أطفال متمكنون

أطفال متمكنون

في محاولة لتشخيص مشكلة تدهور  التعليم في العالم وإيجاد حل لها، يقود الكاتب والمجدد التربوي الأمريكي مارك برنسكي حركة تربوية جديدة أطلق عليها «يحسنون عالمهم»  Better Their World،  وهي عبارة عن نموذج تعليمي بديل مختلف يحتفي بالمنجزين ويستثمر في هدف التربية الحقيقي، وهو الإنجاز في العالم الواقعي.

 

قال برنسكي في عدد من المحاضرات التي ألقاها بمؤتمرات حول التعليم، وفي عشرات المقالات والكتب - مثل «العالم بحاجة إلى مناهج جديدة»، و«التعليم ليحسنوا عالمهم»، و«إطلاق طاقة أطفال القرن الحادي والعشرين» الصادر عن جامعة كولمبيا- 2016 إن ما يقدم للصغار من تعليم مدرسي لا يناسب المستقبل؛ وإن السبب الحقيقي لفشل التعليم يكمن في أهدافه الخاطئة، وليس في قصور التطوير أو قِدم التكنولوجيا، أو ضعف المهارات كما يعتقد كثيرون؛ فهو لا يرى التعليم هدفاً نهائياً للعملية التعليمية، بل تكوين إنسان صالح متمكن، قادر على إنجاز الأعمال وتحسين عالمه وتطويره عبر وسائل قائمة على مشروعات حقيقية على أرض الواقع.

تحسين العالمي
ذكرنا برنسكي بالجمل الحالمة والمتحمسة التي عادة ما نسمعها من الأطفال وهم يعبرون عن رغبتهم الفطرية في تحسين العالم؛ كأن يقول طفل «أريد أن أجعل من بلدي أحسن بلد في العالم»، أو «سنغير العالم إلى الأفضل»، مما يجعل الكبار يراهنون على هؤلاء الصغار، وينتظرونهم أعواماً طويلة؛ وفي النهاية، يحقق البعض قليلاً من أحلامه العريضة، ولا يفعل البعض الآخر شيئاً.
في إطار هذا النموذج الجديد، لن ينتظر الكبار طويلا، بل سيرون الأطفال وهم ينجزون ويحققون بعض أحلامهم وهم يكبرون. ولن يعتمد التعليم في قادم الأيام على مواد دراسية ودرجات يجمعها الطالب حتى ينتقل من مرحلة أخرى، ولكن سيكون الاعتماد على مشروعات حقيقية تستهدف تطوير المجتمع المحيط وتنمية الطالب نتيجة للعمل على المشروعات.
سيركز الطلاب والمعلمون جل جهودهم على سلسلة من المشروعات الواقعية طوال العام الدراسي، سواء في الفصول أو خارجها، بصورة فردية أو ضمن فريق. وسيعمل الجميع في ضوء معيار واحد وهو «إثبات قدرة المشروع على تطوير جانب من جوانب المجتمع».
وهكذا يضع كل مشروع أهدافه الخاصة لتطوير الجانب المختار، كتحسين البنية التحية أو الحفاظ على جزء من التراث، أو المساعدة في تنظيم خدمة أو فعالية، أو بناء علاقات جديدة مع الأشخاص المحيطين، أو إضافة تكنولوجيا. 
ويمكن لهذه المشروعات أن تمتد لأسابيع كتحويل أرض مهجورة إلى حديقة، أو تطول لشهور أو لسنة كاملة. ومن الممكن أن يتعاون الطلاب بقيادة معلم، أو طالب مع جهة حكومية أو منظمات غير حكومية لإنجاز المشروع. 
وعبر موقع إلكتروني ستكون مراقبة تقدم المشروعات، مع التأكد من قدرة الجميع على المتابعة عن طريق أجهزة الكمبيوتر أو الهواتف المحمولة. وتقيم المشروعات المنتهية من جانب خبراء يقررون ما إذا كان المشروع قد أحدث فرقا بالفعل وساهم في تحسين جانب معين في المجتمع. ويتم التصويت عبر الموقع، وتقدم توصيات بالتطوير للمشروعات التي لم تحقق الهدف، وذلك تحت شعار «يمكنك أن تجعل بلادنا أفضل.. أدهشنا بقدرتك على عمل ذلك».
وحتى تتحقق أحلام الصغار، يحرص النموذج التعليمي الجديد على وضعهم في قلب مشكلات العالم الحقيقي، مع توفير مناخ داعم وملائم يسوده الاحترام والثقة والإيمان بقدراتهم. وهكذا يتربى الصغار على تطوير العالم، ويصبحون أفراداً متمكنين وقادرين على التغيير مدى الحياة؛ مما يعد نقلة من الإنجاز الشخصي إلى الإنجاز في العالم الواقعي؛ والتحول من الفردية والحرص على تجميع الدرجات والتقدم في الترتيب وتحقيق النجاح الشخصي إلى العمل المشترك على أرض الواقع. 
ومما يذكر أن هذا النوع من التعليم يقوم على تقليد الإنجاز القديم الذي يتضح في تعليم الأب لابنه أو تعليم الأم لابنتها كيفية إنجاز المهمات - في الحقل وفي البيت وفي مواقع أخرى - وتطور فيما بعد ليتحول إلى شكله المؤسسي المتعمق والمتمثل في المدارس والجامعات والمجتمعات الأكاديمية، التي راحت تركز على التفكير والتفكير النقدي حتى انفصلت عن مهمة الإنجاز الأصلية. وباتت المدارس والجامعات في عزلة عن الواقع، بينما تفرض الألفية الثالثة تحفيز الصغار على العمل في العالم الحقيقي لمصلحة جمهور حقيقي، حتى يتم إعدادهم للعالم الذي يعيشون فيه.

مناهج جديدة 
لا يتطلب هذا التعليم الجديد، كما يتصور برنسكي، تعلم المواد الدراسية التقليدية، كالرياضيات والعلوم والتاريخ بالدرجة نفسها، بل يتعلم كل طالب منها بقدر حاجته إلى تنفيذ مشروعه، ويتعلم الجميع، في الوقت نفسه، جوانب أربعة:
1 - التفكير الفعّال، الذي لا يقتصر على التفكير النقدي والتحليلي فحسب، بل يمتد للتفكير الإبداعي وتفكير النظم والتفكير في حل المشكلات، فردياً وجماعياً. كما يُعنى بطرح الأسئلة والبحث والنقاش وتكوين عادات عقل إيجابية، والتأمل في معرفة الذات وتحديد مناطق الشغف ونقاط القوة وتعزيزها، والسيطرة على التوتر والضغوط النفسية. 
2 - التصرف الفعّال، الذي تندرج تحته العادات السلوكية الفعالة مثل التحرك السريع والإقدام على المخاطرة المحسوبة، والقدرة على التجريب واتخاذ القرار، والمرونة الاستراتيجية، وتخطيط المشروعات، والصبر والإصرار على تحقيق الأهداف؛ والقدرة على التعامل مع التكنولوجيا الجيدة.
3 - العلاقات الفعّالة التي تعني التواصل الجيد والتعاون في محيط الأصدقاء والأسرة والعمل وفي المجتمعين المحلي والدولي والمجتمع الافتراضي، بما فيها من التزام وأخلاقيات تعاطف وتسامح وسلام. 
4 - الإنجاز الفعال الذي يهدف إلى تحسين العالم، ويجد أنه لابد من إعادة التفكير في معنى التربية؛ والاستغناء عن مدى واسع من التكنولوجيا التربوية المتخصصة في الإدارة والتدريس والامتحانات والتقويم والمناهج، والاكتفاء بحسن استخدام الأدوات العامة المتاحة، مثل الهواتف المحمولة ومحركات البحث.

أطفال مختلفون
يرى برنسكي أن أطفال اليوم قادرون على الإنجاز، فهم يتميزون بقدرة على التعامل مع عقول إضافية متفوقة، تقع في أيديهم وجيوبهم، إلى جانب ثلاثية القلب - الوجدان، والعقل - التفكير - واليد – العمل، ويتمتعون بفرص إعلامية ومساحات تواصل اجتماعي غير مسبوقة.
والدليل على ذلك عشرات النماذج الناجحة حول العالم لمشروعات قام بها الصغار:
- أسس طفل كندي في الصف الأول الابتدائي مؤسسة لحفر آبار مياه نظيفة لمصلحة مجموعات في إفريقيا.
- صمم أطفال في التاسعة من العمر حديقة مائية مشاركين المعماريين المحليين، بعد أن أكدوا أنهم يعرفون احتياجاتهم أفضل من الكبار؛ وتم قبول تصاميمهم.
-  كتب طفل في الحادية عشرة تقارير بيئية خاصة بمدرسته بدلا من الاستشاريين. 
- طبعت طفلة في الثانية عشرة من العمر أطرافاً اصطناعية ثلاثية الأبعاد لمصلحة أطفال بحاجة إليها. 
- جمع طفل بقايا الأقلام الملونة التي توفر للأطفال في المطاعم في أثناء انتظار تجهيز الوجبات وأرسلها للمحتاجين. 
- شارك أطفال في الحادية عشرة من العمر في دراسة لاختبار الماء وسبل تحسين نوعيته، وبعد أن قابلوا رفض الحكومة للنتائج نشروها على الإنترنت.
- قام بعض الصغار ببناء جهاز كمبيوتر سوبر.
- رمم عدد من الأطفال سفناً قديمة.
- أعد أطفال برنامجاً لتقييم عمل الشرطة المحلية.
وإذا لم تغير هذه الإنجازات العالم، فهي قادرة على بناء تقدير الذات والثقة بالنفس، في ضوء مقولة الفيلسوف الاسكتلندي توماس كارليل، التي يرى فيها أن «لا شيء يبني تقدير الذات والثقة بالنفس مثل الإنجاز» ■