قراءة في ثقافة عنصرية تربية الأساطير!

  قراءة في ثقافة عنصرية  تربية الأساطير!

الكتب المدرسية الإسرائيلية، على غير ما ألف الناس، وألفت كتب التربية والتعليم، في كل أنحاء العالم، تشبه ساحة حرب تدور فيها المعارك وتصدر البيانات العسكرية، بدءاً من كتب الأطفال، وصولاً إلى الكتب الجامعية.

لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحرب تكاد تكون حرباً شاملة؛ فهي حرب على التاريخ ووقائع الحياة الراهنة، وهي حرب على المنطق والعقل، بل وعلى الطبائع الإنسانية، أو هي باختصار حرب الأساطير على كل منجزات العلوم البشرية.
هذه الكتب تتجاوز مجرد كونها «أداة لنقل المعرفة» إلى أداة هدفها تشكيل ذاكرة جماعية وضعت أسسها الحركة الصهيونية وغرستها في أذهان أبناء المستعمرين، وفي كل ما تصل إليه من أذهان الشعوب الأخرى. 
وامتد نهج هذا التشكيل إلى اللغة العبرية ذاتها، فأعطيت ألفاظها مضموناً أيديولوجياً لم تعد معه قادرة على التعبير الحر، كما قال الروائي العراقي اليهودي سمير نقاش، الذي ظل يرفض الكتابة بها، ويتمسك بلغته العربية حتى وفاته في عام 2004 بلندن.
يشرح الإسرائيلي لابين، أحد مؤلفي كتب الأطفال، ضرورة هذا النوع من المناهج، فيكتب: «ماذا يمكن أن أقرأ لو كنتُ طفلا أعيش في مثل هذا الواقع؟ في زمن الصراع مع العرب، فيما يمكن أن نطلق عليه حقول الدم؟ من واجبنا الابتعاد عن كتابة القصص الجميلة التي تتحدث عن الفراشات والأزهار وزيت الزيتون، فهذا سيوقعنا في كارثة نحن في غنى عنها. 
فماذا سيكون موقف الطفل الذي تفاجئه الحرب وهو يقرأ قصة الطائر المغرد؟ ماذا سيفعل؟ لا شك في أنه سيفقد ثقته بنفسه ويصاب بالحيرة.. هذا تضليل لا يمكن السماح به».  
وهذا هو ما يحدث بالفعل منذ البداية، أي تنشئة أبناء المستعمرين الصهاينة الذين اخترعوا لهم هويتين، حسب الباحث شلومو ساند، هوية «الإسرائيلي» وهوية «أرض إسرائيل»، على سرد قصص أبطال غير مرئيين، مثل «داني دين»، يقومون بالأعمال الخارقة ويهزمون العرب الأغبياء دائماً بسهولة.
وإذا كانت هذه هي الكتب التي يبدأ بها تكوين عقلية الناشئة في المستعمرات المنتشرة على الأرض الفلسطينية، فلنا أن نتخيل ماذا ستكون عليه كتب المراحل المتقدمة، كتب التاريخ والجغرافيا والعلوم... إلخ.  المرتكز الأساس في هذه الكتب الدراسية هو تشويه صورة العرب بشكل عام، وصورة الفلسطيني العربي بشكل خاص.
فهذه الكتب، حسب التلخيص الذي يقدمه المؤرخ الفلسطيني د. جوني منصور من حيفا، تخلو من ذكر لأي جانب ثقافي أو اجتماعي إيجابي عن حياة الفلسطينيين أو عالمهم، فلا ذكر للأدب أو الشعر أو التاريخ أو الزراعة أو الفن أو العمارة، ولا حديث عن التقاليد والأعراف والعادات الراسخة منذ فجر التاريخ، بل وتخلو حتى من أي صورة فوتوغرافية للإنسان الفلسطيني، بل تمثله في صور عنصرية تحط من قدره، وتسمه بسمة الإرهابي واللاجئ والمزارع البدائي أو المتخلف الذي يرفض مواكبة العصر. الطريف أن هذه الكتب، التي تنكر وجود الفلسطيني الملموس، تربي أبناء المستعمرات على خيالات جامحة تسمى تاريخاً، مستمدة من قصص الخوارق التي تعج بها التوراة، وعلى جغرافية وهمية تسمى أرض إسرائيل، وحضارة لا وجود لأي أثر مادي ملموس يدل على أنها قامت في يوم من الأيام، وتزرع فكرة أن العرب شياطين ترتكب الأعمال الإرهابية ضد إسرائيل، وتقتل الإسرائيليين وتنتقم منهم، وحكامهم قتلة.
وتستكمل كتب التدريس الإسرائيلية هذه الصورة الطاغية، التي يصفها حتى الإسرائيلي إيلي بوديه بأنها منحرفة ومضللة، بترسيخ صور نمطية، أو قوالب ذهنية، يظهر فيها الإسرائيلي، سارق الأرض وناهب البيوت وقاتل الفلسطينيين، دائماً بصورة الغربي المتحضر صانع السلام، مقابل العربي الخائن والعدواني والمتخلف والمجرم والقذر... والميال دائماً إلى التدمير. ويسترعي الانتباه أن الكتب الدراسية من الصف الأول حتى الرابع لا تكاد تأتي على ذكر الفلسطينيين في نص أو صورة أو خريطة.
في الصفوف التالية يأتي ذكرهم، ولكن ليس تحت مسمى «فلسطينيين»، بل تحت مسمى «غير اليهود»، وكل هذا إنكار متعمد لوجودهم التاريخي وحضورهم الفعلي على أرضهم. 
وفي كتب التاريخ والجغرافيا طمس كامل لتاريخ ونشأة الفلسطينيين، ومحو لوجودهم من المشهد الطبيعي. ويقدم الصهاينة تعريفاً لعبارة كاذبة أشاعوها في ثنايا الثقافة الغربية تبريراً لغزو واستعمار فلسطين تحت ظلال حراب الاحتلال البريطاني (1917 - 1948)، وهي عبارة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». 
يقول تعريفهم بعد أن انكشف سخف وكذب هذه العبارة «الأرض لم تكن خالية بالمعنى الحرفي للكلمة، المقصود أنها كانت خالية من أبنائها الأوصياء عليها (اليهود) تاريخياً بفعل وعد رباني، وكان يقطنها دخلاء ليست لهم أي أهمية».
ويتزامن مع هذا التفسير الشائع في كتب مدارسهم، طمس أي أثر يدل على استمرار حياة الفلسطينيين على أرض فلسطين، مادياً وروحياً، والهدف أن يتلاشى من الذاكرة وجود الشعب الفلسطيني في الماضي والحاضر على حد سواء.
وبالطبع لا تعترف الجهات القائمة على جهاز التعليم في إسرائيل بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، لأن هذا يعني الاعتراف بالرواية الفلسطينية عن النكبة، والسماح لها بالوجود في الخطاب والواقع الإسرائيليين. وتعبر الخرائط المدرسية والكتب عن الشعور بما تسميه حق اليهود المطلق في «أرض إسرائيل» الكاملة، ورفض أي حق للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه.
وتحظر هذه المناهج تدريس النكبة، ليس لأبناء المستعمرين الصهاينة فقط، بل لأطفال الفلسطينيين أيضاً، أي إنها تتنكر للرواية الفلسطينية، كي لا يقف الفلسطيني على سبب الأسى والحزن، ويسعى إلى استرداد أرضه المسروقة. وتشعر مؤسسات الصهاينة التعليمية بأن تدريس النكبة سوف يدمر «إسرائيل» كدولة يهودية ويمنح الفلسطينيين تحت الاحتلال سبباً للثورة عليها.  ولا يقتصر تصنيع الصور المنحرفة والمضللة على الكتب الدراسية الإسرائيلية باللغة العبرية المخصصة لأبناء المستعمرين، لتعبئة أذهانهم بشتى أنواع الحقد على العربي وكراهيته، بل يمتد التحريف إلى الكتب المدرسية باللغة العربية، فهي لا تـــجاز إلا بموافقة سلطاتهم التعليمية، سواء كانت كتباً لمدارس حكومية أو خاصة.
الهدف، كما تقول «الجمعية الثقافية العربية في إسرائيل»، هو «تفكيك ومحو الطابع الفلسطيني» في ذهن الأطفال الفلسطينيين، و«تشويه صورة العالم في أذهانهم، وصورتهم أمام أنفسهم» من جانب، و«غرس القصص الصهيونية» في الكتب الدراسية باللغة العربية من جانب آخر.
وجاء في تقرير لهذه الجمعية في 9 مايو 2011، حسب ما نشرت صحيفة «ها آرتس»، أنها درست الكتب الدراسية من العام الثالث إلى التاسع التي تستخدم في المدارس العربية بفلسطين المحتلة، فوجدت ما إجماليه 16255 خطأ في كل الموضوعات الدراسية، وأن اللغة والقواعد وبناء الجمل مهملة في هذه الكتب، مع ارتكاب أكبر عدد من الأخطاء، يصل إلى 7532 خطأ، في كتب الرياضيات، و4000 خطأ في كتب التاريخ والجغرافيا. وكانت دراسة سابقة في عام 2009 قد اكتشفت أكثر من 4000 خطأ في الكتب الدراسية، وخاصة كتب السنة الثانية في المرحلة الثانوية، ولم يجر عليها أي تصحيح.
وكان د. إسحق الفرحان، الفلسطيني من عين كارم قد أشار في 18/2/ 2004 خلال لقاء تلفازي إلى محاولات الصهاينة مدّ سطوتهم لتشمل حتى الكتب الدراسية العربية وغير العربية في بلدان أخرى، واستطاعوا أن يفرضوا، عبر سلطات الاحتلال الأمريكي، تغيير المناهج في أفغانستان والعراق، وبدأوا يطالبون سورية والأردن بتغيير مناهجهما، وإشاعة ما يسمى «ثقافة السلام»، والحجة هي محو ما يثير «الكراهية» و«عدم التسامح» و«التحريض»، و«إزالة كل المواد السلبية في النصوص الدينية»، كما ورد في تصريح لإيلينا رومانسكي، مسؤولة برنامج مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية، (التي قررت حكومة الرئيس الأمريكي الأسبق بوش تخصيص مبلغ 145 مليون دولار لتمويلها)، خلال زيارة لها إلى دول الخليج العربية في 24/9/ 2003. 
وقالت رومانسكي بعبارة صريحة: «أي منهج دراسي لا يسير في هذا الاتجاه يجب تغييره». فإذا أعطيت هذه الكلمات مدلولاتها الواقعية المقصودة، فإننا سرعان ما نكتشف أن إشاعة مثل هذه الثقافة المسماة «ثقافة السلام» تعني أولاً وقبل كل شيء «أن نسكت عن حقوقنا المغتصبة في فلسطين»، كما يستنتج د. الفرحان. واللافت للنظر، ما ذكره د. الفرحان، وكان قد شغل منصب وزير التربية في الأردن ذات يوم، من أن منظمة دولية من وزن منظمة «اليونسكو» طلبت قبل 30 سنة من تاريخ حديثه المتلفز، نتيجة ضغوط أمريكية وإسرائيلية، من وزارة التربية والتعليم في الأردن، تغيير مناهج التربية والتعليم في وزارته، أي تحويلها إلى ما يشبه «مناهج تربية وتعليم» بقلم إسرائيلي.
وقال: درسنا آنذاك صورة العربي والمسلم في المناهج الإسرائيلية، وقلنا لليونسكو «ادرسوا المناهج الإسرائيلية، وانظروا صورة العربي والمسلم فيها، ثم طالبونا بالتغيير.. فلم يجيبوا».
بالطبع، لم تسلم المناهج التربوية والتعليمية في فلسطين المحتلة بعد عام 1967من التغيير، فهناك حذف لكل ما يتعلق بانتماء المواطن إلى وطنه من المناهج التي كانت معتمدة قبل تمدد استعمار فلسطين إلى مدن مثل القدس ونابلس وبقية مدن فلسطين الشرقية، ولم تغير صورة العربي في الكتب المدرسية الإسرائيلية، لا معاهدات الاستسلام التي يخادع بعض العرب أنفسهم بها ويسمونها «معاهدات السلام»، ولا بعض وسائط الإعلام العربية التي تبنت الرؤية الصهيونية إلى قضيتها «المركزية»، وظلت صورة العربي كما يرسمها الفكر الاستعماري الصهيوني في مناهجهم المدرسية؛ صورة البدوي، المتخلف، القذر، الإرهابي، والبلدان العربية المحيطة بفلسطين دول أجنبية لا صلة لها بفلسطين، سواء كانت صلة قومية أو عقائدية أو تاريخية، وسكان فلسطين العرب محتلون دخلاء مخربون جاءوا منذ عهد صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس، وهم طوائف لا يشكلون شعباً، مغتصبون لأرض فلسطين .