هذا الكون المجهول متى نكشف أسراره؟

هذا الكون المجهول متى نكشف أسراره؟

تؤثر كل من المادة والإشعاع في توازن وديناميكية وتطور الكون. وقد سيطر الإشعاع وساد الكون خلال سنوات عمره الأولى، إذ إن المادة، بسبب الحرارة العالية جداً، لم تكن قد تكونت بعد، ويعتقد العلماء بأن المادة ظهرت في الكون للمرة الأولى بعد مرور 370 ألف عام من الانفجار العظيم.

كانت درجة الحرارة بعد مضي هذه الفترة مناسبة لكي يجذب البروتون إلكتروناً ليدور حوله مكوناً ذرة الهيدروجين، وهي أول مادة ظهرت في الكون. تكونت بداية النجوم من غاز الهيدروجين بعد مضي حوالي 400 مليون عام، وهي فترة قصيرة في عمر الكون. 
أما الآن، وبعد مرور حوالي 13.75 مليار عام، هي عمر الكون، فإن المادة تسيطر على الكون مع دور ثانوي للإشعاع. لقد بذل العلماء جهوداً علمية جادة منذ عهد العالم الإنجليزي جون دالتون (1766 – 1844) لفهم التركيب الحقيقي للمادة، نعلم الآن بأن جميع مادة الكون التي نعرف تتكون من مجموعة من الجسيمات الأولية الحقيقية التي لا ترتيب داخلياً لها. ويعتبر الإلكترون الذي تعتمد على حركته وخصائصه التكنولوجيا الحالية أشهر هذه الجسيمات. أما الإشعاع فهنالك الإشعاع الكهرومغناطيسي الموجي الذي يمكن وصفه من خلال طاقته أو تردده مثل ضوء الشمس، وهنالك أيضاً الإشعاع الجسيمي الذي يمكن وصفه من خلال طاقته أو كتلته مثل كل من جسيمات ألفا وجسيمات بيتا. 
يسلك الإشعاع سلوكاً مزدوجاً، إذ يظهر أحياناً على صورة موجة، ويظهر في أحيان أخرى على صورة جسيم، وقد أطلق على جسيم أشعة الضوء (أو بصورة أعم الأشعة الكهرومغناطيسية) اسم فوتون.  وقد اضطر العلماء خلال السنوات القليلة الماضية إلى افتراض مادة غريبة غير المادة التي نعرفها لفهم وتفسير سلوك النجوم والكون، وافترضوا أيضاً نوعاً غريباً من الطاقة يختلف عن الطاقة التي نستخدمها ونتعامل معها.

قوة الجاذبية وحركة الكواكب
تعد قوة الجاذبية التي وضع أسس نظريتها العالم الإنجليزي المعروف إسحق نيوتن (1642 - 1727) أقدم وأشهر وأضعف قوى الطبيعة الأربع. وقد واجهت هذه النظرية بعض المشكلات في القرن التاسع عشر، وعجزت عن تفسير حركة كوكب عطارد (الأقرب من الشمس) وحركة كوكب أورانوس البعيد عنها. وتمكن العالم الألماني الشهير ألبرت آينشتين (1879 - 1955) من تفسير حركة كوكب عطارد بنظرية النسبية العامة. إن نظرية جاذبية آينشتين (النظرية النسبية العامة)، كما يدل اسمها، عامة تطبق في جميع الحالات، أما نظرية جاذبية نيوتن فهي خاصة وتطبق فقط في حالة الجاذبية الضعيفة. وكوكب عطارد قريب جداً من الشمس، مما يجعل قوة جاذبيتها المؤثرة فيه كبيرة نسبياً، ولم تتمكن نظرية جاذبية نيوتن بالتالي من تفسير حركته. أما مشكلة حركة كوكب أورانوس، فقد حلها العالم الفرنسي فيري، الذي افترض وجود كوكب آخر غير معروف يؤثر في حركة أورانوس ويجعلها تشذ عن قانون الجاذبية.
وقد تمكن من حساب كتلة الكوكب المجهول، وكذلك بعده عن الشمس، وأرسل هذه المعلومات إلى فلكي ألماني يعمل في مرصد برلين. وتمكّن هذا الفلكي خلال ليلة واحدة من رصد الكوكب الجديد الذي سمي نبتون، وهو أبعد الكواكب عن الشمس. أما بلوتو البعيد، فقد قرر اتحاد الفلك العالمي عام 2006 إخراجه من مجموعة الكواكب الشمسية، وذلك لأن مداره تقاطع مع مدار كوكب نبتون خلال القرن الماضي، وأصبح بلوتو يعرف باسم الكوكب القزم. وكان الكوكب نبتون هو الكوكب الوحيد الذي تم اكتشافه على أساس حسابات نظرية الجاذبية. ويمكن في الوقت الحاضر استخدام نظرية الجاذبية لفهم وتفسير حركة جميع كواكب المجموعة الشمسية بدقة كبيرة.

قوة الجاذبية وحركة النجوم
إن الحركة التفصيلية الدقيقة للنجوم معقدة، ولكننا لا نلاحظ هذه الحركة، وتبدو لنا النجوم ساكنة بسبب بُعدها الشاسع عنا، كما أن حركة الشمس من الشرق إلى الغرب ليست حقيقية، وإنما انعكاس لدوران الأرض حول محورها. ومع ذلك فإن النجوم تدور أيضاً حول مركز المجرة مثل دوران الكواكب حول الشمس. يحوي مركز المجرة نجوماً عملاقة قديمة جداً، تشكل كتلة هذه النجوم معظم كتلة المجرة.
توجد شمسنا في إحدى أذرع مجرة درب التبانة الحلزونية التي تحتوي نواتها الكروية على حوالي 99 في المائة من كتلة المجرة. تدور الشمس (وتدور معها جميع الكواكب) مثل بقية النجوم الموجودة في الأذرع (حوالي 300 مليار نجم) حول مركز المجرة.
إن سرعة دوران هذه النجوم المحسوبة من قانون الجاذبية أصغر كثيراً من سرعتها الحقيقية. كما أن سرعة النجوم لا تتناقص مع زيادة بعدها عن مركز المجرة، كما تفترض نظرية الجاذبية وتحققه حركة الكواكب حول الشمس، فسرعة دوران عطارد القريب من الشمس أكبر كثيراً من سرعة دوران المريخ البعيد عنها. إن سرعة دوران النجوم حول مركز المجرة شبه ثابتة، ولا تعتمد كثيراً على بعدها عن مركز المجرة.
لقد حيرت هذه الحقائق العلماء فترة طويلة، إذ إن القانون العام للجاذبية هو قانون كوني، ويجب أن تحققه حركة كل من الكواكب والنجوم. وللخروج من هذا المأزق، افترض العلماء وجود شيء ما في المجرة لا نتمكن من مشاهدته أو رصده، يسبب هذا الشذوذ في حركة النجوم ويجعلها لا تحقق قانون الجاذبية العام سمي بـ «المادة الداكنة».

المادة الداكنة
لتفسير حركة النجوم، افترض العلماء وجود مادة غير عادية وغير مشعة لا يمكن رصدها منتشرة في مجرة درب التبانة أطلقوا عليها اسم المادة الداكنة أو المظلمة، يصاحب هذه المادة الغريبة قوة جاذبية كبيرة تسبب زيادة سرعة النجوم، ومع ذلك فإنها لا تتفاعل مع المادة العادية إلا نادراً، مما يجعل من الصعب الكشف عنها.
إن تركيب وطبيعة هذه المادة غير معروفين، والغريب أن الكون غني بها، إذ إنها تشكل خمسة أضعاف المادة العادية. ويعتقد العلماء بأن هذه المادة تتكون من جسيمات افتراضية ضخمة ضعيفة التفاعل.
لقد نتجت هذه الأجسام الافتراضية عند نشأة الكون خلال الانفجار العظيم بسبب درجة الحرارة العالية جداً. وتغمر هذه الجسيمات الآن الكون وتؤثر جاذبيتها الكبيرة في حركة النجوم، ولكن يصعب الكشف عنها بسبب ضعف تفاعلها مع المادة العادية. ويحاول العلماء الكشف عن هذه الأجسام الافتراضية من خلال تجارب معقدة وبطرق مختلفة من أهمها:
< تحليل الإشعاع الكوني، فقد نشر فريق من الباحثين في مختبر فيرمي الوطني خلال عام 2014 نتائج رصدهم وتحليلهم لإشعاعات قوية جداً من أشعة جاما صادرة من مركز مجرة درب التبانة. 
وتم رصد وتسجيل هذه الإشعاعات بواسطة تلسكوب فيرمي الفضائي لأشعة جاما الذي وضع في مداره حول الأرض عام 2008. وعملت المجموعة على هذه الدراسة مدة خمس سنوات، ولم تتمكن من تفسير صدور هذه الإشعاعات من خلال تفاعلات المادة والإشعاع المعروفة. ويعتقد بأن هذه الإشعاعات قد صدرت بسبب تصادمات عنيفة جداً بين جسيمات المادة الداكنة، وفي حالة تأكيد هذه النتائج من تجارب أخرى أو رصد الإشعاعات من مراكز مجرات أخرى، فإنها ستكون المرة الأولى التي يتم فيها رصد واكتشاف المادة الداكنة بصورة تجريبية.
< الكشف عن المادة الداكنة أيضاً من خلال تفاعلها الضعيف جداً مع المادة. وتم بناء كواشف عدة في أماكن مختلفة من العالم لهذا الغرض. فقد تم بناء كاشف حساس جداً لجسيمات المادة المظلمة في أعماق منجم للذهب بولاية داكوتا الجنوبية. كما تم بناء الكاشف على عمق كبير تحت سطح الأرض لعزله عن الأشعة الكونية. وتم اختبار الكاشف حديثاً، ويتوقع العلماء أن يتم الكشف عن هذه الجسيمات إذا كانت حقيقية وموجودة.
ويأمل العلماء في الكشف عن المادة الداكنة من خلال تجارب تصادم الجسيمات في الطاقة العالية جداً في مصادم الهادرون العملاقة بالقرب من مدينة جنيف السويسرية. وبدأت هذه التجارب حديثاً، ويمكن من خلال تصادم الهادرونات (مثل البروتونات) التي تسير بسرعة قريبة جداً من سرعة الضوء إنتاج حرارة عالية جداً قد تؤدي إلى إنتاج جسيمات الكتلة الداكنة، كما حدث في الانفجار العظيم قبل حوالي 13.75 مليار عام.

تسارع توسّع الكون
يعتقد العلماء بأن كل ما نعرف من مادة وإشعاع وطاقة وفضاء وزمان كان محصوراً ومضغوطاً في حيز صغير جداً بكثافة عالية، ويطلق البعض على هذا التركيب الغريب اسم البيضة الكونية، وتقول نظرية الانفجار العظيم التي تبحث نشأة وتطور الكون إن انفجاراً هائلاً حدث في هذه البيضة الكونية قبل حوالي 13.75 مليار عام، حيث بدأت نشأة الكون.
إن حجم الكون ومنذ ذلك التاريخ يزداد مع مرور الزمن، أي إنه يتوسع، وساد اعتقاد في الماضي بأن قوة جاذبية مادة الكون (نجوم ومجرات وسدم) ستعمل على إبطاء هذا التوسع أو حتى إيقافه، مما يؤدي الى توازن الكون، أو حتى انكماشه على نفسه ليعود بيضة كونية كما بدأ قبل حوالي 13.75 مليار عام.  وتشبه هذه الحالة للكون حالة جسم قذف بسرعة معينة نحو الأعلى، إذ إن سرعته ستتناقص بصورة تدريجية بسبب قوة جذب الأرض له حتى تنعدم، ومن ثم يعود إلى الأرض. أما إذا كانت سرعة انطلاقه كبيرة وتمكنه من التحرر من مجال الجاذبية الأرضية، فإنه لن يعود إلى الأرض وسيستمر في حركته بسرعة ثابتة. 
إن هذا الجسم لا يمكن أن يتحرك بتسارع (أي تزداد سرعته)، وذلك لانعدام القوى المؤثرة عليه. وقد بيّن تحليل إشعاع نتج عن انفجار كوني هائل يعرف بانفجار السوبرنوفا التقطه تلسكوب هابل الفضائي في نهاية القرن الماضي أن الكون يتوسع الآن بمعدل أكبر مما كان يتوسع في الماضي. ويدل هذا على أن معدل توسع الكون أو تسارعه يزداد بدلاً من أن يتناقص مع مرور الزمن. إن تسارع توسع الكون بحاجة إلى قوة، فمن أين جاءت, وما هي هذه القوة التي أدت إلى ذلك؟

الطاقة الداكنة (المظلمة)
أطلق العلماء على القوة الخفية التي تسبب تسارع تمدد الكون اسم الطاقة الداكنة (المظلمة)، ويعتقد بأن هذه الطاقة خاصية من خواص الفراغ يصاحبها نوع من الضغط السلبي ينتج عنه قوة تعاكس قوة الجاذبية، وتعمل على تسارع توسع الكون.
وقد ظهرت إشارة وجود هذا النوع من الطاقة الخفية في أبحاث فيزيائية أخرى. فقد بينت ميكانيكا الكم أن الفراغ ليس عدماً كما هو معروف، وإنما يحوي نوعاً معيناً من الطاقة الخفية التي نجهلها. 
ويحاول العلماء في الوقت الحاضر استخدام حاسوب الكم الذي يمتاز بقدرات هائلة. تقوم مؤسسة مصفوفة الكيلومتر المربع ببناء تلسكوب راديو مساحة صحنه الجامع للإشعاع تساوي مليون متر مربع في كل من جنوب إفريقيا وأستراليا. وتزيد حساسية التلسكوب بأكثر من 50 مرة على التلسكوبات العادية، كما أن سرعة مسحه للسماء تزيد بـ 10 آلاف مرة على سرعة مسح التلسكوبات العادية. 
سيمكن هذا التلسكوب العلماء من رسم خريطة ثلاثية الأبعاد لغاز الهيدروجين في الكون عند بدايته، وكذلك تسجيل إشعاع أولى النجوم التي تكونت وتأثير إشعاعها في الهيدروجين. ويأمل العلماء أن تساعد هذه المعلومات في فهم أسباب تسارع توسع الكون.
الكون المجهول
أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) سفينة فضاء عام 2001 لجمع وتحليل إشعاع الخلفية الكونية. وقد أظهرت دراسة نشرت عام 2010 بناء على المعلومات التي جمعها تلسكوب السفينة الحقائق العلمية الآتية:
-تشكل المادة العادية التي نعرف وتكون النجوم والمجرات والسدم وغيرها حوالي 4.6 في المائة فقط من مادة الكون.
-تشكل المادة المظلمة التي لا نعرف عنها شيئاً واللازمة لتفسير حركة النجوم حول مراكز المجرات حوالي 24 في المائة من مادة الكون.
-تشكل الطاقة المظلمة اللازمة لتفسير تسارع توسع الكون حوالي 71.4 في المائة من مادة الكون.
يلاحظ من هــــذه الأرقام أن ما نعرف في هذا الكون الواسع الرحب لا يشكل سوى أقل من 5 في المائة من مادته. أما معظم ما في الكــون 95 في المائة فلا نعرف عنه شيئاً، وهو ضمن الأمور الافتراضية، ولا يمكننا مشاهدته أو حتى رصده أو الكشف عنه في الوقت الحاضر. {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (سورة الإسراء - من الآية 85) ■