حصاد السينما المصرية

يؤرّخ لبداية السينما المصرية عام 1895، وهو العام الذي بدأت فيه فنون السينما وصناعتها في العالم، انطلاقاً من باريس، بعد أن أطلقها الأخوان «لوميير» من الجراند كافيه في شارع كابوسين. وقد جرى أول عرض سينمائي في مصر بمقهى «زواني» في يناير 1896 في مدينة الإسكندرية، وتبعه عرض سينمائي بالقاهرة في الشهر نفسه، ثم عرض ثالث في مدينة بورسعيد عام 1898. وقام المصور الفرنسي بروميو بتصوير ميدان القنـــاصل بالإسكنــــدرية وميدان محمد علي الذي يمكن اعتباره أول فيلم وثائقي مصري، والذي عرض في سينما لوميير يوم 20 يونيو 1907، ويعد ذلك بداية الإنتاج السينمائي المصري.
انطلقت السينما الروائية المصرية عام 1917 بجهود «الشركة السينمائية الإيطالية المصرية» التي أنتجت فيلمين، هما «الشرف البدوي» و«الأزهار القاتلة»، وقد أوكلت الشركة الإخراج للمخرج والممثل محمد كريم، الذي يعتبر أول ممثل سينمائي مصري. ومنذ ذلك الوقت تم إنتاج أكثر من أربعة آلاف فيلم مصري، أي على مدى مائة عام تقريباً.
ولا شك في أن السينما في مصر تمثل صناعة متكاملة، عكس السينما في البلدان العربية الأخرى التي لم تتعدَّ إنتاجات سينمائية محدودة قد لا تزيد على أربعة أفلام سنوياً، بعضها يمثل إنتاجات مشتركة، غالباً مع شركات فرنسية أو إيطالية. وقد انتعشت السينما المصرية في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، بعد أن برز عديد من كتاب السيناريو المتميزين والمخرجين, وبزغت نجوم من الممثلين والممثلات في مصر, وبشكل ضاهى السينما في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، وقارب مستويات هوليوود، إلى حد ما.
هناك من يؤكد أن بداية السينما المصرية الحقيقية كانت عام 1927، عندما تم إنتاج وعرض أول فيلمين مشهورين صامتين، هما «قبلة الصحراء» و«ليلى» وقامت عزيزة أمير بالتمثيل في الفيلمين، وهي أول ممثلة مصرية. كذلك شهد عام 1932 إنتاج وعرض أول فيلم مصري ناطق، وهو فيلم «أولاد الذوات» من بطولة يوسف وهبي وأمينة رزق، وكذلك أنتج فيلم آخر في العام ذاته هو فيلم: «أنشودة الفؤاد» وتلا ذلك فيلم «الوردة البيضاء» الذي لعب محمد عبدالوهاب دور البطولة فيه. وتطورت السينما المصرية بشكل مهم خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث تم عرض أول فيلم مصري في الخارج وهو فيلم «وداد» من بطولة أم كلثوم، الذي أنتج في استديو مصر، الذي يمثل بطبيعة الحال نقلة نوعية في تطور السينما المصرية والذي أسس عام 1935، وظل هذا الاستديو علامة مهمة في الصناعة السينمائية حتى توقف عند نشوب الحرب العالمية الثانية.
وقبل توقف العمل في الاستديو عام 1939 جرى إنتاج فيلم «العزيمة»، وهو من أهم أعمال السينما المصرية، وقام بالبطولة فيه حسين صدقي. وفي ذلك العام انطلقت جريدة «مصر السينمائية» أو «الجريدة الناطقة».
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي انطلقت السينما في مصر وتم خلال عام 1944 إنتاج 16 فيلماً، ثم زاد الإنتاج إلى 67 فيلماً في عام 1946. أهم من ذلك برز عدد من المخرجين مثل إبراهيم عمارة وهنري بركات وأحمد بدرخان وحسن الإمام وأحمد كامل مرسي وكامل التلمساني. يضاف إلى ذلك بروز عديد من نجوم السينما، ومنهم ليلى مراد وتحية كاريوكا وإستيفان روستي وأنور وجدي ويحيى شاهين وعماد حمدي وفاتن حمامة وماجدة وغيرهم.
وتمكن المنتجون السينمائيون في مصر من توظيف السينما لطرح عديد من القضايا الاجتماعية والسياسية التي مرت بالواقع المصري خلال تلك العقود, كما أن عديداً من الروايات المهمة تم تحويلها إلى أفلام سينمائية ذاع صيتها، يضاف إلى ذلك إنتاج كثير من الأفلام الاستعراضية والغنائية، منها أفلام لفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ، أنتجت في الخمسينيات من القرن الماضي مثل فيلمي لحن الخلود ولحن الوفاء.
تلك الأفلام كانت متميــزة بالديكـــــور والاجتهاد في الألحان الغنـــائية والرقصات، وغير ذلك من عناصر أساسية لأفلام الاستعراض. وخلال تلك الفترة أنتجت الأفلام، غالباً بالأبيض والأسود، وإن كانت هناك محاولات غير موفقة لإنتاج أفلام بالألوان الطبيعية. ولم تحظ الأفلام الملونة بنجاح فاعل، حتى جاءت سنوات السبعينيات، وأصبح بث التلفزيون ملوناً.
ومما يستحق الإشارة إليه أن السينما المصرية، كصناعة وإنتاج، تم تأميمها في فترة الستينيات، بعد أن تبنى النظام الناصري فلسفة الاشتراكية، وقد تولت المؤسسة العامة للسينما مسؤولية الإنتاج، لكن هذا التطور أدى إلى تراجع عملية الإنتاج، حيث انخفض عدد الأفلام المنتجة من 60 إلى 40 فيلماً سينمائياً سنوياً... أيضاً، لا بد من الإشارة إلى أن عدد دور العرض السينمائية بلغ 354 عام 1954، وبعد التأميم تراجع إلى 255 داراً عام 1966. والأهم من ذلك شيوع نوع من التوجيه لكي تتناول الأفلام الروائية موضوعات محددة تتوافق مع قيم الفلسفة الاشتراكية الحاكمة في البلاد، مثل قضايا الفقر وأهمية قيم العمل وتأكيد إدانة الانتهازية والفساد، وغير ذلك من موضوعات تحفز على ضرورة الارتباط بالأرض وتعزز قيم المقاومة الوطنية.
ورغــــم الـــتأثيرات غير المواتية لعملــــية تأميم السينما، فإن مصر ظلت قادرة على إنتاج أفلام متميزة من حيث الحبكة الدرامية والأداء التمثيلي والإخراج. بيد أن التدهـــــور حدث في السبعينيات، عندما جرت محاولات لإعادة الحياة للإنتاج الخاص، ولكن ذلك أتــــى مشوهاً.
ومنذ ذلك الوقت لم تتمكن الســينما المصرية من إعادة أمجاد السنوات الأولى، حيث كانت معظم الأفلام دون المستوى اللائق بتاريخها.
ويمكن أن نؤكد أن هناك عديداً من المخرجين والممثلين والممثلات الذين برزوا منذ سبعينيات القرن الماضي، مثل: محمود ياسين ونور الشريف وأحمد زكي وعادل إمام ويسرا وليلى علوي وإلهام شاهين، كما برز مخرجون مثل رأفت الميهي وعاطف الطيب وخيري بشارة ومحمد خان. بيد أنه خلال هذه الفترة تم إنتاج الأفلام التي أطلق عليها اسم «أفلام المقاولات»، وهي أفلام كانت تنتج بميزانيات متواضعة ولكن بمستوى فني رديء، ووصلت هذه الأفلام إلى 86 فيلماً عام 1986. ومنذ ذلك الحين أخذت السينما تواجه معضلات الطلب والتكاليف وارتفاع أجور الممثلين، مما أدى إلى انخـــــفاض الإنتاج بعــــد أن تــراجع الطلب عليــــها في بلـــدان الخليج، حيث كان هناك سوق مهم لعرض لتلك الأفلام المنخفضة القيمة والنوعية.
وقد أوجدت هذه التطورات الـــواقع السينمائي الراهن. نُشر تقرير عن حال السينما المصرية في نهاية عام 2014، ليؤكد أهمية العمل على معالجة الأوضاع الصعبة التي تمر بها السينما المصرية. ويذكر التقرير أن عدد الأفلام التي أنتجت في 2014 بلغت 23 فيلماً، منخفضاً عن الأفلام التي أنتجت عام 2013، حيث بلغت 28 فيلماً. وقد تراوحت حصيلة شباك التذاكر لأفلام 2014 بين 107 آلاف جنيه و33 مليون جنيه، ولا شك في أن تلك الإيرادات لا تمثل نجاحاً تجارياً عند الأخذ في الاعتبار التكاليف الباهظة التي يتكبدها المنتجون. ويتعين البحث عن بدائل للإنتاج لمواجهة تلك التكاليف، وكذلك بذل الجهد الملائم لتسويق الأفلام وتحسين إمكانات العرض داخل مصر وفي البلدان العربية الأخرى، كذلك لابد من توظيف المهرجانات السينمائية للترويج للأعمال السينمائية المصرية.
غني عن البيان أن السينما يجب أن تنتشر من خلال آليات العرض الجديدة ولا تقتصر على دور العرض التقليدية، من ذلك إصدار الأقراص المدمجة CDS، والنشر على مواقع الإنترنت مقابل مبلغ من المال، وغير ذلك من أدوات. بيد أن من المهم الارتقاء بنوعية الأفلام وتحسين أدوات الإخراج وتطوير القدرات التصويرية ورفع كفاءة وأداء الممثلين.
وإذا كانت مصر قد تمكنت من إنتاج مسلسلات مهمة وبإمكانات فنية رفيعة، فإن ذلك يجب أن ينعكس على صناعة الأفلام بشكل مؤثر. ويلاحظ خلال موسم 2015، أن عدداً من الأفلام قد أنتج بتكاليف محدودة، حيث توقع الموزعون ضعف الإقبال، نظراً لعوامل الامتحانات المدرسية والجامعية وحلول شهر رمضان في أواسط يونيو... ولم تتمكن هذه الأفلام من تحقيق إيراد يزيد على مليون جنيه مصري. mهناك أفلام تمكنت من تحقيق إيرادات جيدة هذا الموسم مثل فيلم «كابتن مصر» من بطولة محمد إمام، حيث حقق إيرادات قدرها 18 مليون جنيه بعد ثمانية أسابيع من العرض. أيضاً، حقق فيلم «زنقة الستات» 17 مليون جنيه خلال هذا الموسم. أنتجت أفلام متنوعة الموضوعات والقضايا خلال هذا الموسم، بعضها بلغت تكاليفه أكثر من خمسة ملايين جنيه، إلا أن إيراداتها كانت دون المليون جنيه... ولابد أن يراجع المنتجون والمخرجون عملية الإنتاج وعمليات التوزيع وقضايا الأفلام لكي يمكن لأفلامهم أن تحظى بالجدوى وتؤدي العائد الملائم. ولابد أن نأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية والسياسية وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على السينما المصرية.
ويظل الأمل قائماً لإمكانات التطور في السينما المصرية رغم المصاعب التي تواجهها في بيئة اقتصادية صعبة. وفي مصر قضايا اجتماعية وحياتية مهمة يمكن أن تطرح سينمائياً وباقتدار، كذلك هناك عديد من الروايات الجديدة التي تطرَّقت إلى الواقع المصري المعاصر، يمكن أن تتحول إلى أفلام سينمائية، مثلما تم تحويل روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وإبراهيم غراب وفتحي غانم وطه حسين ويوسف إدريس، ومنها «بداية ونهاية» و«اللص والكلاب» و«ميرامار» و«في بيتنا رجل» و«الحرام» و«دعاء الكروان»، وغيرها من أعمال أدبية خالدة.
وإذا كان الاقتصاد المصري يمر بمصاعب في الوقت الراهن، وهناك آمال بتمكن الإدارة المصرية من تجاوز هذه المصاعــب، فمن المأمول أن تعالج مصاعب السينما المصرية وتذلل العقبات التي تواجهــــها. وبتقديري هناك إمكانات لتأسيس شركات إنتاج مصرية وخليجية تتولى عمليات الإنتاج على أُسس اقتصادية مناسبة خلال السنوات المقبلة، ويمكن لصناع السينما المصريين أن يتولوا إقناع أطراف خليجية أساسية بولوج هذا النشاط الحيوي ■