تفينتي بالعاصمة بروكسل أن ميلر عابر للزمن في كتاباته، وأن ما يتناوله من أفكار إنسانية واجتماعية وروحية يحتاج إليه كل البشر، بل وكل المخلوقات في كل مكان في الكون.
مئويات بولندية
أعلن البرلمان البولندي أن 2015 عام «المسرح العام» الذي يمر على تأسيسه قرنان ونصف القرن، وشكل لجنة خاصــة لعمــــل برنامج تستمر فقراته طوال العام، تعبيراً عن اهتمامهم به، ولقيمته الكبيرة يجد من يحتفل به في الوقت الذي اعتاد القائمون عليـــه الاحتفـــال سنوياً بكل كاتب ومخرج ومبدع مسرحي وفني بندوات وعروض لا تشبه غيرها تحت سفوح الجبال، فقد شهد هذا العام رعاية البرلمان كشريك في الاحتفال بذكرى عدد من المبدعين.
واستعرض المسرح العام في بيان برنامج المئويات الذي يتضمنه يوبيله الذهبي الخامس، ومنها مئوية الفنان التشكيلي والمصمم والمخرج المسرحي تاددوش كانتور، وذكرى ميلاد الكاتب والفيلسوف ستانسلاف إغناسي فيتكيفيتش المائة والثلاثين، وغيرهما من البولنديين، ووقع اختيارهم على أرثر ميلر للاحتفال بمئويته كاستثناء وحيد من خارج البلاد في معالجة كتبها سيلاف كليستي مدتها ثلاث ساعات، تمثل خلاصة أعمال ميلر وأفكاره وفلسفته، وبدا لمن تابع العروض التحضيرية أن عناصره الثلاثة حاضرة.
لقاء الحبيب في سراييفو
وبالشرق أيضاً، افترق زفونيــــمير راديلكوفيش وسيربرين ديزدار مع اندلاع الحرب بعد زمالة وصداقة وشراكة امتدت منذ كانا في المدرسة الابتدائية ثم الثانوية والجامعة، وحتى جمعهما حب المسرح وضربا المثل في التعاون في إخراج العروض، ولم يفكر أي منهما في أن يستقل عن الآخر خلال عشر سنوات، حتى ضاعت الذكريات ودمرت النيران والانتهاكات الإنسانية بالحاضر وأصبح المستقبل ضبابياً، فهربا رغماً عنهما وجعلهما الطوفان لا يرى كل منها إلا نفسه، ولم يعد لهما أثر في البوسنة والهرسك.
ودون أن تقصد ذهبت الكاتبة ليلا أليمونوفيش تبحث عن الطيور البوسنية المهاجرة ممن يمكنهم أن يشاركوا في مهرجان سراييفو السنوي في دورته الحادية والثلاثين، ويناسب أياً من فقراته الرئيسية، حيث يكرِّمون هذا العام الروائي الألماني فرانز كافكا، ويحتفلون بمرور 450 عاماً على بداية النشاط الثقافي والفني في البوسنة والهرسك، والمئوية الأولى لكل من أرثر ميلر، وبيلي هوليداي وفرانك سيناترا.
توصلت ليلا بالبحث إلى اثنين ارتبطا بشدة بميلر منذ هجرتهما، أحدهما إلى كندا والثاني إلى أستراليا، وكلاهما أسس ورشة مسرحية أطلق عليها اسمه، ولم تكن تعرف أنهما الصديقان راديلكوفيش وديزدار حتى التقت بهما معاً، واختارا لها عنواناً لليلة الاحتفال بميلر في المسرح الوطني، فكان «لقاء الحبيب في سراييفو» حيث جمعتهما المدينة بعد فراق وضمت لهما حبيباً آخر هو ميلر.
صوت ميلر بالإذاعة الألمانية
استغلت الإذاعة الألمانية الوطنية ما لديها من أرشيف تعتني به حول ما تهتم به من قضايا لتتذكر ميلر في مئويته على طريقتها، واستعادت أكثر من خمسين عاماً مضت، وتحديداً في شتاء عام 1953، عندما قامت الإذاعة بعمل حلقة خاصة على هامش مؤتمر نزع الــــسلاح بمشاركة أرثر ميلر الذي تحدث عن خطورة الأسلحة وتطورها الرهيب على الإنسان، وأن العمل في أي مهنة تتعلق به غير شريفة أو أخلاقية.
تحدث ميلر عن عناصر فلسفته الثلاثة، ولم ينتبه الكثيرون إلى ذلك رغم أهميته التي زادت وتعاظمت، وبينت أن هذه الرؤية إن وجدت من يعتني بها لأصبح العالم أفضل كثيراً، وهذا ما أكده المشاركون في واحدة من حلقات «مناهضة السلاح» التي تقدِّمها الإذاعة الألمانية حالياً، وجاءت ذكرى ميلر لتعيد بث ما قاله بالحلقة الأرشيفية في مقاطع يتحدث الضيوف عن كل منها، إذ لم تبتعد عن الحقوق الإنسانية والحد الأدنى من الأخلاق ومعايير العمل الحقيقي الذي يستحق التقديس.
مهرجان في الريف الفرنسي
يبدو شأن الحكومة الفرنسية والمؤسسات الرسمية التابعة لها غريباً إلى حد كبير في احتفالها بالإنجليزي شكسبير وتجاهلها لألبير كامو أحد أبنائها، كما تحتفل بمئوية ميلر أيضاً، إلا أن منطقة لافيتي الريفية ذات الطبيعة المسرحية الخاصة اختارت أن تستقل باحتفاليتها التي تستمر ما يقرب من عام وليس شهراً واحداً، وتمثل حياته الثرية أساساً لها، كما تتضمن كذلك أربع مسرحيات من أهم ما كتب.
ويبدأ «مهرجان أرثر ميلر» بالريف الفرنسي بندوة فكرية وفنية بعنوان «أمريكا في الحرب العالمية الأولى» ليستمر المنتدى الريفي لميلر بسبعة وعشرين ندوة أخرى، وتمثل هذه الندوات مراحل حياته وعلامات فيها يناقشها مجموعة من أهل الثقافة والفن في هذه المنطقة وبعض الزائرين، إلى جانب مشاركة الجمهور، التي تنتهي بندوة عن وفاته عام 2005، بالإضافة إلى مسرحيات: «كلهم أبنائي»، «وفاة بائع متجول»، «البوتقة»، «منظر من فوق الجسر»، التي ستعرض في يناير وفبراير ومايو وديسمبر من هذا العام.
محامي العمال
ارتبط دكتور لانج شين، المدير التنفيذي للمسرح الشعبي ببكين، ارتباطاً وثيقاً بميلر في الأعوام الثلاثين الأخيرة دون أن يلتقي به، ولمس فيه ملمحاً آخر من كتاباته وحواراته وحتى سلوكه في المحيط الذي يسكن فيه، واعتبر أن تقديره للعمل وقدسيته جعله بمنزلة ناشط ومدافع عن العمال وحقوقهم، أياً كان ما يمارسونه، مادام عملاً قانونياً وشريفا، ومنذ وفاة ميلر قبل عشر سنـــــوات شغلتـــه فكــــرة إبراز هذا الجانب ليتخذه الآخرون قدوة، ويسيرون في دربه.
ومع اقتراب ذكرى مئوية ميلر تبلورت الفكرة لدى شين، ولأول مرة يحمل القلم ليكتب نصاً مسرحياً أطلق على بطله أرثر ميلر، وجعله محامياً تخصص في الدفاع عن العمال وحقوقهم المهدرة العامة والخاصة، وجمع فيه كل ما لديه من مواقف استخلصها من أعمال ميلر المسرحية ومقالاته، وكذلك الحياتية، وجميعها تجعل منه بطلاً لهذه الشريحة الأكبر في العالم والأكثر معاناة في تاريخ البشرية والتي لا تتسع لها المؤرخات.
وفي الختام
اختار ميلر الجدلية المستمرة والمتجددة من تلقاء نفسها كجزء مهم وأساسي في نهجه ليبقى بفكره في الذاكرة ويواصل تحقيق أهدافه بعد رحيله، وفي ما تضمنته بعض أجزاء من مذكرات عازفة البيانو الفرنسية فانيا فينلون شيء من هذا الفكر الذي تجلت فيه عناصر رؤية ميلر الثلاثة التي كانت حاضرة وبشدة في كل مظاهر الاحتفاء بذكرى هذا الرجل.
قامت جريدة الجارديان البريطانية بنشر مقتطفات منتقاة من مذكرات فينلون لتواصل عهدها مع ميلر الذي لم يحنثوا به منذ وفاته، وفي هذه الأجزاء التي ذكرت فيها ميلر، تحدثت عن واحدة مــــن أقــــل أعماله شهرة، وهي مسرحية تلفزيونية تم بثها مباشرة عام 1980 بعنوان «اللعب للوقت» وشارك في بطولتها «فينيسيا ريدجريف» و«جان ألكسندر»، ثم قدمت بعد أشهر عدة في فيلم بالأبطال أنفسهم.
وأتت هذه الخطوة من قبل الجارديان مع إعادة تقديم هذا العرض مسرحياً في مسرح شيفيلد ليرصد أحداثاً واقعية مر عليها ما يقرب من سبعين عاماً عن فرقة أوركسترا موسيقية نسائية تكونت في أحد المعتقلات عام 1943، وعلى الرغم من أنه التقى بعض أعضاء تلك الفرقة النسائية وتحدثن معه عن الهولوكوست وما لاقوه من تعذيب وتنكيل بهن، فإنه لم يناقش الأمر ولم يُدخل نفسه في جدال بيزنطي لا جدوى منه، بل رصد التعصب العنصري والتطرف في السلوك من الأطراف المختلفة، بصرف النظر عن دياناتهم، ووجد في سلوك بعض الفتيات اليهوديات ما هو معادٍ للسامية أكثر من غيرهن، لتبدأ الجدلية التي لا مفر منها.
وتشهد فينلون في كلماتها وعباراتها على صدق ما رصده ميلر إلى حد كبير، فالكراهية أياً كان مبررها نتاجها سلبي، كما أظهر احتراماً شديداً للكفاح والمقاومة، ولم يخص اليهود فقط بذلك، ولكن رؤيته كانت في المطلق لكل من عانى من الحرب العالمية الثانية كنموذج لأي حرب لا جدوى منها، ومنهم اليابانيون، الألمان، الفرنسيون، البولنديون وغيرهم، وكعادته ركز على فكرة أن العمل الذي يؤديه المرء في العلن بكل عزة وفخر أياً كانت ماهيته، يجب أن يقدر ويقدس.
وما أثار جدلاً مضاعفاً عند اليهود هو عدم تناوله للمحرقة وبدا الأمر في معالجته متعمداً وكأنه حدث غير مهم عنده، أو لا يؤمن به، كما لم يُرض الفيلم بعضاً من العازفات أبطال القصة الحقيقية اللاتي كن على قيد الحياة وقتها، وأكثر ما أحزنهن أنهن لم يجدن الألم الذي شعرن به مجسداً، وربما يكون الأمر صحيحاً، فميلر لم يكتب حتى يجدد الآلام، ولكنه يبحث عن حقائق تصنع الأمل، دون رؤية مزيفة وغير واقعية.
أظهرت مذكرات فانيا التي كتبتها باللغة الفرنسية وترجمت إلى سبع لغات حتى الآن العناصر الثلاثة التي تبناها ميلر ليعيش فكره، حتى وإن لم يتذكره أحد حينها، فالأهم عنده أن يسهم بعد عشر سنوات أو مائة أو ألف عام في إنقاذ العالم من مستقبل مظلم لمحه في الأفق، فتولدت لديه تخوفات عبّر عنها في سنواته الأخيرة بقلب يرتجف وعقل مهموم بالأجيال اللاحقة، فبالنسبة له لن يعيش أكثر مما عاش، فالبشر جميعهم راحلون وقلة قليلة يبقى فكرها وفلسفتها ■