أنا السيد العربي... سطوة المكان واختلاجات الوجدان

أنا السيد العربي... سطوة المكان واختلاجات الوجدان

انسحبت‭ ‬السطوة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لمدينة‭ ‬بورسعيد‭ ‬كانت‭ ‬تجذب‭ ‬إليها‭ ‬البسطاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬المحروسة،‭ ‬ليبتاعوا‭ ‬منها‭ ‬البضائع‭ ‬المستوردة‭ ‬من‭ ‬ملابس‭ ‬وأحذية‭ ‬وأدوات‭ ‬تجميل‭ ‬وعطور‭ ‬وجوارب‭ ‬وشوكولاتة‭ ‬ولبان‭... ‬إلخ‭.‬

اختفى‭ ‬المشهد‭ ‬المرعب‭ ‬القديم‭ ‬لمحطة‭ ‬قطار‭ ‬الرسوة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشهد‭ ‬أرصفتها‭ ‬دبيب‭ ‬آلاف‭ ‬الأجساد‭ ‬المحشورة‭ ‬في‭ ‬القطارات‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬نواحي‭ ‬مصر،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المحطة؛‭ ‬حتى‭ ‬تذوب‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬الجانبية،‭ ‬على‭ ‬يمين‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ (‬الشارع‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬عالمين‭ ‬متناقضين‭: ‬حـــي‭ ‬العرب‭ ‬والحي‭ ‬الإفرنجي‭) ‬ويساره‭.. ‬تتبخر‭ ‬ولا‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬التماسك‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬حلول‭ ‬الليل،‭ ‬وهي‭ ‬محملة‭ ‬بما‭ ‬ابتاعته‭ ‬من‭ ‬بضائع‭ ‬أجنبية‭ ‬رخيصة،‭ ‬كانت‭ ‬تدخل‭ ‬البهجة‭ ‬على‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬بسطاء‭ ‬المصريين‭. ‬

تلك‭ ‬البضائع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدفع‭ ‬بعض‭ ‬المواطنين‭ ‬وصغار‭ ‬التجار‭ ‬إلى‭ ‬مراوغة‭ ‬مأموري‭ ‬الجمرك‭ ‬ورجال‭ ‬الأمن‭ ‬والالتفاف‭ ‬عليهم‭ ‬بكل‭ ‬الطرق،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خفض‭ ‬قيمة‭ ‬الجمارك‭ ‬أو‭ ‬التهرب‭ ‬من‭ ‬دفعها‭. ‬وكانت‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأوقات‭ ‬تنظم‭ ‬رحلات‭ ‬لبورسعيد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬الغرض،‭ ‬وتحظى‭ ‬بتسهيلات‭ ‬جمركية‭ ‬أكبر‭.‬

راحت‭ ‬سطوة‭ ‬بورسعيد‭ ‬على‭ ‬أرواح‭ ‬فقراء‭ ‬المصريين‭ ‬وأبناء‭ ‬الطبقة‭ ‬المتوسطة،‭ ‬وآب‭ ‬إليها‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬وجهيها‭ ‬الطوبوغرافي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬الحقيقيين،‭ ‬اللذين‭ ‬ظلا‭ ‬منتهكين‭ ‬لما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭. ‬الوجهان‭ ‬اللذان‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬فيهما‭ ‬خارطة‭ ‬العالم‭ ‬بأسره،‭ ‬وأن‭ ‬تتلمس‭ ‬روائحه‭ ‬وهي‭ ‬تتسرب‭ ‬من‭ ‬جنباتها،‭ ‬وفي‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬لا‭ ‬تفقد‭ ‬نكهتها‭ ‬المصرية؛‭ ‬فبورسعيد‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬مدينة‭ ‬للمصريين‭ ‬الذين‭ ‬أتوا‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ربوع‭ ‬مصر‭ ‬أثناء‭ ‬حفر‭ ‬القناة‭ ‬واستقروا‭ ‬بها‭ ‬ونادوا‭ ‬على‭ ‬ذويهم؛‭ ‬فانصهروا‭ ‬فيها‭ ‬وصاروا‭ ‬من‭ ‬مُلاكها،‭ ‬وشقوا‭ ‬وجودهم‭ ‬فيها‭ ‬بأناة‭ ‬تخلقت‭ ‬حولها‭ ‬فنون‭ ‬وعادات‭ ‬وتقاليد،‭ ‬اختلطت‭ ‬وتداخلت‭ ‬وتجادلت‭ ‬وتشابكت‭ ‬وتضافرت‭ ‬حتى‭ ‬خلقت‭ ‬جسداً‭ ‬جديداً‭ ‬شد‭ ‬عوده‭ ‬يود‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭.. ‬ثبت‭ ‬أقدامه‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬بقوة،‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬الممبوطية‭ ‬وهم‭ ‬يلقون‭ ‬بالحبال‭ ‬إلى‭ ‬السفن‭ ‬الكبيرة‭ ‬كي‭ ‬تؤوب‭ ‬ظافرة‭ ‬بخيرات‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬البحار،‭ ‬وهي‭ ‬الحركات‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬بوضوح‭ ‬أثناء‭ ‬انضمام‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬احتفالية‭ ‬الضمة،‭ ‬إذ‭ ‬يرقصون‭ ‬بأقدام‭ ‬ثابتة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنثني‭ ‬جذوعهم‭ ‬أو‭ ‬أطرافهم‭ ‬العلوية‭. ‬

 

الشخصية‭ ‬البورسعيدية‭ ‬وهرم‭ ‬التقسيمات‭ ‬الاجتماعية

أبرز‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الشخصية‭ ‬البورسعيدية‭ ‬هو‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭.. ‬الكل‭ ‬هنا‭ ‬حراس‭ ‬عليه‭.. ‬محبون‭ ‬له‭.. ‬عارفون‭ ‬بتاريخه،‭ ‬مدينون‭ ‬له‭.. ‬واعون‭ ‬للزمن‭ ‬وتقلباته‭.. ‬في‭ ‬جيوبهم‭ ‬صور‭ ‬قديمة‭ ‬للمدينة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬حيين‭ ‬فقط،‭ ‬هما‭ ‬الحي‭ ‬الوطني‭ ‬الذي‭ ‬سكنه‭ ‬أولاد‭ ‬البلد،‭ ‬والحي‭ ‬الإفرنجي‭ ‬الذي‭ ‬أقام‭ ‬فيه‭ ‬الأجانب‭.. ‬حيان‭ ‬متقابلان‭ ‬يفصل‭ ‬بينهما‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬علي‭.. ‬الحي‭ ‬الوطني‭ ‬كانت‭ ‬ترمز‭ ‬إليه‭ ‬قرية‭ ‬العرب‭ ‬قديماً،‭ ‬وحي‭ ‬العرب‭ ‬حالياً‭ (‬الوطني‭/ ‬العربي‭).‬

ويشير‭ ‬الباحث‭ ‬سمير‭ ‬معوض‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬بورسعيد‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬الذكريات‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬نشأة‭ ‬‮«‬قرية‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التجانس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الجماعات‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭ ‬زرافات‭ ‬ووحداناً،‭ ‬والجماعات‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬ونجوع‭ ‬الدلتا‭ ‬قد‭ ‬تبلور،‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬القادمين‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬الجغرافي‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬تشكله‭ ‬قد‭ ‬حملت‭ ‬معها‭ ‬مواريثها‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬وعادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬وقيم‭ ‬ومعايير‭ ‬حكمية‭ ‬على‭ ‬الأمور،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬توقع‭ ‬أن‭ ‬تنصهر‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬الفكرية‭ ‬والمعنوية‭ ‬المتباينة‭ ‬نوعاً‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬بوتقة‭ ‬واحدة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عشية‭ ‬وضحاها،‭ ‬دون‭ ‬وجود‭ ‬محفزات‭ ‬تفاعل‭ ‬وتقارب‭ ‬وتمازج،‭ ‬مع‭ ‬الأخذ‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬أن‭ ‬عنصر‭ ‬اليقين‭ ‬من‭ ‬المستقبل‭ ‬وعوامل‭ ‬الاستقرار‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬قد‭ ‬تهيأت‭ ‬لها‭ ‬ركائزها‭ ‬ومحاور‭ ‬توازناتها‭ ‬المستقرة‭... ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬تشبه‭ ‬معسكر‭ ‬عمل‭ ‬يضج‭ ‬بالصخب‭ ‬والتساؤل‭ ‬وغير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬التي‭ ‬تتضارب‭ ‬فيها‭ ‬التوقعات‭ ‬والتخمينات‭ ‬ويكتنفها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الغموض‭. ‬وقليل‭ ‬من‭ ‬الوضوح‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬من‭ ‬قلق‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬غير‭ ‬المتجانس،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تتكون‭ ‬عنده‭ ‬آنذاك‭ ‬مشاعر‭ ‬المواطنة‭ ‬والقربى‭ ‬الاجتماعية‭.‬

كذلك‭ ‬يشير‭ ‬معوض‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الجاليات‭ ‬الأجنبية‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬خططت‭ ‬بحكم‭ ‬عوامل‭ ‬كثيرة‭ ‬للاستئثار‭ ‬بالثروة‭ ‬والسلطة‭ ‬والمكانة‭ ‬والاحترام‭ ‬في‭ ‬حزمة‭ ‬واحدة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الآباء‭ ‬المؤسسين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بوسعهم‭ ‬أيضاً‭ ‬بحكم‭ ‬عوامل‭ ‬كثيرة‭ ‬نيل‭ ‬الثروة‭ ‬والسلطة‭ ‬والمكانة،‭ ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬مطلقاً‭ ‬للتخلي‭ ‬عن‭ ‬صيانة‭ ‬حقوقهم‭  ‬في‭ ‬الاحترام‭ ‬للذات‭. ‬الفقر‭ ‬كان‭ ‬مدقعاً‭ ‬ينوء‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬بحمل‭ ‬باهظ،‭ ‬لكن‭ ‬عبقرية‭ ‬الأنفة‭ ‬والترفع‭ ‬كانت‭ ‬تمنعهم‭ ‬من‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬ثرائهم‭ ‬المعنوي،‭ ‬وبقي‭ ‬ذلك‭ ‬خاصية‭ ‬تستعصي‭ ‬على‭ ‬الاختراق‭.‬

‭ ‬هرم‭ ‬التقسيمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭ ‬ذ‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬معوض‭ - ‬‮«‬كانت‭ ‬قاعدته‭ ‬العريضة‭ ‬تتوسد‭ ‬أقصى‭ ‬القطاع‭ ‬الغربي‭ ‬للمدينة،‭ ‬وقمته‭ ‬تنتهي‭ ‬عند‭ ‬مجرى‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭. ‬القاعدة‭ ‬كانت‭ ‬تنقسم‭ ‬إلى‭ ‬أرباب‭ ‬مهن‭ ‬حرة،‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬مربي‭ ‬المواشي‭ ‬وتجار‭ ‬الغلال‭ ‬والعلافة‭ ‬وصائدي‭ ‬الأسماك‭ ‬وحوذيي‭ ‬الحناطير‭ ‬الذين‭ ‬قطنوا‭ ‬المناخ‭ ‬الأقصى‭ (‬الفوقاني‭) ‬والمناخ‭ ‬الأدنى‭ (‬التحتاني‭)‬،‭ ‬والاثنان‭ ‬كانا‭ ‬يتكونان‭ ‬من‭ ‬الصعايدة،‭ ‬من‭ ‬عمال‭ ‬الشحن‭ ‬والتفريغ،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يقيمون‭ ‬في‭ ‬الحزام‭ ‬المسمى‭ ‬أول‭ ‬العرب،‭ ‬ومعهم‭ ‬صغار‭ ‬التجار‭ ‬والحرفيين‭. ‬وإلى‭ ‬جنوب‭ ‬حي‭ ‬العرب‭ ‬أقيمت‭ ‬عدة‭ ‬مناطق‭ ‬عشوائية‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬العزب‭ (‬جمع‭ ‬عزبة،‭ ‬وهي‭ ‬مجتمع‭ ‬أقل‭ ‬كثافة‭ ‬سكانية‭ ‬من‭ ‬القرية‭). ‬وإلى‭ ‬الشرق‭ ‬من‭ ‬حي‭ ‬العرب‭ ‬كان‭ ‬حي‭ ‬الإفرنج‭.. ‬حي‭ ‬الجاليات‭ ‬الأجنبية‭ ‬عند‭ ‬قمة‭ ‬المثلث،‭ ‬وهو‭ ‬حي‭ ‬النخبة‭ ‬أو‭ ‬الصفوة‭ ‬الذي‭ ‬حاز‭ ‬كل‭ ‬مقدرات‭ ‬المدينة‭ ‬واستولى‭ ‬على‭ ‬الملكية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والإدارة‭ ‬والحماية‭ ‬والامتيازات‭ ‬الكثيرة‮»‬‭.‬

شبّ‭ ‬البورسعيدي‭ ‬على‭ ‬التمسك‭ ‬بأهداب‭ ‬الوطن‭ ‬وتأكيد‭ ‬عروبته،‭ ‬مقابل‭ ‬الأجانب‭ ‬الذين‭ ‬سكنوا‭ ‬الحي‭ ‬المقابل،‭ ‬المطل‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬قناة‭ ‬السويس،‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬أعمالهم‭ ‬واستثماراتهم‭ ‬بها،‭ ‬وسكنوا‭ ‬على‭ ‬حافتها‭.‬

ربما‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬‮«‬الإنسان‭ ‬البورسعيدي‮»‬‭ ‬حريصاً‭ ‬على‭ ‬ابتداء‭ ‬اسمه‭ ‬وأسماء‭ ‬أبنائه‭ ‬بلقب‭ ‬‮«‬السيد‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬إنهائه‭ ‬بلقب‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬لينقل‭ ‬إشارة‭ ‬مزدوجة‭ ‬للأجنبي‭ ‬أنه‭ ‬العربي‭... ‬سيد‭ ‬المكان،‭ ‬صاحبه‭ ‬وباني‭ ‬أركانه‭ ‬ومانحه‭ ‬صبغته‭.. ‬ليصبح‭ ‬هو‭ ‬‮«‬السيد‭ ‬العربي‮»‬‭... ‬الاسم‭ ‬الأشهر‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭.‬

لقد‭ ‬توقفت‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭ ‬الآن‭ ‬واندثرت‭ ‬أسماء‭ ‬السيد‭ ‬والعربي‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬ضمن‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬تلاشت‭.‬

بالقدر‭ ‬ذاته‭ ‬كان‭ ‬فن‭ ‬الضمة‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬الفن‭ ‬الوطني‭ ‬المقابل‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الباللو‮»‬‭ (‬الحفل‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقيمه‭ ‬الأجانب،‭ ‬لذا‭ ‬سوف‭ ‬تلمح‭ ‬في‭ ‬الضمة‭ - ‬كما‭ ‬سنرى‭ ‬لاحقاً‭ - ‬آثاراً‭ ‬لفنون‭ ‬عديدة‭ ‬محلية‭ ‬وعربية،‭ ‬إنها‭ ‬أشبه‭ ‬بمحاكاة‭ ‬لكل‭ ‬الفنون‭ ‬التي‭ ‬أنتجها‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬والمحلي‭ ‬الذي‭ ‬حلت‭ ‬طيوفه‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬واتحدت‭ ‬به‭.‬

كان‭ ‬الأجانب‭ ‬يجتمعون‭ ‬ليلة‭ ‬السبت‭ ‬لكي‭ ‬يقيموا‭ ‬‮«‬باللو‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬الباللو‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬تذويب‭ ‬الثقافات‭ ‬الوافدة‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬واحدة،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬نجاح‭ ‬الوطنيين‭ ‬من‭ ‬مصريين‭ ‬وأحباش‭ ‬وبدو‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬حفل‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬الضمة،‭ ‬إذ‭ ‬تحلقوا‭ ‬حول‭ ‬آلة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬السمسمية‭ (‬آلة‭ ‬موسيقية‭ ‬سهلة‭ ‬التصنيع‭)‬،‭ ‬واستعانوا‭  ‬بأصواتهم‭ ‬البشرية‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬‮«‬اليكتروا‮»‬‭ ‬والطرق‭ ‬على‭ ‬الآلة‭ ‬النحاسية‭ ‬الفخمة‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭ ‬الأجانب‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬ومع‭ ‬صخب‭ ‬المدينة‭ ‬الجديدة‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬صمت‭ ‬الصحراء‭ ‬وهدوء‭ ‬القرى‭ ‬فإن‭ ‬الجماعة‭ ‬السكانية‭ ‬الجديدة‭ ‬تفاعلت‭ ‬مع‭ ‬أدواتها‭ ‬القديمة،‭ ‬وأعادت‭ ‬خلقها‭ ‬خلقاً‭ ‬جديداً‭ ‬فحولت‭ ‬الطبق‭ ‬الفخاري‭ ‬أو‭ ‬ثمرة‭ ‬جوز‭ ‬الهند‭ (‬الذكر‭) ‬أي‭ ‬الثمرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬جداً،‭ ‬إلى‭ ‬طبق‭ ‬معدني‭ ‬ذي‭ ‬رنين‭ ‬حاد‭ ‬من‭ ‬الصاج‭ ‬أو‭ ‬النحاس‭ ‬أو‭ ‬الألمونيوم‮»‬‭. ‬

 

الضمة

ما‭ ‬زال‭ ‬بالإمكان‭ ‬أن‭ ‬تجمع‭ ‬أهالي‭ ‬بورسعيد‭ ‬في‭ ‬ضمة،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬يسمعون‭ ‬عن‭ ‬قيامها‭ ‬حتى‭ ‬يهرعوا‭ ‬إليها،‭ ‬مجذوبين‭ ‬بقوة‭ ‬إلى‭ ‬رنين‭ ‬أوتار‭ ‬السمسمية‭.. ‬سيدة‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬وتاجها‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭.. ‬يؤثرون‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬يطلقوا‭ ‬لفظ‭ ‬‮«‬صحبة‮»‬‭ ‬على‭ ‬جلستهم،‭ ‬فلم‭ ‬يعودوا‭ ‬يقولون‭ ‬ضمة‭ ‬فلان‭ ‬أو‭ ‬فلان،‭ ‬وإنما‭ ‬هناك‭ ‬الآن‭ ‬صحبة‭ ‬فلان‭ ‬وفلان،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الصحبات‭ ‬برزت‭ ‬صحبة‭ ‬ولاد‭ ‬البحر،‭ ‬بنجومها‭: ‬عم‭ ‬محمد‭ ‬الشناوي‭ ‬وعم‭ ‬نصر‭ ‬مجاهد‭ ‬والأديب‭ ‬مرسي‭ ‬سلطان،‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬علاقته‭ ‬تقريباً‭ ‬بعالم‭ ‬الأدب‭ ‬وانخرط‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬الغناء‭ ‬الشعبي،‭ (‬قال‭ ‬عنه‭ ‬الأديب‭ ‬والناقد‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ ‬حين‭ ‬قرأ‭ ‬بعض‭ ‬بداياته‭ ‬القصصية‭: ‬مرسي‭ ‬سلطان‭.. ‬أديب‭ ‬صاعد‭ ‬بقوة‭).‬

يدعمهم‭ ‬الناس،‭ ‬أو‭ ‬بلغة‭ ‬أهل‭ ‬البلد‭ ‬ينادون‭ ‬عليهم‭ ‬فينادي‭ ‬‮«‬الصحبجية‮»‬‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً،‭ ‬وفي‭ ‬الموعد‭ ‬المحدد‭ ‬يقيمون‭ ‬ضمتهم‭ ‬ويحيون‭ ‬الليلة‭.‬

قديماً‭ ‬كانوا‭ ‬ينادون‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬بنداء‭ ‬يحفظه‭ ‬كل‭ ‬أعضاء‭ ‬الصحبة،‭ ‬حيث‭ ‬يمر‭ ‬الصحبجي‭ ‬على‭ ‬الأحياء‭ ‬التي‭ ‬يقطن‭ ‬بها‭ ‬بقية‭ ‬الأعضاء‭ ‬ويقف‭ ‬تحت‭ ‬البيت‭ ‬منادياً‭:‬

قسماً‭ ‬بربي‭ ‬إني‭ ‬أريدك

هي‭ ‬المحبة‭ ‬لعبة‭ ‬في‭ ‬إيدك

وإن‭ ‬جيت‭ ‬لعندي‭ ‬

إيش‭ ‬راح‭ ‬يصيبك

تلعب‭ ‬وتكسب‭.. ‬تاخد‭ ‬نصيبك‭.‬

مثل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تغيرت‭ ‬آلية‭ ‬النداء‭.. ‬هناك‭ ‬الآن‭ ‬التلفونات‭ ‬المنزلية‭ ‬والمحمولة،‭ ‬تغيرت‭ ‬الوسيلة‭... ‬نعم،‭ ‬لكن‭ ‬ظل‭ ‬الفن‭ ‬نفسه‭ ‬باقياً‭ ‬قابضاً‭ ‬على‭ ‬جمرته،‭ ‬صحبجية‭ ‬أخذوا‭ ‬العهد‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬بأن‭ ‬يظلوا‭ ‬حافظين‭ ‬له‭ ‬ومحافظين‭ ‬عليه،‭ ‬مادام‭ ‬هناك‭ ‬شهيق‭ ‬يدخل‭ ‬صدورهم‭ ‬وزفير‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭.‬

وكانت‭ ‬طقوس‭ ‬الإعداد‭ ‬للضـــمًّة‭ ‬حسبما‭ ‬يقول‭ ‬الباحث‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬شبانة‭ ‬أستاذ‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬بأكاديــــمية‭ ‬الفـــــنون‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬أجراها‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفن،‭ ‬وحملت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬أغاني‭ ‬الضمة‭ ‬في‭ ‬بور‭ ‬سعيد‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬الطقوس‭ ‬تبدأ‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬العشاء،‭ ‬حيث‭ ‬تعقد‭ ‬الضمة،‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬فقيرة‭ ‬ضيقة‭ ‬مرصوفة‭ ‬بالحجارة‭ ‬السوداء،‭ ‬وتنيرها‭ ‬‮«‬كلوبات‮»‬‭ ‬وعلى‭ ‬ناصية‭ ‬كل‭ ‬حارة‭ ‬‮«‬فانوس‮»‬،‭ ‬ويقوم‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬بإنزال‭ ‬كرسي‭ ‬الحمام‭ ‬الذي‭ ‬يملكه‭ ‬صاحب‭ ‬البيت‭ ‬ليجلس‭ ‬عليه‭ ‬الصحبجية،‭ ‬وقد‭ ‬تُفرش‭ ‬الأرض‭ ‬بسجادة‭ ‬كبيرة‭ ‬إن‭ ‬وجدت‭ ‬عند‭ ‬أحد‭ ‬الأهالي،‭ ‬ويتكفل‭ ‬أهل‭ ‬المنطقة‭ ‬بموقد‭ ‬النار،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬قصعة‮»‬‭ ‬يكسر‭ ‬الفحم‭ ‬ويوضــــع‭ ‬فيــــها،‭ ‬ويظل‭ ‬موقَداً‭ ‬طوال‭ ‬الليل‭ ‬لشد‭ ‬الطبول‭ ‬واحتــياجات‭ ‬الشيشة‮»‬‭. ‬

أما‭ ‬في‭ ‬احتفالية‭ ‬‮«‬حرق‭ ‬اللمبي‮»‬‭ ‬في‭ ‬مناسبة‭ ‬شم‭ ‬النسيم،‭ ‬فتأخذ‭ ‬الضمة‭ ‬شكلاً‭ ‬آخر،‭ ‬حيث‭ ‬تقام‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬مسرح‭ ‬عال‭ ‬مجهز‭ ‬بمكبرات‭ ‬الصوت‭ ‬والإضاءة‭ ‬والزينات،‭ ‬يتوسط‭ ‬الشوارع‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬تزدحم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأوقات‭ ‬بالوافدين‭ ‬لمشاهدة‭ ‬الاحتفالية‭.‬

وكانت‭ ‬الدربكة‭ ‬والرق‭ ‬والمثلث‭ ‬والملاعق‭ ‬والزجاجات‭ ‬الفارغة‭ ‬هي‭ ‬الأدوات‭ ‬الرئيسية‭ ‬المصاحبة‭ ‬للضمة‭ ‬في‭ ‬مراحلها‭ ‬الأولى،‭ ‬حتى‭ ‬انضمت‭ ‬آلة‭ ‬السمسمية‭ ‬إلى‭ ‬المشهد‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬العقد‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

يقول‭ ‬المغني‭:‬

شفت‭ ‬الحكاية‭ ‬المعجبة

لما‭ ‬الخروف‭ ‬نطح‭ ‬الجمل

لما‭ ‬الخروف‭ ‬نطح‭ ‬الجمل‭ (‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

قام‭ ‬الجمل‭ ‬من‭ ‬كسفته‭ (‬خجله‭)‬

وقع‭ ‬على‭ ‬صنمه‭ ‬انكسر‭ (‬الصنم‭ ‬هو‭ ‬النطق‭ ‬العامي‭ ‬للفظة‭ ‬‮«‬سنام‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬الكتلة‭ ‬الدهنية‭ ‬الموجودة‭ ‬أعلى‭ ‬الجمل‭)‬‭.‬

وقع‭ ‬على‭ ‬صنمه‭ ‬انكسر

‭(‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

كنا‭ ‬تلاتة‭ ‬أربعة

كنا‭ ‬تلاتة‭ ‬أربعة

‭(‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

إلخ‭...‬

أنا‭ ‬الوابور‭ ‬

توت‭ ‬توت‭ (‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

أنا‭ ‬وابور‭ ‬البضاعة

أجُرّ‭ ‬مية‭ ‬واربعة

ولا‭ ‬على‭ ‬قلبي‭ ‬خبر

أنا‭ ‬الوابور‭ ‬اسود‭ ‬وغطيس‭ (‬أي‭: ‬فاحم‭ ‬السواد‭)‬

وحمولتي‭ ‬ميه‭ ‬وألف‭ ‬كيس

واللي‭ ‬أدوسه‭ ‬يروح‭ ‬فطيس‭ (‬كلمة‭ ‬فطيس،‭ ‬تعني‭ ‬المجانية‭ ‬والهدر‭ ‬بلا‭ ‬قيمة‭).‬

لو‭ ‬حتى‭ ‬ضهره‭ ‬من‭ ‬الحجر

لو‭ ‬حتى‭ ‬ضهره‭ ‬من‭ ‬الحجر‭    (‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

شيخ‭ ‬العرب‭ ‬عنده‭ ‬ولد

بيهشكه‭ ‬ويدلكه‭ ‬ويأكله‭ ‬عين‭ ‬جمل‭ (‬أي‭ ‬يداعبه‭ ‬ويدلله‭).‬

وأكله‭ ‬عين‭ ‬جمل

‭(‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

سنين‭ ‬ملقح‭ (‬أي‭: ‬ملقى‭ ‬بإهمال‭) ‬في‭ ‬الخلا

وكانت‭ ‬حالته‭ ‬بالبلا

وبعت‭ ‬له‭ ‬ألفين‭ ‬بهيم

خلى‭ ‬الشيخ‭ ‬سليم

باع‭ ‬العطارة‭ ‬والوتر

باع‭ ‬العطارة‭ ‬والوتر

‭(‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

الهُن‭ ‬الهُن

الهُن‭ ‬الهُن

‭(‬ترديد‭ ‬جماعي‭)‬

كانت‭ ‬‮«‬الضمة‮»‬‭ ‬وسيلة‭ ‬الترفيه‭ ‬الوحيدة،‭ ‬التي‭ ‬استعان‭ ‬بها‭ ‬عمال‭ ‬حفر‭ ‬القناة‭ ‬الغرباء،‭ ‬ليُدخلوا‭ ‬البهجة‭ ‬على‭ ‬أرواحهم‭ ‬المكدودة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الشاق‭.. ‬لقد‭ ‬بثوا‭ ‬فيها‭ ‬أنينهم‭ ‬من‭ ‬الغربة،‭ ‬وحنينهم‭ ‬لذويهم،‭ ‬وحملت‭ ‬مفردات‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬خلفوها‭ ‬وراءهم،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬الفن‭ ‬الموازي‭ ‬الذي‭ ‬واجه‭ ‬به‭ ‬ابن‭ ‬البلد‭ ‬صخب‭ ‬حفلات‭ ‬المحتل‭ ‬الراقصة‭ ‬الملونة،‭ ‬وقنصه‭ ‬لخيرات‭ ‬البلاد‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭.‬

يشير‭ ‬د‭. ‬شبانة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الضمة‭ ‬تطورت‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬سامراً‭ ‬يتسلى‭ ‬به‭ ‬العاملون،‭ ‬إلى‭ ‬ظاهرة‭ ‬فنية،‭ ‬انصهرت‭ ‬فيها‭ ‬مشاعر‭ ‬هؤلاء‭ ‬العمال،‭ ‬ومثلت‭ ‬لهم‭ ‬فناً‭ ‬احتضنهم‭ ‬فاحتضنوه،‭ ‬وجعلوا‭ ‬منه‭ ‬شكلاً‭ ‬خاصاً‭ ‬معبراً‭ ‬عمَّا‭ ‬يجيش‭ ‬في‭ ‬صدورهم،‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬الضمة‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭ ‬تعني‭ ‬جلسات‭ ‬السمر‭ ‬والمؤانسة‭ ‬التي‭ ‬يجتمع‭ ‬فيها‭ ‬الأصدقاء‭ ‬أمام‭ ‬بيت‭ ‬أحد‭ ‬الصحبجية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬مرافقة‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬احتفالاتهم‭ ‬الاجتماعية‭.‬

ولم‭ ‬تقتصر‭ ‬‮«‬الضمة‮»‬‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬الأدوار‭ ‬الغنائية‭ ‬فحسب؛‭ ‬بل‭ ‬صاحبتها‭ ‬أداءات‭ ‬حركية‭ ‬متنوعة،‭ ‬كالرقص‭ ‬بالعصا‭ ‬والسكين،‭ ‬إضافة‭ ‬لفنون‭ ‬التمثيل‭ ‬الفكاهية،‭ ‬التي‭ ‬نال‭ ‬بها‭ ‬‮«‬البورسعيدي‮»‬‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬وجوه‭ ‬الظلم‭ ‬والفساد‭ ‬والاستغلال‭ ‬والأنماط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المنبوذة‭.‬

يخرج‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬شبانة‭ ‬بنتيجة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬رياح‭ ‬التغيير‭ ‬التي‭ ‬هبت‭ ‬على‭ ‬بورسعيد‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الانفتاح‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات‭ ‬عصفت‭ ‬بهذا‭ ‬الفن‭ ‬الشعبي،‭ ‬بعد‭ ‬سيطرة‭ ‬قيم‭ ‬جديدة‭ ‬غلب‭ ‬عليها‭ ‬الطابع‭ ‬المادي‭ ‬وتحولت‭ ‬ممارسة‭ ‬الفن‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬الضمة‭ ‬والسمسمية‭ ‬إلى‭ ‬مهنة،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬تحول‭ ‬مدينة‭ ‬بورسعيد‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬حرة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات،‭ ‬ووجود‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الرواج‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وانخراط‭ ‬الأهالي‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬التجارة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬أعمال‭ ‬تقليدية‭ ‬أخرى‭.‬

ورغم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ستظل‭ ‬فنون‭ ‬الضمة‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭ ‬ومنطقة‭ ‬القناة‭ ‬شاهد‭ ‬إثبات‭ ‬حيّاً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أنتجته‭ ‬القريحة‭ ‬الشعبية‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬إبداع‭ ‬إنساني‭ ‬خلاق،‭ ‬خلع‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬بهجتها‭ ‬وروَّض‭ ‬الحزن‭ ‬فيها‭ ‬وأنبت‭ ‬الشجن‭ ‬وسقاه‭ ‬بنغم‭ ‬سرمدي‭ ‬متجدد‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬جمالاً،‭ ‬جعلها‭ ‬جديرة‭ ‬بأن‭ ‬تعاش،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬يكتنفها‭ ‬من‭ ‬متاعب‭ ‬وآلام‭.‬

يذكر‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬البورسعيدي‭ ‬زكريا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬إحياء‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬وحمايته‭ ‬من‭ ‬الاندثار،‭ ‬فكوَّن‭ ‬فرقة‭ ‬للطنبورة،‭ ‬تعرض‭ ‬حفلاتها‭ ‬بمدينة‭ ‬القاهرة‭ ‬وخارج‭ ‬مصر،‭ ‬وقام‭ ‬معهد‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بباريس‭ ‬بإنتاج‭ ‬أسطوانة‭ ‬مدمجة‭ ‬لأغاني‭ ‬فرقته‭ ‬لاقت‭ ‬رواجاً‭ ‬كبيراً،‭ ‬ومازال‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬ضمة‭ ‬أسبوعياً‭ ‬ذ‭ ‬يوم‭ ‬الأربعاء‭-  ‬بكازينو‭ ‬الشاطئ‭ ‬في‭ ‬بور‭ ‬فؤاد‭.‬

يقوم‭ ‬الريس‭ ‬بإلقاء‭ ‬أغنية‭ ‬ويردد‭ ‬باقي‭ ‬الصحبة‭ ‬وراءه،‭ ‬ثم‭ ‬يقوم‭ ‬مغن‭ ‬آخر‭ ‬ليتسلم‭ ‬الغناء،‭ ‬وهكذا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تبادل‭ ‬للأدوار،‭ ‬تسمع‭ ‬في‭ ‬انعطافاتها‭ ‬رنة‭ ‬الحادي‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬ولغة‭ ‬النوبي،‭ ‬ولكنة‭ ‬الدمياطي،‭ ‬ولهجات‭ ‬البحاروة‭ ‬والصعايدة‭.‬

 

احتفالية‭ ‬اللمبي

اللمبي‭ ‬أو‭ ‬الحريقة‭ ‬مسميان‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الاحتفال‭ ‬بشم‭ ‬النسيم‭ ‬في‭ ‬بورسعيد،‭ ‬الذي‭ ‬يتخذ‭ ‬طابعاً‭ ‬متفرداً‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬أنحاء‭ ‬مصر،‭ ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بأكلات‭ ‬السمك‭ ‬المملح‭ (‬الفسيخ‭) ‬وتناول‭ ‬الترمس‭ ‬والمنجؤنة،‭ ‬فإنه‭ ‬كذلك‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يعبر‭ ‬فيه‭ ‬البورسعيدي‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬وعن‭ ‬مواقفه‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مظاهر‭ ‬التعبير‭ ‬هنا‭ ‬تتخذ‭ ‬شكلاً‭ ‬حاداً،‭ ‬فإنها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مثبتات‭ ‬الوجود‭ ‬والإعلان‭ ‬عنه‭ ‬مقابل‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬للتهميش‭ ‬أو‭ ‬الإقصاء‭.‬

و«اللمبي‮»‬‭ - ‬ينطقونه‭ ‬‮«‬اللنبي‮»‬‭ - ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬اللورد‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬قائد‭ ‬القوات‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬وحين‭ ‬عين‭ ‬مفوضاً‭ ‬سامياً‭ ‬لإنجلترا‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬استقبل‭ ‬الناس‭ ‬خبر‭ ‬تعيينه‭ ‬بالهتافات‭ ‬اللاذعة‭.‬

وكان‭ ‬ثوار‭ ‬1919‭ ‬قد‭ ‬استفادوا‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬أغنيات‭ ‬كشكش‭ ‬بيه‭ (‬نجيب‭ ‬الريحاني‭) ‬وحوروا‭ ‬في‭ ‬كلماتها‭ ‬لتناسب‭ ‬اسم‭ ‬اللمبي،‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬النشيد‭ ‬الساخر‭.‬

وقد‭ ‬أهان‭ ‬ذلك‭ ‬اللورد‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬فكرهه‭ ‬المصريون‭ ‬بشدة،‭ ‬وافق‭ ‬يوم‭ ‬وفاته‭ - ‬وفي‭ ‬مصادر‭ ‬أخرى‭ ‬يوم‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬مصر‭- ‬يوم‭ ‬شم‭ ‬النسيم؛‭ ‬توافق‭ ‬الاحتفالان‭ ‬وصار‭ ‬بينهما‭ ‬ارتباط‭ ‬شديد‭. ‬واللنبي‭ ‬هنا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هو‭ ‬اللورد‭ ‬اللمبي‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬إنما‭ ‬صار‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬يرفضون‭ ‬سلوكه‭ ‬أو‭ ‬مواقفه،‭ ‬ويريدون‭ ‬السخرية‭ ‬منه‭ ‬وتقريعه‭.‬

طوال‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬يشهد‭ ‬حي‭ ‬العرب‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬المكثف،‭ ‬حيث‭ ‬يستعدون‭ ‬للاحتفالية‭ ‬بجمع‭ ‬الأقمشة‭ ‬القديمة‭ ‬وبقايا‭ ‬الأخشاب‭ ‬ومخلفات‭ ‬البيوت،‭ ‬استعداداً‭ ‬لعمل‭ ‬دمية‭ ‬تشبه‭ ‬الشخص‭ ‬المراد‭ ‬تبكيته‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬وإلقائها‭ ‬في‭ ‬النار،‭ ‬كرمز‭ ‬لما‭ ‬سيلاقيه‭ ‬صاحبها‭ ‬من‭ ‬مصير‭ ‬يوم‭ ‬الحساب‭.‬

وعند‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬صناعة‭ ‬الدمية،‭ ‬تعلق‭ ‬على‭ ‬الحبال‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬حتى‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬مرأى‭ ‬من‭ ‬الجميع،‭ ‬وعند‭ ‬منتصف‭ ‬ليلة‭ ‬شم‭ ‬النسيم‭ ‬تشتعل‭  ‬الحرائق‭ ‬على‭ ‬هدير‭ ‬الأنغام‭ ‬الشعبية‭ ‬المميزة‭ ‬للمنطقة،‭ ‬ويتحلق‭ ‬الناس‭ ‬راقصين‭ ‬حول‭ ‬النار،‭ ‬وهم‭ ‬يرددون‭ ‬أشهر‭ ‬أغنية‭ ‬تراثية‭ ‬رافقت‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭.‬

تظل‭ ‬ألسنة‭ ‬النيران‭ ‬تتصاعد‭ ‬والصيحات‭ ‬تعلو،‭ ‬والرقص‭ ‬والأغاني‭ ‬يتواصلان‭ ‬حتى‭ ‬طلوع‭ ‬النهار،‭ ‬حيث‭ ‬يُنهي‭ ‬الأهالي‭ ‬احتفالهم‭ ‬بالذهاب‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬والاغتسال‭ ‬بمائه،‭ ‬ثم‭ ‬يتناولون‭ ‬البيض‭ ‬الملون‭ ‬والفسيخ‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬ابتداع‭ ‬المصريين‭ ‬للدمى،‭ ‬واتخاذها‭ ‬غرضاً‭ ‬للسخرية‭ ‬من‭ ‬الحكام،‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أزمان‭ ‬قديمة،‭ ‬نتلمس‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أورده‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬تغري‭ ‬بردي‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬النجوم‭ ‬الزاهرة‭ ‬في‭ ‬ملوك‭ ‬مصر‭ ‬والقاهرة‮»‬،‭ ‬بشأن‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬الفاطمي‭.‬

 

الصيد

الصيد‭ ‬عادة‭ ‬يومية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البورسعيدي‭... ‬لا‭ ‬أقصد‭ ‬صيادي‭ ‬بورسعيد‭ ‬المحترفين،‭ ‬وإنما‭ ‬أقصد‭ ‬المواطن‭ ‬العادي‭ ‬الذي‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬هوايته‭ ‬اليومية،‭ ‬سواء‭ ‬بصيد‭ ‬الخلول‭ ‬من‭ ‬الشواطئ‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الكابوريا‮»‬‭ ‬من‭ ‬القناة‭.‬

يقف‭ ‬‮«‬السيد‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬القناة،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الحي‭ ‬الإفرنجي‭ ‬أو‭ ‬بورفؤاد،‭ ‬ممسكاً‭ ‬بـ«الكب‮»‬‭ (‬يد‭ ‬طويلة‭ ‬تنتهي‭ ‬بإطار‭ ‬مثبت‭ ‬فيه‭ ‬شبكة،‭ ‬تستخدم‭ ‬لصيد‭ ‬الكابوريا‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬سطح‭ ‬المياه‭ ‬التي‭ ‬تدفعها‭ ‬محركات‭ ‬المعديات،‭ ‬الواصلة‭ ‬بين‭ ‬بورسعيد‭ ‬وبورفؤاد‭). ‬أو‭ ‬ملقياً‭ ‬بالطوق‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬القناة‭ ‬ليحصل‭ ‬على‭ ‬الكابوريا‭ ‬المختبئة‭ ‬في‭ ‬أعماقها‭ (‬الطوق‭ ‬إطار‭ ‬معدني‭ ‬مثبت‭ ‬فيه‭ ‬شبكة‭ ‬يمسكها‭ ‬الصائد‭ ‬بخيوط‭ ‬قوية‭)‬،‭ ‬يطوح‭ ‬الصائد‭ ‬بالطوق‭ ‬ملقياً‭ ‬إياه‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الماء‭ ‬ثم‭ ‬يجذبه‭ ‬ليعود‭ ‬بالكابوريا‭ ‬المحببة‭.‬

صبية‭ ‬وشباب‭ ‬وشيوخ‭ ‬يجلسون‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭.. ‬يمارسون‭ ‬هوايتهم‭ ‬الأثيرة،‭ ‬إلى‭ ‬جوارهم‭ ‬‮«‬المرجونة‮»‬‭ (‬وعاء‭ ‬من‭ ‬الخوص‭ ‬ذو‭ ‬غطاء‭ ‬مثبت‭ ‬به‭) ‬يضعون‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬تظفر‭ ‬به‭ ‬أياديهم‭ ‬وما‭ ‬تجود‭ ‬به‭ ‬القناة‭ ‬عليهم‭.‬

تتنقل‭ ‬المعدية‭ ‬بين‭ ‬ضفتي‭ ‬بورسعيد‭ ‬فتحدث‭ ‬محركاتها‭ ‬القوية‭ ‬دوامات‭ ‬عفية‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬تحرك‭ ‬الكابوريا‭ ‬إلى‭ ‬السطح،‭ ‬وتجعلها‭ ‬ظاهرة‭ ‬للصياد‭ ‬فيوجه‭ ‬ناحيتها‭ ‬‮«‬الكب‮»‬‭ ‬ليلتقطها‭. ‬

ومثل‭ ‬فنون‭ ‬الصيد‭ ‬المتعددة،‭ ‬تتعدد‭ ‬فنون‭ ‬طهي‭ ‬الأسماك‭ ‬وطرق‭ ‬تناولها‭ ‬كذلك‭: ‬‮«‬صيادية‭ ‬وشوربة‭ ‬وسمك‭ ‬مقلي‭ ‬ومشوي‭ ‬وصينية‮»‬،‭ ‬فالأسماك‭ ‬هي‭ ‬سيدة‭ ‬الأكلات‭ ‬البورسعيدية‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستغني‭ ‬عنها‭ ‬أحد،‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬الأرز‭ ‬الأبيض‭ ‬والمشهيات‭.‬

وهناك‭ ‬طريقتان‭ ‬لشي‭ ‬الأسماك‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭: ‬الشي‭ ‬المطري،‭ ‬نسبة‭ ‬لعادات‭ ‬أهالي‭ ‬قرية‭ ‬المطرية‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬بحيرة‭ ‬المنزلة‭ ‬بمحافظة‭ ‬الدقهلية،‭ ‬حيث‭ ‬اعتاد‭ ‬سكانها‭ ‬عدم‭ ‬شي‭ ‬الأسماك‭ ‬تماماً،‭ ‬إنما‭ ‬تتحصل‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬شواء،‭ ‬أما‭ ‬الشي‭ ‬البورسعيدي‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬الشي‭ ‬كامل‮»‬‭.‬

‭ ‬وتوجد‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭ ‬أفران‭ ‬خاصة‭ ‬لشي‭ ‬الأسماك،‭ ‬ويطلق‭ ‬عليها‭ ‬أفران‭ ‬الوقيد،‭ ‬وهي‭ ‬أفران‭ ‬تشبه‭ ‬أفران‭ ‬الخبز‭ ‬التقليدية،‭ ‬ولا‭ ‬تختلف‭ ‬عنها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬الوقود‭ ‬الذي‭ ‬يتشكل‭ ‬من‭ ‬الخشب،‭ ‬المجلوب‭ ‬من‭ ‬مخلفات‭ ‬مصانع‭ ‬الأثاث‭ ‬في‭ ‬دمياط‭. ‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬يشتري‭ ‬البورسعيدي‭ ‬السمك‭ ‬من‭ ‬السوق‭ ‬يسلمه‭ ‬للفران،‭ ‬الذي‭ ‬يضعه‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬الردة‭ (‬نخالة‭ ‬الدقيق‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬يلفه‭ ‬في‭ ‬ورق‭ ‬مقوى‭ ‬ويدخله‭ ‬الفرن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬صاحبه،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تختلط‭ ‬الأسماك‭ ‬ببعضها،‭ ‬وقديما‭ ‬كان‭ ‬الأهالي‭ ‬يضعون‭ ‬أسماكهم‭ ‬في‭ ‬أوعية‭ ‬ويسلمونها‭ ‬للفران،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬أفران‭ ‬الخبز‭ ‬قديما‭ ‬كانت‭ ‬توقف‭ ‬وظيفتها‭ ‬الأساسية‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الظهيرة‭ ‬وتقوم‭ ‬بشي‭ ‬الأسماك،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬والمساء‭ ‬فتمارس‭ ‬وظيفتها‭ ‬العادية‭. ‬

ينعكس‭ ‬حب‭ ‬البورسعيدي‭ ‬لأكل‭ ‬السمك‭ ‬حتى‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬أغاني‭ ‬الضمة‭: ‬إذ‭ ‬يغنون‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬الشاعر‭ ‬كامل‭ ‬عيد،‭ ‬مؤسس‭ ‬فرقة‭ ‬أولاد‭ ‬الأرض،‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬لواء‭ ‬المقاومة‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الاستنزاف‭:‬

أنا‭ ‬كلت‭ ‬شبار‭ ‬ديله‭ ‬محني‭ ‬

صايده‭ ‬م‭  ‬الترعة‭  ‬الوطنية‭ ‬

هايل‭ ‬يا‭ ‬شبار‭..  ‬صايده‭ ‬بسنار

م‭ ‬الترعة‭ ‬الحلوة‭ ‬الوطنية‭.‬

والشبار‭ ‬هو‭ ‬السمك‭ ‬البلطي‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬يتسم‭ ‬باحمرار‭ ‬ذيله،‭ ‬وينقسم‭ ‬إلى‭ ‬نوعين‭: ‬الشبار‭ ‬الأخضر،‭ ‬ويفضل‭ ‬تناوله‭ ‬مشوياً‭ ‬لأن‭ ‬لحمه‭ ‬متماسك،‭ ‬والشبار‭ ‬الأبيض‭ ‬الذي‭ ‬يفضل‭ ‬تناوله‭ ‬مقلياً‭ ‬ويتسم‭ ‬بلحمه‭ ‬اللدن،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬جوفه‭ ‬يكون‭ ‬ممتلئاً‭ ‬بالفضلات‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تنظيف،‭ ‬إذ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬السمك‭ ‬يشوى‭ ‬في‭ ‬بورسعيد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬فتح‭ ‬أحشائه،‭ ‬ولذلك‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬السمك‭ ‬قابلاً‭ ‬للشي‭. ‬

وكان‭ ‬سمك‭ ‬‮«‬الشبار‮»‬‭ ‬ينتــشر‭ ‬في‭ ‬الترعة‭ ‬الحلوة،‭ ‬وهي‭ ‬قناة‭ ‬الماء‭ ‬العذب‭ ‬التي‭ ‬حفرت‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬قـــــناة‭ ‬السويس،‭ ‬ولم‭ ‬يعــــد‭ ‬لهــــا‭ ‬وجــود‭ ‬الآن،‭ ‬إذ‭ ‬اختفت‭ ‬كما‭ ‬اختفى‭ ‬القنال‭ ‬الداخلي‭.‬

ونلاحظ‭ ‬هنا‭ ‬إطلاق‭ ‬صفة‭ ‬الوطنية‭ ‬والحلوة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الترعة‭ ‬المندثرة،‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬المتقابلات‭ ‬اللفظية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يفتأ‭ ‬البورسعيدي‭ ‬يستخدمها‭ ‬كشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬وعيه‭ ‬بمفارقات‭ ‬الحياة‭ ‬وتناقضاتها‭.. ‬حي‭ ‬العرب‭/ ‬الحي‭ ‬الإفرنجي‭.. ‬قناة‭ ‬السويس‭/ ‬القنال‭ ‬الداخلي،‭ ‬أو‭ ‬الترعة‭ ‬الحلوة‭.‬

علي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬المدينة‭ ‬أن‭ ‬أوجه‭ ‬شكراً‭ ‬خاصاً‭ ‬للأدباء‭ ‬البورسعيديين،‭ ‬الأصدقاء‭: ‬السيد‭ ‬الخميسي‭ ‬وأحمد‭ ‬رشاد‭ ‬حسنين،‭ ‬والراحل‭ ‬قاسم‭ ‬مسعد‭ ‬عليوة،‭ ‬والفنان‭ ‬وليد‭ ‬منتصر،‭ ‬الذين‭ ‬فتحوا‭ ‬أمامي‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بورسعيد،‭ ‬وأمدوني‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬المصاحبة‭ ‬