أنا السيد العربي... سطوة المكان واختلاجات الوجدان

انسحبت السطوة الاقتصادية لمدينة بورسعيد كانت تجذب إليها البسطاء من كل أنحاء المحروسة، ليبتاعوا منها البضائع المستوردة من ملابس وأحذية وأدوات تجميل وعطور وجوارب وشوكولاتة ولبان... إلخ.
اختفى المشهد المرعب القديم لمحطة قطار الرسوة، التي كانت تشهد أرصفتها دبيب آلاف الأجساد المحشورة في القطارات القادمة من نواحي مصر، وما إن كانت تخرج من باب المحطة؛ حتى تذوب في الشوارع الجانبية، على يمين شارع محمد علي (الشارع الفاصل بين عالمين متناقضين: حـــي العرب والحي الإفرنجي) ويساره.. تتبخر ولا تعود إلى التماسك إلا عند حلول الليل، وهي محملة بما ابتاعته من بضائع أجنبية رخيصة، كانت تدخل البهجة على عشرات الآلاف من أسر بسطاء المصريين.
تلك البضائع التي كانت تدفع بعض المواطنين وصغار التجار إلى مراوغة مأموري الجمرك ورجال الأمن والالتفاف عليهم بكل الطرق، من أجل خفض قيمة الجمارك أو التهرب من دفعها. وكانت المدارس والجامعات في تلك الأوقات تنظم رحلات لبورسعيد من أجل هذا الغرض، وتحظى بتسهيلات جمركية أكبر.
راحت سطوة بورسعيد على أرواح فقراء المصريين وأبناء الطبقة المتوسطة، وآب إليها جانب كبير من وجهيها الطوبوغرافي والاجتماعي الحقيقيين، اللذين ظلا منتهكين لما يقرب من ثلاثين عاماً. الوجهان اللذان تستطيع أن تقرأ فيهما خارطة العالم بأسره، وأن تتلمس روائحه وهي تتسرب من جنباتها، وفي الآن ذاته لا تفقد نكهتها المصرية؛ فبورسعيد ليست فقط مدينة للمصريين الذين أتوا إليها من كل ربوع مصر أثناء حفر القناة واستقروا بها ونادوا على ذويهم؛ فانصهروا فيها وصاروا من مُلاكها، وشقوا وجودهم فيها بأناة تخلقت حولها فنون وعادات وتقاليد، اختلطت وتداخلت وتجادلت وتشابكت وتضافرت حتى خلقت جسداً جديداً شد عوده يود البحر المتوسط.. ثبت أقدامه في الأرض بقوة، ظهرت في أداء الممبوطية وهم يلقون بالحبال إلى السفن الكبيرة كي تؤوب ظافرة بخيرات بلاد ما وراء البحار، وهي الحركات ذاتها التي تظهر بوضوح أثناء انضمام الرجال في احتفالية الضمة، إذ يرقصون بأقدام ثابتة دون أن تنثني جذوعهم أو أطرافهم العلوية.
الشخصية البورسعيدية وهرم التقسيمات الاجتماعية
أبرز ما يميز الشخصية البورسعيدية هو الانتماء إلى المكان.. الكل هنا حراس عليه.. محبون له.. عارفون بتاريخه، مدينون له.. واعون للزمن وتقلباته.. في جيوبهم صور قديمة للمدينة التي كانت عبارة عن حيين فقط، هما الحي الوطني الذي سكنه أولاد البلد، والحي الإفرنجي الذي أقام فيه الأجانب.. حيان متقابلان يفصل بينهما شارع محمد علي.. الحي الوطني كانت ترمز إليه قرية العرب قديماً، وحي العرب حالياً (الوطني/ العربي).
ويشير الباحث سمير معوض في كتابه «بورسعيد على ضفاف الذكريات»، إلى أنه في بداية نشأة «قرية العرب» لم يكن التجانس الاجتماعي ما بين الجماعات التي جاءت من صعيد مصر زرافات ووحداناً، والجماعات التي أتت في الأغلب من قرى ونجوع الدلتا قد تبلور، كانت كل كتلة من هؤلاء القادمين إلى هذا الموقع الجغرافي في مستهل تشكله قد حملت معها مواريثها الثقافية من مفاهيم وعادات وتقاليد وقيم ومعايير حكمية على الأمور، ولم يكن من السهل توقع أن تنصهر كل هذه العناصر الفكرية والمعنوية المتباينة نوعاً ما في بوتقة واحدة ما بين عشية وضحاها، دون وجود محفزات تفاعل وتقارب وتمازج، مع الأخذ في الحسبان أن عنصر اليقين من المستقبل وعوامل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي قد تهيأت لها ركائزها ومحاور توازناتها المستقرة... كانت المدينة تشبه معسكر عمل يضج بالصخب والتساؤل وغير قليل من الحيرة التي تتضارب فيها التوقعات والتخمينات ويكتنفها كثير من الغموض. وقليل من الوضوح الذي يسكن من قلق ذلك المجتمع غير المتجانس، الذي لم تتكون عنده آنذاك مشاعر المواطنة والقربى الاجتماعية.
كذلك يشير معوض إلى أن الجاليات الأجنبية كانت قد خططت بحكم عوامل كثيرة للاستئثار بالثروة والسلطة والمكانة والاحترام في حزمة واحدة، غير أن الآباء المؤسسين لم يكن بوسعهم أيضاً بحكم عوامل كثيرة نيل الثروة والسلطة والمكانة، لكنهم لم يكونوا على استعداد مطلقاً للتخلي عن صيانة حقوقهم في الاحترام للذات. الفقر كان مدقعاً ينوء على الناس بحمل باهظ، لكن عبقرية الأنفة والترفع كانت تمنعهم من التفريط في ثرائهم المعنوي، وبقي ذلك خاصية تستعصي على الاختراق.
هرم التقسيمات الاجتماعية في بورسعيد ذ كما يقول معوض - «كانت قاعدته العريضة تتوسد أقصى القطاع الغربي للمدينة، وقمته تنتهي عند مجرى قناة السويس. القاعدة كانت تنقسم إلى أرباب مهن حرة، إلا قليلاً من أمثال مربي المواشي وتجار الغلال والعلافة وصائدي الأسماك وحوذيي الحناطير الذين قطنوا المناخ الأقصى (الفوقاني) والمناخ الأدنى (التحتاني)، والاثنان كانا يتكونان من الصعايدة، من عمال الشحن والتفريغ، الذين كانوا يقيمون في الحزام المسمى أول العرب، ومعهم صغار التجار والحرفيين. وإلى جنوب حي العرب أقيمت عدة مناطق عشوائية أطلق عليها اسم العزب (جمع عزبة، وهي مجتمع أقل كثافة سكانية من القرية). وإلى الشرق من حي العرب كان حي الإفرنج.. حي الجاليات الأجنبية عند قمة المثلث، وهو حي النخبة أو الصفوة الذي حاز كل مقدرات المدينة واستولى على الملكية الاقتصادية والإدارة والحماية والامتيازات الكثيرة».
شبّ البورسعيدي على التمسك بأهداب الوطن وتأكيد عروبته، مقابل الأجانب الذين سكنوا الحي المقابل، المطل مباشرة على قناة السويس، التي ارتبطت أعمالهم واستثماراتهم بها، وسكنوا على حافتها.
ربما لذلك كان «الإنسان البورسعيدي» حريصاً على ابتداء اسمه وأسماء أبنائه بلقب «السيد»، أو إنهائه بلقب «العربي»، لينقل إشارة مزدوجة للأجنبي أنه العربي... سيد المكان، صاحبه وباني أركانه ومانحه صبغته.. ليصبح هو «السيد العربي»... الاسم الأشهر في بورسعيد.
لقد توقفت هذه العادة الآن واندثرت أسماء السيد والعربي إلى حد كبير، ضمن أشياء أخرى كثيرة تلاشت.
بالقدر ذاته كان فن الضمة نفسه هو الفن الوطني المقابل لـ «الباللو» (الحفل)، الذي كان يقيمه الأجانب، لذا سوف تلمح في الضمة - كما سنرى لاحقاً - آثاراً لفنون عديدة محلية وعربية، إنها أشبه بمحاكاة لكل الفنون التي أنتجها الواقع العربي والمحلي الذي حلت طيوفه على المكان واتحدت به.
كان الأجانب يجتمعون ليلة السبت لكي يقيموا «باللو»، هذا الباللو لم ينجح في تذويب الثقافات الوافدة في صيغة واحدة، في مقابل نجاح الوطنيين من مصريين وأحباش وبدو في إنتاج حفل آخر هو الضمة، إذ تحلقوا حول آلة واحدة هي السمسمية (آلة موسيقية سهلة التصنيع)، واستعانوا بأصواتهم البشرية بدلاً من «اليكتروا» والطرق على الآلة النحاسية الفخمة التي يملكها الأجانب في الجانب الآخر، ومع صخب المدينة الجديدة الذي قتل صمت الصحراء وهدوء القرى فإن الجماعة السكانية الجديدة تفاعلت مع أدواتها القديمة، وأعادت خلقها خلقاً جديداً فحولت الطبق الفخاري أو ثمرة جوز الهند (الذكر) أي الثمرة الكبيرة جداً، إلى طبق معدني ذي رنين حاد من الصاج أو النحاس أو الألمونيوم».
الضمة
ما زال بالإمكان أن تجمع أهالي بورسعيد في ضمة، فما إن يسمعون عن قيامها حتى يهرعوا إليها، مجذوبين بقوة إلى رنين أوتار السمسمية.. سيدة الآلات الموسيقية وتاجها في بورسعيد.. يؤثرون الآن أن يطلقوا لفظ «صحبة» على جلستهم، فلم يعودوا يقولون ضمة فلان أو فلان، وإنما هناك الآن صحبة فلان وفلان، ومن بين هذه الصحبات برزت صحبة ولاد البحر، بنجومها: عم محمد الشناوي وعم نصر مجاهد والأديب مرسي سلطان، الذي انتهت علاقته تقريباً بعالم الأدب وانخرط في فنون الغناء الشعبي، (قال عنه الأديب والناقد إدوار الخراط حين قرأ بعض بداياته القصصية: مرسي سلطان.. أديب صاعد بقوة).
يدعمهم الناس، أو بلغة أهل البلد ينادون عليهم فينادي «الصحبجية» بعضهم بعضاً، وفي الموعد المحدد يقيمون ضمتهم ويحيون الليلة.
قديماً كانوا ينادون على بعضهم بنداء يحفظه كل أعضاء الصحبة، حيث يمر الصحبجي على الأحياء التي يقطن بها بقية الأعضاء ويقف تحت البيت منادياً:
قسماً بربي إني أريدك
هي المحبة لعبة في إيدك
وإن جيت لعندي
إيش راح يصيبك
تلعب وتكسب.. تاخد نصيبك.
مثل كل شيء تغيرت آلية النداء.. هناك الآن التلفونات المنزلية والمحمولة، تغيرت الوسيلة... نعم، لكن ظل الفن نفسه باقياً قابضاً على جمرته، صحبجية أخذوا العهد على أنفسهم بأن يظلوا حافظين له ومحافظين عليه، مادام هناك شهيق يدخل صدورهم وزفير يخرج منها.
وكانت طقوس الإعداد للضـــمًّة حسبما يقول الباحث د. محمد شبانة أستاذ الموسيقى الشعبية بأكاديــــمية الفـــــنون في إحدى الدراسات التي أجراها عن هذا الفن، وحملت عنوان «أغاني الضمة في بور سعيد» كانت الطقوس تبدأ بعد صلاة العشاء، حيث تعقد الضمة، في شوارع فقيرة ضيقة مرصوفة بالحجارة السوداء، وتنيرها «كلوبات» وعلى ناصية كل حارة «فانوس»، ويقوم كل بيت بإنزال كرسي الحمام الذي يملكه صاحب البيت ليجلس عليه الصحبجية، وقد تُفرش الأرض بسجادة كبيرة إن وجدت عند أحد الأهالي، ويتكفل أهل المنطقة بموقد النار، وهو عبارة عن «قصعة» يكسر الفحم ويوضــــع فيــــها، ويظل موقَداً طوال الليل لشد الطبول واحتــياجات الشيشة».
أما في احتفالية «حرق اللمبي» في مناسبة شم النسيم، فتأخذ الضمة شكلاً آخر، حيث تقام من فوق مسرح عال مجهز بمكبرات الصوت والإضاءة والزينات، يتوسط الشوارع الرئيسية التي تزدحم في تلك الأوقات بالوافدين لمشاهدة الاحتفالية.
وكانت الدربكة والرق والمثلث والملاعق والزجاجات الفارغة هي الأدوات الرئيسية المصاحبة للضمة في مراحلها الأولى، حتى انضمت آلة السمسمية إلى المشهد في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين.
يقول المغني:
شفت الحكاية المعجبة
لما الخروف نطح الجمل
لما الخروف نطح الجمل (ترديد جماعي)
قام الجمل من كسفته (خجله)
وقع على صنمه انكسر (الصنم هو النطق العامي للفظة «سنام» وهي الكتلة الدهنية الموجودة أعلى الجمل).
وقع على صنمه انكسر
(ترديد جماعي)
كنا تلاتة أربعة
كنا تلاتة أربعة
(ترديد جماعي)
إلخ...
أنا الوابور
توت توت (ترديد جماعي)
أنا وابور البضاعة
أجُرّ مية واربعة
ولا على قلبي خبر
أنا الوابور اسود وغطيس (أي: فاحم السواد)
وحمولتي ميه وألف كيس
واللي أدوسه يروح فطيس (كلمة فطيس، تعني المجانية والهدر بلا قيمة).
لو حتى ضهره من الحجر
لو حتى ضهره من الحجر (ترديد جماعي)
شيخ العرب عنده ولد
بيهشكه ويدلكه ويأكله عين جمل (أي يداعبه ويدلله).
وأكله عين جمل
(ترديد جماعي)
سنين ملقح (أي: ملقى بإهمال) في الخلا
وكانت حالته بالبلا
وبعت له ألفين بهيم
خلى الشيخ سليم
باع العطارة والوتر
باع العطارة والوتر
(ترديد جماعي)
الهُن الهُن
الهُن الهُن
(ترديد جماعي)
كانت «الضمة» وسيلة الترفيه الوحيدة، التي استعان بها عمال حفر القناة الغرباء، ليُدخلوا البهجة على أرواحهم المكدودة في نهاية يوم من العمل الشاق.. لقد بثوا فيها أنينهم من الغربة، وحنينهم لذويهم، وحملت مفردات البلدان التي خلفوها وراءهم، فضلاً عن كونها الفن الموازي الذي واجه به ابن البلد صخب حفلات المحتل الراقصة الملونة، وقنصه لخيرات البلاد بلا هوادة.
يشير د. شبانة إلى أن الضمة تطورت من كونها سامراً يتسلى به العاملون، إلى ظاهرة فنية، انصهرت فيها مشاعر هؤلاء العمال، ومثلت لهم فناً احتضنهم فاحتضنوه، وجعلوا منه شكلاً خاصاً معبراً عمَّا يجيش في صدورهم، حتى صارت الضمة في بورسعيد تعني جلسات السمر والمؤانسة التي يجتمع فيها الأصدقاء أمام بيت أحد الصحبجية، وأصبحت مرافقة لهم في جميع احتفالاتهم الاجتماعية.
ولم تقتصر «الضمة» على تقديم الأدوار الغنائية فحسب؛ بل صاحبتها أداءات حركية متنوعة، كالرقص بالعصا والسكين، إضافة لفنون التمثيل الفكاهية، التي نال بها «البورسعيدي» من كل وجوه الظلم والفساد والاستغلال والأنماط الاجتماعية المنبوذة.
يخرج د. محمد شبانة بنتيجة مفادها أن رياح التغيير التي هبت على بورسعيد في عصر الانفتاح منتصف السبعينيات عصفت بهذا الفن الشعبي، بعد سيطرة قيم جديدة غلب عليها الطابع المادي وتحولت ممارسة الفن الشعبي في الضمة والسمسمية إلى مهنة، وذلك بعد تحول مدينة بورسعيد إلى منطقة حرة في منتصف السبعينيات، ووجود حالة من الرواج الاقتصادي وانخراط الأهالي في ممارسة التجارة على حساب أعمال تقليدية أخرى.
ورغم كل شيء ستظل فنون الضمة في بورسعيد ومنطقة القناة شاهد إثبات حيّاً على ما أنتجته القريحة الشعبية المصرية من إبداع إنساني خلاق، خلع على الحياة بهجتها وروَّض الحزن فيها وأنبت الشجن وسقاه بنغم سرمدي متجدد أضفى على الحياة جمالاً، جعلها جديرة بأن تعاش، رغم ما يكتنفها من متاعب وآلام.
يذكر أن الفنان البورسعيدي زكريا إبراهيم عمل على إحياء هذا الفن وحمايته من الاندثار، فكوَّن فرقة للطنبورة، تعرض حفلاتها بمدينة القاهرة وخارج مصر، وقام معهد العالم العربي بباريس بإنتاج أسطوانة مدمجة لأغاني فرقته لاقت رواجاً كبيراً، ومازال يحرص على إقامة ضمة أسبوعياً ذ يوم الأربعاء- بكازينو الشاطئ في بور فؤاد.
يقوم الريس بإلقاء أغنية ويردد باقي الصحبة وراءه، ثم يقوم مغن آخر ليتسلم الغناء، وهكذا في حالة تبادل للأدوار، تسمع في انعطافاتها رنة الحادي في الصحراء، ولغة النوبي، ولكنة الدمياطي، ولهجات البحاروة والصعايدة.
احتفالية اللمبي
اللمبي أو الحريقة مسميان للدلالة على واحد من مظاهر الاحتفال بشم النسيم في بورسعيد، الذي يتخذ طابعاً متفرداً عن باقي أنحاء مصر، فإلى جانب الاستمتاع بأكلات السمك المملح (الفسيخ) وتناول الترمس والمنجؤنة، فإنه كذلك هو اليوم الذي يعبر فيه البورسعيدي عن نفسه وعن مواقفه من الحياة، وإن كانت مظاهر التعبير هنا تتخذ شكلاً حاداً، فإنها واحدة من مثبتات الوجود والإعلان عنه مقابل أي محاولة للتهميش أو الإقصاء.
و«اللمبي» - ينطقونه «اللنبي» - هذا هو اللورد الإنجليزي الذي كان يشغل منصب قائد القوات الإنجليزية في الحرب العالمية الأولى في فلسطين، وحين عين مفوضاً سامياً لإنجلترا في مصر، استقبل الناس خبر تعيينه بالهتافات اللاذعة.
وكان ثوار 1919 قد استفادوا من إحدى أغنيات كشكش بيه (نجيب الريحاني) وحوروا في كلماتها لتناسب اسم اللمبي، فيما يشبه النشيد الساخر.
وقد أهان ذلك اللورد سعد زغلول فكرهه المصريون بشدة، وافق يوم وفاته - وفي مصادر أخرى يوم خروجه من مصر- يوم شم النسيم؛ توافق الاحتفالان وصار بينهما ارتباط شديد. واللنبي هنا لم يعد هو اللورد اللمبي الإنجليزي، إنما صار كل شخص يرفضون سلوكه أو مواقفه، ويريدون السخرية منه وتقريعه.
طوال شهر أبريل يشهد حي العرب حالة من النشاط المكثف، حيث يستعدون للاحتفالية بجمع الأقمشة القديمة وبقايا الأخشاب ومخلفات البيوت، استعداداً لعمل دمية تشبه الشخص المراد تبكيته هذا العام أو ذاك، وإلقائها في النار، كرمز لما سيلاقيه صاحبها من مصير يوم الحساب.
وعند الانتهاء من صناعة الدمية، تعلق على الحبال في الشوارع حتى تكون على مرأى من الجميع، وعند منتصف ليلة شم النسيم تشتعل الحرائق على هدير الأنغام الشعبية المميزة للمنطقة، ويتحلق الناس راقصين حول النار، وهم يرددون أشهر أغنية تراثية رافقت هذا الطقس.
تظل ألسنة النيران تتصاعد والصيحات تعلو، والرقص والأغاني يتواصلان حتى طلوع النهار، حيث يُنهي الأهالي احتفالهم بالذهاب إلى البحر والاغتسال بمائه، ثم يتناولون البيض الملون والفسيخ على شاطئ البحر في بورسعيد.
والحقيقة أن ابتداع المصريين للدمى، واتخاذها غرضاً للسخرية من الحكام، يعود إلى أزمان قديمة، نتلمس بعضها في ما أورده «ابن تغري بردي» في كتابه «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، بشأن الحاكم بأمر الله الفاطمي.
الصيد
الصيد عادة يومية في حياة البورسعيدي... لا أقصد صيادي بورسعيد المحترفين، وإنما أقصد المواطن العادي الذي يحرص على ممارسة هوايته اليومية، سواء بصيد الخلول من الشواطئ أو «الكابوريا» من القناة.
يقف «السيد العربي» على شاطئ القناة، سواء من ناحية الحي الإفرنجي أو بورفؤاد، ممسكاً بـ«الكب» (يد طويلة تنتهي بإطار مثبت فيه شبكة، تستخدم لصيد الكابوريا القريبة من سطح المياه التي تدفعها محركات المعديات، الواصلة بين بورسعيد وبورفؤاد). أو ملقياً بالطوق في عمق القناة ليحصل على الكابوريا المختبئة في أعماقها (الطوق إطار معدني مثبت فيه شبكة يمسكها الصائد بخيوط قوية)، يطوح الصائد بالطوق ملقياً إياه في عمق الماء ثم يجذبه ليعود بالكابوريا المحببة.
صبية وشباب وشيوخ يجلسون على الشاطئ.. يمارسون هوايتهم الأثيرة، إلى جوارهم «المرجونة» (وعاء من الخوص ذو غطاء مثبت به) يضعون فيها ما تظفر به أياديهم وما تجود به القناة عليهم.
تتنقل المعدية بين ضفتي بورسعيد فتحدث محركاتها القوية دوامات عفية في الماء، تحرك الكابوريا إلى السطح، وتجعلها ظاهرة للصياد فيوجه ناحيتها «الكب» ليلتقطها.
ومثل فنون الصيد المتعددة، تتعدد فنون طهي الأسماك وطرق تناولها كذلك: «صيادية وشوربة وسمك مقلي ومشوي وصينية»، فالأسماك هي سيدة الأكلات البورسعيدية اليومية التي لا يستغني عنها أحد، إلى جوار الأرز الأبيض والمشهيات.
وهناك طريقتان لشي الأسماك في بورسعيد: الشي المطري، نسبة لعادات أهالي قرية المطرية الواقعة على بحيرة المنزلة بمحافظة الدقهلية، حيث اعتاد سكانها عدم شي الأسماك تماماً، إنما تتحصل على نصف شواء، أما الشي البورسعيدي فهو «الشي كامل».
وتوجد في بورسعيد أفران خاصة لشي الأسماك، ويطلق عليها أفران الوقيد، وهي أفران تشبه أفران الخبز التقليدية، ولا تختلف عنها إلا في نوع الوقود الذي يتشكل من الخشب، المجلوب من مخلفات مصانع الأثاث في دمياط.
بعد أن يشتري البورسعيدي السمك من السوق يسلمه للفران، الذي يضعه بدوره في الردة (نخالة الدقيق)، ثم يلفه في ورق مقوى ويدخله الفرن بعد أن يكتب عليه اسم صاحبه، حتى لا تختلط الأسماك ببعضها، وقديما كان الأهالي يضعون أسماكهم في أوعية ويسلمونها للفران، كما أن أفران الخبز قديما كانت توقف وظيفتها الأساسية خلال فترة الظهيرة وتقوم بشي الأسماك، أما في الصباح والمساء فتمارس وظيفتها العادية.
ينعكس حب البورسعيدي لأكل السمك حتى يظهر في أغاني الضمة: إذ يغنون من كلمات الشاعر كامل عيد، مؤسس فرقة أولاد الأرض، التي حملت لواء المقاومة خلال فترة الاستنزاف:
أنا كلت شبار ديله محني
صايده م الترعة الوطنية
هايل يا شبار.. صايده بسنار
م الترعة الحلوة الوطنية.
والشبار هو السمك البلطي الصغير الذي يتسم باحمرار ذيله، وينقسم إلى نوعين: الشبار الأخضر، ويفضل تناوله مشوياً لأن لحمه متماسك، والشبار الأبيض الذي يفضل تناوله مقلياً ويتسم بلحمه اللدن، كما أن جوفه يكون ممتلئاً بالفضلات التي تحتاج إلى تنظيف، إذ يلاحظ أن السمك يشوى في بورسعيد من دون فتح أحشائه، ولذلك ليس كل السمك قابلاً للشي.
وكان سمك «الشبار» ينتــشر في الترعة الحلوة، وهي قناة الماء العذب التي حفرت بالتوازي مع قـــــناة السويس، ولم يعــــد لهــــا وجــود الآن، إذ اختفت كما اختفى القنال الداخلي.
ونلاحظ هنا إطلاق صفة الوطنية والحلوة على تلك الترعة المندثرة، ضمن سلسلة المتقابلات اللفظية التي لا يفتأ البورسعيدي يستخدمها كشكل من أشكال الإعلان عن وعيه بمفارقات الحياة وتناقضاتها.. حي العرب/ الحي الإفرنجي.. قناة السويس/ القنال الداخلي، أو الترعة الحلوة.
علي قبل أن أغادر المدينة أن أوجه شكراً خاصاً للأدباء البورسعيديين، الأصدقاء: السيد الخميسي وأحمد رشاد حسنين، والراحل قاسم مسعد عليوة، والفنان وليد منتصر، الذين فتحوا أمامي كثيراً من أبواب الحياة في مدينة بورسعيد، وأمدوني بمجموعة من الصور المصاحبة ■