كيف تؤثر الرقمية في الإبداع الأدبي؟

كيف تؤثر الرقمية في الإبداع الأدبي؟

تمكن‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬نيتشه‭ ‬عام‭ ‬1882‭ ‬من‭ ‬اختراع‭ ‬آلة‭ ‬كاتبة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجاوز‭ ‬صعوباته‭ ‬البصرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعانيها،‭ ‬وقد‭ ‬مكنته‭ ‬هذه‭ ‬الآلة‭ ‬فعلاً‭ ‬من‭ ‬تجويد‭ ‬خط‭ ‬كتابته‭ ‬التي‭ ‬تدهورت‭ ‬بسبب‭ ‬كثرة‭ ‬تركيز‭ ‬نظره‭ ‬على‭ ‬بياض‭ ‬الصفحة‭ ‬الورقية‭ . ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاختراع‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أسهم‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬واعٍ‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬قصد‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬نيتشه‭ ‬وتغيير‭  ‬نمطه‭ ‬الكتابي‭ ‬حسب‭ ‬رأي‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الفلاسفة‭ ‬النقاد‭.‬

إن‭ ‬كتابات‭ ‬نيتشه‭ ‬النثرية‭ ‬ذات‭ ‬الخصوصية‭ ‬المتفردة‭ ‬صارت‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الاختراع‭ ‬أكثر‭ ‬إيجازاً،‭ ‬وتشبه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬رسائل‭ ‬البرقيات‭ ‬التلغرافية‭ ‬الموجزة،‭ ‬ويضيف‭ ‬هذا‭ ‬الناقد‭ ‬الفلسفي‭ ‬أن‭ ‬استعمال‭ ‬الآلة‭ ‬الكاتبة‭ ‬ساعده‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬خطاب‭ ‬نيتشوي‭ ‬ذي‭ ‬رؤية‭ ‬وملمح‭ ‬جديدين‭.‬

وخلاصة‭ ‬هذا‭ ‬المثال‭ ‬المتميز‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬آلة‭ ‬كاتبة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مظهر‭ ‬وجودها‭ ‬المحايد‭ ‬واستقلالها‭ ‬التام‭ ‬عن‭ ‬المادة‭ ‬النصية‭ ‬التي‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬خلقها‭ ‬فإنها‭ ‬ــ‭ ‬الآلة‭ ‬ــ‭ ‬تمارس‭ ‬بشكل‭ ‬خفي‭ ‬تأثيرها‭ ‬المباشر‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬بل‭ ‬ومحتوى‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬أيضاً‭... ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬قد‭ ‬أحدثت‭ ‬تحولاً‭ ‬جلياً‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الفلسفة‭ ‬الـ«نيتشوية‮»‬‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬الجدلية‭ ‬بين‭ ‬الفن‭ ‬وأسانيده‭ ‬تستحق‭ ‬منا‭ ‬اليوم‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬مساءلتها‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬بات‭ ‬فيه‭ ‬الكتاب‭ ‬ينعطف‭ - ‬بلا‭ ‬رجعة‭ - ‬نحو‭ ‬مستقبل‭ ‬الرقمية‭ ‬بامتياز‭.‬

ومنذ‭ ‬بداية‭ ‬سنة‭ ‬2000‭ ‬صار‭ ‬هناك‭ ‬تآصر‭ ‬بين‭ ‬الكتاب‭ ‬المطبوع‭ ‬والكتاب‭ ‬الرقمي‭ ‬الذي‭ ‬يسمى‭ ‬كذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الإيبوك‭ ‬e‭-‬book‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬اختراعه‭ ‬بفضل‭ ‬التزاوج‭ ‬بين‭ ‬اختراعين‭ ‬تقنيين‭ ‬مهمين‭ ‬هما‭: ‬المعلوميات‭ ‬التي‭ ‬أتاحت‭ ‬إمكانية‭ ‬القراءة‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬الحاسوب‭ ‬والعنصر‭ ‬الثاني‭ ‬يتعلق‭ ‬بالإنترنت‭.‬

هذا‭ ‬الاختراع‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬الذي‭ ‬دشن‭ ‬سنة‭ ‬1998،‭ ‬حيث‭ ‬اخترع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬جاك‭ ‬أتالي‭ ‬Jacques‭ ‬Attali‭ ‬و«إيـــــريك‭ ‬أورسيـــــنا‭ ‬Erik‭ ‬Orsenna‮»‬‭ ‬الـ«سيبوك‭ ‬Cybook‮»‬‭ ‬كأول‭ ‬جهاز‭ ‬خاص‭ ‬بقراءة‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يلق‭ ‬وقتئذ‭ ‬رواجاً‭ ‬تجارياً‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬متوقعاً‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬انتشار‭ ‬شبكة‭ ‬الويب‭ ‬web‭ ‬وخصوصاً‭ ‬الويب‭ ‬في‭ ‬نسخته‭ ‬الثانية‭ ‬web2.0‭ ‬التي‭ ‬أغنت‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬بفضل‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬استفاد‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬من‭ ‬تجويد‭ ‬تقني‭ ‬وترويج‭ ‬تجاري‭ ‬لافت‭ ‬للنظر‭. ‬

إن‭ ‬تدشين‭ ‬هذا‭ ‬القطاع‭ ‬الجديد‭ ‬الواعد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الكتب‭ ‬الإلكترونية‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الرهانات‭. ‬

بداية،‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بـ«الكتاب‮»‬‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬متداول‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬وعلى‭ ‬رفوف‭ ‬مكتباتنا،‭ ‬إذ‭ ‬صار‭ ‬يفقد‭ ‬بعض‭ ‬خاصياته‭ ‬الورقية‭ ‬مثل‭ ‬الرائحة‭ ‬والملمس‭ ‬وحركة‭ ‬تقليب‭ ‬الصفحات،‭ ‬ثم‭ ‬خاصية‭ ‬ثانية‭ ‬تتعلق‭ ‬باستغناء‭ ‬القارئ‭ ‬عن‭ ‬فضاءات‭ ‬التخزين‭ ‬والاعتماد‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬وسيط‭ ‬رقمــــي‭ ‬متفرد‭ ‬يحمل‭ ‬هوية‭ ‬الكتاب‭ ‬فــي‭ ‬مفهــــومه‭ ‬العام،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬مساءلة،‭ ‬باعتباره‭ ‬عملاً‭ ‬فكرياً،‭ ‬وباعتباره‭ ‬أيضاً‭ ‬سنداً‭ ‬وكتاباً‭ ‬إلكترونياً‭ ‬يوفر‭ ‬إمكانية‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬مكونات‭ ‬النص‭ ‬وبنياته،‭ ‬وأيضاً‭ ‬في‭ ‬تشعباته‭ ‬وربطه‭ ‬بشبكة‭ ‬الويب‭. ‬

وكما‭ ‬هو‭ ‬معلوم،‭ ‬ففي‭ ‬سلسلة‭ ‬صناعة‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬يقدم‭ ‬المؤلف‭ ‬مخطوطته‭ ‬للناشر‭ ‬الذي‭ ‬يعرضها‭ ‬على‭ ‬لجنة‭ ‬الانتقاء،‭ ‬فالتصحيح،‭ ‬ثم‭ ‬المعالجة،‭ ‬وأخيراً‭ ‬إعداد‭ ‬الصفحات‭... ‬وبعد‭ ‬إرساله‭ ‬إلى‭ ‬المطبعة،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬مصمم‭ ‬الغلاف‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬الناشرالذي‭ ‬يحدد‭ ‬شروط‭ ‬النشر‭ ‬والتوزيع،‭ ‬سواء‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمكتبات‭ ‬أوالأسواق‭ ‬التجارية‭ ‬الكبرى‭... ‬أما‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬المكتبات‭ ‬فإن‭ ‬مهمتها‭ ‬تبقى‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬التقليدي‭ ‬تنحصر‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬السلامة‭ ‬المادية‭ ‬والفكرية‭ ‬للكتاب‭ ‬والحرص‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬الرقي‭ ‬بعلاقته‭ ‬مع‭ ‬عموم‭ ‬القراء‭.‬

ويأتي‭ ‬اليوم‭ ‬دور‭ ‬السلسلة‭ ‬الرقمية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بفاعلين‭ ‬جدد،‭ ‬كما‭ ‬وضعت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الفاعلين‭ ‬الورقيين‭ ‬القدامى‭ ‬موضع‭ ‬تساؤل‭ ‬محرج‭ ‬ومهم‭ ‬جداً‭. ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬المتدخلين‭ ‬الجدد‭ ‬يوجد‭ ‬مهندسو‭ ‬أسانيد‭ ‬القراءة‭ ‬الرقمية‭ ‬وصناع‭ ‬حواملها‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وصنّاع‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬وموزعو‭ ‬الكتب‭ ‬الإلكترونية‭.‬

هؤلاء‭ ‬الفاعلون‭ ‬الجدد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صناعة‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬ونشره‭ ‬وضعوا‭ ‬صناع‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬لا‭ ‬يحسدون‭ ‬عليه،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬مهني‭ ‬المطابع‭ ‬والناشرون‭ ‬الذين‭ ‬باتوا‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬موسوم‭ ‬بإعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬جديدة‭ ‬لبنياتهم‭ ‬التحتية‭ ‬الصناعية،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬المكتبات‭ ‬الورقية‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬من‭ ‬جهتها‭ ‬تعيش‭ ‬تنافسية‭ ‬شرسة‭ ‬مع‭ ‬المكتبات‭ ‬الرقمية‭ ‬المجانية‭ ‬التي‭ ‬تضع‭ ‬رهن‭ ‬إشارة‭ ‬القراء‭ ‬الشبكيين‭ ‬الكتب‭ ‬والمؤلفات‭ ‬المجانية‭ ‬وكتب‭ ‬العلوم‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬لأي‭ ‬قانون‭ ‬من‭ ‬قوانين‭ ‬حقوق‭ ‬النشر‭.‬

وأفرزت‭ ‬صناعة‭ ‬الكتاب‭ ‬الرقمي‭ ‬تحولاً‭ ‬يتعلق‭ ‬بفعل‭ ‬القراءة،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬عاداتها‭ ‬وزمنها‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬ممارستها‭ ‬الفعلية‭.‬

فنحن‭ ‬لا‭ ‬نمارس‭ ‬القراءة‭ ‬بالكيفية‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬مثلما‭ ‬نقرأ‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬الإلكترونية‭. ‬ويرى‭ ‬نيقولا‭ ‬كار‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬بعض‭ ‬الجوانب‭ ‬السلبية‭ ‬مثل‭ ‬فقدان‭ ‬التركيز‭ ‬والزيغ‭ ‬اللاإرادي‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬الخطية‭ ‬العادية‭ ‬بسبب‭ ‬التيه‭ ‬والضياع‭ ‬في‭ ‬تشعبات‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬وروابطها‭ ‬المغرية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الإبحار‭ ‬الهادف‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬النص،‭ ‬ويقترح‭ ‬عالم‭ ‬النفــــــس‭ ‬ماريان‭ ‬وولف‭ ‬تفسيراً‭ ‬آخر‭ ‬مرتبطاً‭ ‬أساساً‭ ‬بالخلايا‭ ‬الدماغية‭.‬‭ ‬

فانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬دورتنا‭ ‬البيولوجية‭ ‬الدماغية‭ ‬قابلة‭ ‬للتطويع‭ ‬والتكييف‭ ‬بشكل‭ ‬مرن‭ ‬وطبيعي‭ ‬في‭ ‬تعاطيها‭ ‬مع‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الحديثة،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬يوضح‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬جدال‭ ‬فيه‭ ‬التأثير‭ ‬السلبي‭ ‬للقراءة‭ ‬الشبكية‭ ‬على‭ ‬قدراتنا‭ ‬القرائية‭ ‬العميقة‭ ‬والمفيدة،‭ ‬وأيضاً‭ ‬على‭ ‬مســـــتوى‭ ‬منظـــومة‭ ‬تفكيرنا‭. ‬إن‭ ‬عاداتنا‭ ‬القرائية‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬التحول‭ ‬الحتمي‭ ‬بسبب‭ ‬انزياحها‭ ‬عن‭ ‬الخطية‭ ‬الورقية‭ ‬ونزوعها‭ ‬إلى‭ ‬تفضيل‭ ‬الإبحار‭ ‬الشبكي‭ ‬المفتوح‭ ‬على‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬احتمالات‭ ‬القراءة‭ ‬ومصادر‭ ‬وحدة‭ ‬الموضوع‭ ‬المتعددة‭.‬

وعن‭ ‬تأثير‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬على‭ ‬عاداتنا‭ ‬القرائية،‭ ‬والذي‭ ‬يهمنا‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المبحث،‭ ‬فإنه‭ ‬يرتبط‭ ‬بالجانب‭ ‬الجمالي‭ ‬عند‭ ‬المؤلف‭ ‬بحيث‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬لا‭ ‬نقرأ‭ ‬بالكيفية‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الأسانيد‭ ‬والحوامل‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬فإن‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬جانبها‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬تحدثنا‭ ‬عنه‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬حول‭ ‬آلة‭ ‬نيتشه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتغير‭ ‬بسبب‭ ‬التحولات‭ ‬التقنية‭ ‬التي‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬الكتاب‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭.‬

لكن‭ ‬ماذا‭ ‬نعني‭ ‬بالكتابة‭ ‬أولاً؟‭ ‬إنها‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حركة‭ ‬فيزيقية‭ ‬نمارسها‭ ‬بهدف‭ ‬تسطير‭ ‬حروف‭ ‬ثم‭ ‬كلمات،‭ ‬وأخيراً‭ ‬جمل‭ ‬وفقرات‭ ‬بفضل‭ ‬عملية‭ ‬الرقن‭ ‬على‭ ‬أزرار‭ ‬لوحة‭ ‬المفاتيح‭ ‬keyboard‭.‬

لقد‭ ‬انتهى‭ ‬زمن‭ ‬التسويد‭ ‬والمسودات،‭ ‬وبانتهائه‭ ‬اختفت‭ ‬بعض‭ ‬الطقوس‭ ‬المتعلقة‭ ‬بعملية‭ ‬التشفير‭ ‬والتكويد،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬طفت‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬مخاطر‭ ‬أخرى،‭ ‬يضيف‭ ‬نيقولا‭ ‬بون‭: ‬لقد‭ ‬تبدى‭ ‬الخطر‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬لأننا‭ ‬كنا‭ ‬نكتب‭ ‬تحت‭ ‬قواعد‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬تصحيحه‭ ‬بعد‭ ‬صدوره‭ ‬في‭ ‬المكتبات،‭ ‬لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬قوية‭ ‬تتعلق‭ ‬بطفرة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬الإبداعية‭ ‬المتاحة‭ ‬للكاتب،‭ ‬منها‭ ‬شساعة‭ ‬المساحة‭ ‬الرقمية،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬محدوديتها‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬محدودية‭ ‬الورق‭ ‬والتصحيح‭ ‬الأوتوماتيكي‭ ‬الفوري‭ ‬للأخطاء‭ ‬الإملائية‭ ‬والنحوية‭ ‬والتركيبية،‭ ‬وسهولة‭ ‬تعديل‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تشطيبات‭ ‬وإنجاز‭ ‬عملية‭ ‬نسخ‭ ‬لصق‭ (‬copy‭-‬paste‭)‬،‭ ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬هناك‭ ‬عادات‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬نعهدها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ففي‭ ‬الماضي‭ ‬كنا‭ ‬نحمل‭ ‬معنا‭ ‬كراساتنا‭ ‬ومخطوطاتنا‭ ‬الورقية،‭ ‬غير‭ ‬أننا‭ ‬اليوم‭ ‬بمجرد‭ ‬ما‭ ‬نفرغ‭ ‬من‭ ‬عملنا‭ ‬الأدبي‭ ‬بعد‭ ‬مراجعته‭ ‬النهائية‭ ‬نسجله‭ ‬أو‭ ‬نحفظه‭ ‬في‭ ‬قرص‭ ‬أو‭ ‬مفتاح‭ ‬التخزين‭ (‬يو‭ ‬إس‭ ‬بي‭) ‬USB‭) ‬Universal‭ ‬Serial‭ ‬Bus‭)‬،‭ ‬وأينما‭ ‬تنقلنا‭ ‬أو‭ ‬سافرنا‭ ‬ترافقنا‭ ‬كتاباتنا‭ ‬وإبداعاتنا‭ ‬ووثائقنا‭ ‬المعروفة‭ ‬أو‭ ‬السرية،‭ ‬وباختصار‭ ‬شديد‭ ‬فإن‭ ‬تغيير‭ ‬السند‭ ‬حطم‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الأنماط‭ ‬الكتابية‭ ‬التقليدية‭ ‬وخلق‭ ‬أخرى‭ ‬جديدة‭.‬

ومما‭ ‬لاشك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬رقمنة‭ ‬الكتب،‭ ‬تشجِّع‭ ‬على‭ ‬اعتماد‭ ‬الأشكال‭ ‬الكتابية‭ ‬القصيرة‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬الميكروروائية‭ ‬micro‭ -‬roman‭ ‬والرقمنة‭ ‬أيضاً‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬ريتم‭ ‬وإيقاع‭ ‬النشر‭ ‬الذي‭ ‬يصير‭ ‬بفضلها‭ ‬نشراً‭ ‬جاهزاً‭ ‬عبر‭ ‬حلقات‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬الرواية‭ ‬المسلسلة‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬مجدها‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وأحياناً‭ ‬نشرها‭ ‬على‭ ‬الهواتف‭ ‬المحمولة‭ ‬فقط‭.‬

والكتابة‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬كيف‭ ‬نكتب‭ ‬فحسب‭ ‬أو‭ ‬ماذا‭ ‬نكتب،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬أيضاً‭. ‬والسؤال‭ ‬المطروح‭ ‬هو‭ ‬المتعلق‭ ‬بالكاتب‭ ‬نفسه،‭ ‬هل‭ ‬سيظل‭ ‬المؤلف‭ ‬هو‭ ‬الكاتب‭ ‬المفرد‭ ‬والوحيد‭ ‬للرواية،‭ ‬أم‭ ‬إن‭ ‬الربط‭ ‬الشبكي‭ ‬سوف‭ ‬يمنحه‭ ‬إمكانية‭ ‬الإبداع‭ ‬التفاعلي‭ ‬الذي‭ ‬سوف‭ ‬يؤدي‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬تحرير‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة‭ ‬الفردية‭ ‬من‭ ‬فاعلية‭ ‬الكتاب؟‭ ‬فالقارئ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بالأمس‭ ‬القريب‭ ‬متلقيا‭ ‬‮«‬سلبيا‮»‬‭ ‬صار‭ ‬اليوم‭ ‬بفضل‭ ‬هذه‭ ‬التفاعلية‭ (‬interactivity‭) ‬الرقمية‭ ‬طرفاً‭ ‬نشيطاً‭ ‬ومهماً‭ ‬وكاتباً‭ ‬وقارئاً‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الإعداد‭ ‬البنائي‭ ‬للنص‭ ‬السردي،‭ ‬خلافاً‭ ‬لما‭ ‬دأبت‭ ‬عليه‭ ‬العلاقات‭ ‬التقليدية‭. 

إذن‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬الموضوعية‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬اليوم‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مفهوم‭ ‬المؤلف‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬بهذا‭ ‬التحول‭ ‬وصار‭ ‬فضفاضاً‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬اعتباراً‭ ‬لهذا‭ ‬الشكل‭ ‬الكتابي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المفتوح‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬مصاهرة‭ ‬بين‭ ‬دمقرطة‭ ‬النشر‭ ‬الذاتي‭ ‬وإمكانات‭ ‬الإنترنت؟

والإشكال‭ ‬الحقيقي‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬فقط‭ ‬بسؤال‭ ‬‮«‬من‭ ‬هو‭ ‬المؤلف‭ ‬الرقمي‮»‬‭ ‬وإنما‭ ‬بات‭ ‬السؤال‭ ‬نفسه‭ ‬ينسحب‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬الناشر‭ ‬‮«‬من‭ ‬هو‭ ‬الناشر‮»‬‭ ‬وعلى‭ ‬المكانة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬يحتلها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإخراج‭ ‬الفني‭ ‬والجمالي‭ ‬للكتاب‭.‬

لقد‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬واجب‭ ‬الناشرين‭ ‬التقليديين‭ ‬الإسراع‭ ‬اليوم‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬إلى‭ ‬التأهيل‭ ‬المهني‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬الرقمية‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬المؤلفين‭ ‬القيام‭ ‬بأدوارهم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موكولة‭ ‬إليهم‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬تم‭ ‬إحصاء‭ ‬زهاء‭ ‬25‭ ‬ألف‭ ‬كتاب‭ ‬إلكتروني‭ ‬نشرها‭ ‬المؤلفون‭ ‬أنفسهم‭ ‬نشراً‭ ‬فردياً‭ ‬autoédités‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬مجموع‭ ‬ما‭ ‬أنتجه‭ ‬الناشرون‭ ‬الأمريكيون‭.‬

وعليه‭ ‬فإن‭ ‬إعادة‭ ‬تحديد‭ ‬مفهوم‭ ‬المؤلف‭ ‬الرقمي‭ ‬تطرح‭ ‬إشكالين‭ ‬مهمين‭: ‬الإشكال‭ ‬الأول‭ ‬يرتبط‭ ‬بالعلاقة‭ ‬بين‭ ‬المؤلف‭ ‬والقارئ،‭ ‬ثم‭ ‬بين‭ ‬المؤلف‭ ‬والناشر‭. ‬ومن‭ ‬البديهي‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬التطور‭ ‬الإلكتروني‭ ‬قد‭ ‬ساعد‭ ‬كثــــيرين‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬النشر‭ ‬الذاتي‭ ‬الفردي‭ ‬فإنه‭ ‬أيضــــاً‭ ‬أسهــــم‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬العلاقات‭ ‬وإعادة‭ ‬توزيـــــع‭ ‬الأدوار‭ ‬بيـــــن‭ ‬الأطراف‭ ‬الأساسية‭ ‬الفاعلة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭.‬

عموماً‭ ‬يبقى‭ ‬سؤالنا‭ ‬الإجمالي‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬استطاع‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬أن‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي؟‭ ‬

وسوف‭ ‬نبحث‭ ‬في‭ ‬تداعيات‭ ‬هذا‭ ‬الاختراع‭ ‬التكنولوجي‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الجمالي‭ ‬و«الأستطيقي‮»‬‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬مستويات‭: ‬أولاً‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية‭ ‬والمحتوى‭ ‬والعلاقات‭ ‬التي‭ ‬يوظفها‭ ‬المؤلف‭ ‬مع‭ ‬الأطراف‭ ‬الأخرى‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالكتاب‭ (‬القارئ‭ ‬ـ‭ ‬الناشر‭...)‬،‭ ‬ولتحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬علينا‭ ‬بداية‭ ‬تجنب‭ ‬عائقين‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬موقفين‭ ‬هما‭: ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أولى‭ ‬التخوف‭ ‬المبطن‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬جميع‭ ‬التحولات‭ ‬الضرورية‭ ‬للكتاب،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬الموقف‭ ‬المتفائل‭ ‬بعالم‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬والاتصال،‭ ‬والذي‭ ‬يجتهد‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬الحلول‭ ‬القمينة‭ ‬والجديرة‭ ‬بعملية‭ ‬الارتقاء‭ ‬بالكتاب‭ ‬والفاعلين‭ ‬الأساسيين‭ ‬في‭ ‬صناعته‭.‬

 

تحولات‭ ‬الكتاب‭ (‬البضاعة‭)‬

ما‭ ‬هو‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني؟‭ ‬وهل‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬كتاب‭ ‬أو‭ ‬شيء‭ ‬آخر؟‭ ‬إن‭ ‬تحويل‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬مادي‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬افتراضي‭ ‬رقمي‭ ‬يعتبر‭ ‬اختراعاً‭ ‬مستجداً،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬بشيء‭ ‬ملتبس‭ ‬وغامض،‭ ‬وإن‭ ‬شئنا‭ ‬أن‭ ‬نقول،‭ ‬إنه‭ ‬عصي‭ ‬على‭ ‬التحديد‭ ‬والتعريف‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭.‬

غموض‭ ‬والتباس‭ ‬مفهوم‭ ‬الكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬جعله‭ ‬لا‭ ‬يحظى‭ ‬بطابع‭ ‬المشروعية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فرض‭ ‬وجوده،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬تجاهل‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬تهميشاً‭ ‬مقصوداً‭ ‬من‭ ‬عاداتـــنا‭ ‬القرائية‭ ‬المألوفة‭.‬

فإلى‭ ‬حدود‭ ‬يناير‭ ‬2012‭ ‬بلغت‭ ‬الضريبة‭ ‬على‭ ‬القيمة‭ ‬المضافة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬19.6‭ ‬في‭ ‬المائة،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يستفد‭ ‬من‭ ‬التخفيض‭ ‬الضريبي،‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬البضاعات‭ ‬والمنتجات‭ ‬المطبعية‭ ‬والمكتبية‭ ‬الأخرى‭. ‬والكتاب‭ ‬الإلكتروني‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬الاعتراف‭ ‬به‭ ‬ككتاب‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬دوره‭ ‬عن‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬إلا‭ ‬قبل‭ ‬شهور‭ ‬قليلة،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬التعامل‭ ‬والتعاطي‭ ‬معهما‭ ‬معاً‭ ‬على‭ ‬القدر‭  ‬نفسه‭ ‬والأهمية‭ ‬والفاعلية‭.‬

يتعين‭ ‬علينا‭ ‬إذن‭ ‬دراسة‭ ‬المتغيرات‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ (‬البضاعة‭) ‬كما‭ ‬نعرفه‭ ‬ويمكن‭ ‬إجمالها‭ ‬فــــي‭ ‬أربــــع‭ ‬نقاط‭: ‬1‭ ‬‭- ‬أسانيد‭ ‬القراءة‭ ‬2‭ -‬‭ ‬أشكال‭ ‬القراءة‭ ‬3‭ ‬‭- ‬منصات‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬الكتاب‭ ‬4‭ ‬‭- ‬المكونات‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تبتدعها‭ ‬الرقمية‭.‬

إن‭ ‬فعل‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬كان‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬يعني‭ ‬اقتناء‭ ‬شــيء‭ ‬مطبوع،‭ ‬حيث‭ ‬العناصر‭ ‬الوحيدة‭ ‬القابلة‭ ‬للتعبير‭ ‬فيه‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالإعداد‭ ‬والإخراج‭ ‬الورقي‭ ‬وفق‭ ‬منهجيات‭ ‬النشر‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬دار‭ ‬للنشــــر‭ ‬على‭ ‬حدة‭.‬

والقارئ‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهــــن‭ ‬يجــد‭ ‬نفسه‭ ‬أمام‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأسانيد،‭ ‬فبالإضافة‭ ‬إلــى‭ ‬الكتاب‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬المطبوع‭ ‬ورقياً‭ ‬هناك‭ ‬الملفات‭ ‬files‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬تحميلها‭ ‬وقراءتها‭ ‬على‭ ‬حامل‭ ‬خاص‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬الحاسوب‭ ‬أو‭ ‬جهاز‭ ‬الهاتف‭ ‬الذكي‭ ‬Smartphone‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬لوحة‭ ‬إلكترونية‭ ‬قارئة‭.‬

أن‭ ‬يبقى‭ ‬وفياً‭ ‬للكتاب‭ ‬الورقي،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المبدأ‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬يؤسس‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬السند‭ ‬الإلكتروني‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬يملك‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الاختيارات‭ ‬لعرض‭ ‬النص‭ ‬المرقون،‭ ‬فالجهاز‭ ‬القارئ‭ ‬يروم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬تقليد‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭.‬

نظرياً‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬فرق‭ ‬طبيعي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬القراءة‭ ‬بين‭ ‬نص‭ ‬مطبوع‭ ‬وآخر‭ ‬محمل‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬للقراءة‭.‬

وهكذا‭ ‬استطاعت‭ ‬أشهر‭ ‬ماركات‭ ‬القارئات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬مقام‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭. ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬وزن‭ ‬وحجم‭ ‬هذه‭ ‬القارئات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬عن‭ ‬كتـــــاب‭ ‬الجــــيب‭ ‬pocket‭ ‬book،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬شـــاشاتها‭ ‬وحبرها‭ ‬الإلكـــــتروني‭ ‬لا‭ ‬يستهلك‭ ‬سوى‭ ‬قدر‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الطاقة،‭ ‬مما‭ ‬يتيح‭ ‬لهذه‭ ‬القارئات‭ ‬استقلالية‭ ‬أوسع‭ ‬عن‭ ‬الموصل‭ ‬الكهربائي‭ ‬المنزلي‭ ‬أو‭ ‬المكاني‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭.‬

يحقق‭ ‬أيضاً‭ ‬جهاز‭ ‬القارئ‭ ‬الرقمي‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬والراحة‭ ‬التي‭ ‬يحققها‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬طرائق‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬يعرضها،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬الذكي‭ ‬أو‭ ‬الألـــــواح‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬هي‭ ‬طرائق‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتــــنوعة‭ ‬نستطــــيع‭ ‬تطبيقها‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬الوضعيات‭... ‬وبصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬خصوصيات‭ ‬الورق‭ ‬مثل‭ ‬الرائحـــة‭ ‬وحركة‭ ‬اليد‭ ‬التي‭ ‬تقلب‭ ‬الصفحات،‭ ‬فإن‭ ‬جهاز‭ ‬القارئ‭ ‬الإلكتروني‭ ‬يتجاوز‭ ‬فــــي‭ ‬مستوى‭ ‬آخر‭ ‬هذه‭ ‬التقاليد‭ ‬بفضل‭ ‬مستجدات‭ ‬عــــادات‭ ‬جديـــــدة‭ ‬مثل‭ ‬النقر‭ ‬أو‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬الروابـــط‭ ‬والقدرة‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬التخزين،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬النص‭ ‬الســردي‭ ‬الرقمي‭ ‬يبدو‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للنص‭ ‬الورقي‭.‬

أخيراً‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬الضاغط‭ ‬والمحوري‭ ‬قائماً‭: ‬أي‭ ‬مستقبل‭ ‬مبهم‭ ‬يلاحق‭ ‬الكتب‭ ‬الورقية‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬الرقمي‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬كل‭ ‬وظائف‭ ‬الكتابة‭ ‬كلما‭ ‬طعمناه‭ ‬بتطبيقات‭ ‬تقنية‭ ‬وعملية‭ ‬جديدة؟‭ ‬هل‭ ‬سيختفي‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬استنفد‭ ‬دوره‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬أداه‭ ‬منذ‭ ‬خمسة‭ ‬قرون،‭ ‬ليفسح‭ ‬المجال‭ ‬للدور‭ ‬القادم‭ ‬للكتاب‭ ‬الإلكتروني‭.‬

باستطاعة‭ ‬الرقمية‭ ‬أن‭ ‬تناوش‭ ‬وتهدد‭ ‬الطباعة‭ ‬الورقية،‭ ‬لكنها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬لن‭ ‬تلغيها‭ ‬أو‭ ‬تقتلها‭ ‬بصفة‭ ‬نهائية،‭ ‬لأن‭ ‬الورق‭ ‬سيبقى‭ ‬حاضراً‭ ‬بيننا،‭ ‬وسيظل‭ ‬كذلك‭ ‬شئنا‭ ‬أم‭ ‬أبينا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مناولاتنا‭ ‬وتعاملاتنا‭ ‬اليومية‭ ‬بشكل‭ ‬يستحيل‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬اختراع‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬يعوضه‭ ‬أو‭ ‬يقوضه‭. ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬سيتصاعد‭ ‬نشر‭ ‬الكتب‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وإنتاجها،‭ ‬فإن‭ ‬مجموع‭ ‬الكتب‭ ‬المهمة‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬رفوف‭ ‬مكتبات‭ ‬بيوتاتنا‭ ‬سوف‭ ‬يحظى‭ ‬منا‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬بالمزيد‭ ‬من‭ ‬الاهــــتمام‭ ‬والرعاية‭ ‬والحميمية‭ ‬