من هم السكان الأصليون للأمريكتين؟ فرضية السولوتريانز
النظرية الأكثر تقبلاً في الأوساط العلمية الآن هي التي تقول إن أول البشر وصولاً إلى القارة الأمريكية قبل حوالي 13 ألف سنة, وعبروا إلى هناك، سالكين امتداد اليابسة بين أقصى الشمال الآسيوي (روسيا الحالية) وبين ألاسكا، ومن ثم إلى الجنوب خلال الأراضي الكندية... لا، لم أكن مخطئاً عندما قلت امتداد اليابسة بين أقصى الشمال الآسيوي وألاسكا، فصحيح أن هناك فاصلاً بحرياً بينهما اليوم، ولكنه لم يكن كذلك قبل انحسار آخر مد جليدي قبل 12 إلى 15 ألف سنة عندما كانت كميات مهولة من مياه البحار والمحيطات مخزنة على شكل كتل جليدية ومتجمعة حول الدائرتين القطبيتين، وعليه، فقد كان مستوى سطح البحار أقل منه اليوم.
السؤال هو: لماذا لم يتم لهؤلاء التوغل جنوباً نحو القارة الأمريكية قبل هذا التاريخ مادام هذا المعبر من اليابسة كان موجوداً طوال المد الجليدي الأخير الذي بدأ قبل حوالي 85 ألف سنة، خصوصاً أنهم قد وصلوا إلى التخوم قبل ذلك بكثير؟
جواب ذلك أن السبب هو ذاته الذي منع الإنسان الحديث Homo Sapiens من الوصول إلى أوربا قبل 40 ألف سنة، في حين تمكن من العبور حتى أستراليا قبل 60 إلى 70 ألف سنة كما تقرر نظرية Out of Africa, أي صعوبة التوغل عبر جبال الجليد, وفي خصوص حديثنا هنا عن العبور إلى القارة الأمريكية فطبقات الجليد الضخمة والممتدة على عموم الأراضي الكندية كانت هي العائق.
يعزز من هذا المفهوم قول العلماء إنه في الفترة قبل 13 ألف سنة ومع بداية دفء الأرض تشكل معبر ضيق بين طبقات الجليد الكندية أمام القادمين من ألاسكا، مفسحاً الطريق أمام قطعان الرنة العابرة من الأراضي الروسية، وهو ما سمح للبشر الذين كانوا يمتهنون أسلوب الرعي القديم الذي يقوم على تتبع هجرة قطعان الرنة أينما ذهبت بالعبور وراءها.
وبعبور هذه المجموعة من الرعاة إلى ألاسكا، ومن ثم انتشارها جنوباً كان أول وجود بشري على أراضي القارة الأمريكية.
ولهذا السيناريو من المنطقية وعلى أساس ما هو ثابت من الدراسات العلمية كثير من التبرير والواقعية, لكن هل يصمد هذا القول عندما نتكلم عن أول البشر الذين وصلوا إلى القارة الأمريكية؟
صحيح أن طرح السيناريو كان مشفوعاً بالدراسات والإثباتات، ولكن لا يمكِّننا من الجزم بأن هؤلاء الرعاة هم أول من وصل للقارة الأمريكية، فقد تكون هناك طلائع بشرية استفادت من ظروف أخرى قد سبقتهم إلى هناك.
ومن المهم التوضيح أن كثيراً من العلماء يذهبون للقول إن السكان الأصليين للأمريكتين ليسوا عرقاً واحداً، بل هم عديد من الأعراق والطوائف. يستفيدون ذلك من عينات الـ DNA العشوائية التي أخذت للسكان الأصليين والتي أفادت بأن الغالبية العظمى من العينات هي لعرق الـ Mongoloid، أي أولئك الذين أتوا من الشمال عبر ألاسكا بعد انحسار الجليد، وهم من يطلق عليهم العلماء اسم الـ Clovis Culture وهو مصطلح يطلق على السكان الأصليين للقارة الأمريكية، وقد استخدم إثر العثور على مستوطنة تعود إلى 12 ألف سنة، في Clovis, New Mexico.
ولكن تبقى نسبة من هذه العينات، وإن كانت ضئيلة تشير لأعراق أخرى, وهذا يفتح مجالاً للطرح الذي يقول إن سكان القارة جاؤوا أولاً ضمن موجات متكررة وثانياً وهو الأهم أنهم وصلوا هناك من أكثر من وجهة.
لا ننسى أن امتداد رقعة القارة الأمريكية وإطلالتها على المحيطين الأطلسي والهادي، حيث تقترب من وصل الدائرتين القطبيتين يتيحان عشرات السيناريوهات الأخرى.
ولعل العثور على مجموعة من رؤوس الرماح مدفونة في ولاية فرجينيا الأمريكية يأتي لكي يشكل تحدياً لبقاء النظرية.
فلرؤوس الرماح هذه أهمية كبيرة عند علماء الأركيولوجي وأهميتها تكمن في تقنية صنعها.
فكما هو معروف لدى هؤلاء العلماء أن استخدام الرماح ذات الرؤوس الحجرية كان منتشراً بين كل البشر الأوائل، ومنذ أن تمكن إنسان الهايدلبرقينسيس Heidelbergensis قبل أقل قليلاً من 500 ألف سنة.
إنما كان الاختلاف في أسلوب صنع هذه الرماح وتطويرها، وتحديداً في الرأس الحجرية التي تكمن فيها الفاعلية.
بالعودة لمجموعة رؤوس الرماح وخصوصيتها، فقد لوحظ أن زمن دفنها يعود إلى حوالي 18 ألف سنة، وهي فترة كان من المفترض أن تخلو القارة الأمريكية فيها من البشر كما تقرره النظرية.
إلا أن للتقنية التي ميزت صناعة هذه الرؤوس أهمية لا تقل غرابة عن زمن وجودها هناك.
فعند دراسة تقنية الصنع لوحظ تشابهها مع التقنية المتبعة عند قبائل السولوتريانز Solutrians وهي قبائل كانت تقطن الجنوب الغربي لأوربا وتحديداً جنوب فرنسا وشبه قارة آيبيريا (إسبانيا والبرتغال) في الفترة بين 22 و17 ألف سنة مضت, وعلى هذا فقد تصدى العالمان Dennis J. Stanford وBruce Bradley في عام 1998 لطرح فرضية Solutrean hypothesis التي تقول إن الأوربيين كانوا أول من تمكن من الوصول إلى القارة الأمريكية.
وحقيقة فلهذه المعلومة مغزى قد يستشعر منه المتابع نزعة تميز بها الأوربيون بدأت في عصر النهضة وطغت على نتاجهم الثقافي في عصور التنوير، وآثارها لاتزال عالقة باستعلاء لدى بعض علمائهم ومثقفيهم اليوم، وهي في السعي الحثيث لنسب كل المنجزات الحضارية للعرق الأبيض، وهم يرون في الاستيطان الأول للقارة الأمريكية منجزاً حضارياً كبيراً.
لكننا وفي هذا البحث يجب أن ينصب اهتمامنا على الاستدلال بالعلم لا باستشعار النوايا والتمنيات، فلنعد لاستقصاء حقائق الفرضية لنرى كيفية توصلهم لبلورتها ابتداء من عبور تقنية صنع رؤوس الرماح هذه مسافة بعرض المحيط الأطلسي لتصل للشواطئ الشرقية للولايات المتحدة.
يقول طارحو الفرضية إن الزحف الجليدي الذي وصل ذروته قبل 20 ألف سنة جعل من المحيط الأطلسي رقعة متجمدة ممتدة من أقصى الشمال في التندرا وحتى جنوب أوربا, وهي حقيقة أقرها العلماء الذين ناقشوا طبيعة الزحف الجليدي وتطوره منذ أن بدأ قبل حوالي 85 ألف سنة وحتى انحساره نهاية البلايستوسين Pleistocene, والبشر في أوربا أثناء ذروة الزحف واجهوا مناخاً قارس البرودة وفقيراً بفرص الصيد، فلجأوا للجنوب الأوربي الأقل قسوة. وقبائل السولوتريانز لم يكونوا استثناء لذلك، فقد استوطنوا الجنوب الفرنسي وانتشروا حتى أقصى الجنوب الآيبيري.
وهناك حيث الشواطئ المطلة على الأطلسي وجدوا طرائد بحرية غنية باللحم، وخصوصاً الشحوم التي يستفيدون منها ليتقوا بها قساوة البرد وكوقود لإشعال النار. هذه الطرائد البحرية هي حيوان الفقمة الذي يعيش اليوم في القطبين وفي ألاسكا وغرينلاند ومناطق أخرى على الأرض تتميز بالبرودة القاسية, إلا أنها في تلك الفترة وسعت مروحة وجودها إلى حيث كانت تعيش قبائل السولوتريانز, ويستدل على ذلك العلماء بالرسوم التي سجلتها هذه القبائل في الكهوف التي قطنتها في الجنوب الفرنسي.
فالسولوتريانز، كما يقرر هؤلاء العلماء قد امتهنوا أسلوب الصيد نفسه الذي يتميز به شعب الإسكيمو حتى وقت قريب, أي البحث فوق قطع الجليد عن فوهات التنفس التي تلجأ إليها الفقمات وانتظارها حتى تخرج لأخذ النفس، ومن ثم اصطيادها برماح خاصة أعدت لهذا الغرض.
لكنهم ولكي يتمكنوا من ذلك يجب عليهم أن يتوغلوا إلى مسافات بعيدة في المحيط الذي كان متجمداً, وكانوا يبحرون بقوارب بدائية بمحاذاة رقعة الجليد الممتدة في المحيط ليتوقفوا مراراً فيصعدوا فوق الجليد بحثاً عن الفوهات, وهم يستعملون القوارب لسهولة التنقل عليها مقارنة بالمشي على رقعة الجليد، خصوصاً أن القوارب كانت توفر لهم أماناً أكثر من رقعة الجليد التي لا يؤمن تكسرها.
وكانت تواجههم أحياناً العواصف الثلجية العاتية، فيلجأون إلى ركوب الرقعة المتجمدة ويبقون عليها أياماً حتى تهدأ العواصف. وفي أثناء هذه العواصف قد تتشظى السطوح المتجمدة بسبب تيارات المحيط، فتتحرر عن أماكنها لتكون عرضة للتيارات التي عادة ما تأخذها نحو الغرب في رحلة قد تستمر بضعة أسابيع.
إشارة إلى أن هذه التيارات مازالت تفعل الشيء نفسه، وهناك كثير من الروايات التي سجلت لأناس أبحروا من غرب إفريقيا وتاهوا في الأطلسي ليجدوا أنفسهم بعد أسابيع عند الشواطئ الشرقية للقارة الأمريكية.
في هذه الرحلة يكون المصير شبه الحتمي للبشر هو الموت من الصقيع والجوع, ولكن وفي بعض السيناريوهات قد يكون لهذا المصير الحتمي شواذ. وشواذ هذا المصير هم الذين قدر لهم البقاء أحياء حتى وصلوا إلى شرق القارة الأمريكية، فنقلوا معهم تقنية صنع رؤوس الرماح التي تميزوا بها.
حقيقة لم تلق هذه الفرضية ذاك القبول المدوي في الأوساط العلمية، ويبقى احتضانها محصوراً في نخبة من العلماء الماضين في سعيهم لإثباتها, وهم يسوقون بالإضافة للسيناريو المذكور حقائق أركيولوجية وأخرى جينية.
في المجال الأركيولوجي، وهو علم يدرس حياة البشر الأوائل من خلال بقايا أدواتهم ومتروكاتهم، وجد العالم Chuck Holmes في سوان بوينت Swan Point بألاسكا مستوطنة قديمة تعود إلى 14 ألف سنة بعض اللقى والأدوات لأقوام يقول إنهم أول الموجات البشرية التي عبرت من آسيا، ويعلق على بقايا أدواتهم فيقول إنها تشبه تلك الأدوات التي استخدمها قاطنو سيبيريا قبل 20 ألف سنة، لكن تختلف عن أدوات Clovis culture كما أن التقنية المذكورة في صنع الرماح ليس لها وجود لديهم.
ما يقوله Chuck Holmes هو أن لاختلاف أسلوب صنع الرماح المعثور عليها في شمال القارة، في ذاك التاريخ عن رماح Clovis culture دلالة على أن هؤلاء المهاجرين لم يجلبوا معهم هذه التقنية, بل تعلموها هناك.
فالتشابه الكبير بين رؤوس رماح شعب كلوفيز ورماح السولوتريانز لا يترك مجالاً للفهم غير أن أحدهما قابل الآخر وتعلم منه التقنية، وأن معلومية أسبقية حيازة السولوتريانز للتقنية التي تعود لبضع آلاف من السنين تفترض أنهم أصحابها, هذا من جهة ومن جهة أخرى يستفيد العلماء أمثال Chuck من أماكن العثور على رؤوس الرماح لدى الشعبين أنهم قد التقوا هناك، وبالنتيجة فهذا دليل على وصول السولوتريانز إلى القارة الأمريكية وأنهم كانوا هناك قبل شعب الكلوفيز.
كانت تلك حجـــــج أصحاب الفرضية أركيولوجياً, أما جينياً فالأمر يبدو أكثر تعقيداً. فما يطرحونه على أنه دليل إثبات يجد فيه مناوئوهم دليل نفي.
فأكثر ما يعتمدون عليه هو تركيز سلالة Haplogroup X في عينات DNA الميتوكونديريا في منطقة الشمال الشرقي للولايات المتحدة.
يقولون إن هذه السلسلة الجينية لا توجد إلا في أوربا والشرق الأوسط، بالإضافة لما ذكرناه عن وجودها في الشمال الشرقي للولايات المتحدة, وشبه انتفاء وجودها في شمال وجنوب شرق آسيا، أي ضرورة مجيئها عبر هجرات قوقازية غير تلك الآتية من الشمال عبر ألاسكا.
ولكن يرد عليهم رافضو الطرح بالقول إن مستوى تركيز حضور هذه السلالة الأكبر إضافة للشمال الشرقي من الولايات المتحدة هو في منطقة الأناضول والشام، ويزداد ترددها بشكل لافت لدى طائفة الدروز. أما في عموم أوربا فتكرارها أقل بكثير، ما يضفي تساؤلات عدة في مشروعية الفرضية.
إلا أن هذا الطرح يزداد عرضة للتساؤل عندما يتناولون سلالة الـ Haplogroup R1 فمن المعروف لدى علماء الجينات أن هذه السلالة تزامن انتشارها في أوراسيا بعيد أوج الزحف الجليدي، أي منذ أقل من 20 ألف سنة, أي إن مهاجري الشمال كانوا حتماً قد اكتسبوها أثناء وجودهم في آسيا قبل العبور إلى الشمال الأمريكي بآلاف السنين.
كما أن احتمالية مجيء هذه السلالة مع بداية الاستعمار الأوربي لقارة أمريكا قبل 500 عام عن طريق المستعمرين أنفسهم وارد كما يقول المناوئون.
وسط رفض لا بأس به في الأوساط العلمية لهذه الفرضية لا يبدو أن للفرضية حظوظاً كبيرة في البقاء، خصوصاً مع قلة معتنقيها. إلا أن ما عهدناه من طبيعة طرح النقاشات العلمية الجديدة وانتقادها يملي علينا وجوب التصبر قبل البت في النتائج.
وحقيقة لا نستبعد ورود أخبار جديدة تفيد دعماً للفرضية, بل وتتحول يوماً ما لنظرية يتم البناء استناداً لمخرجاتها.
أكثر من ذلك, يجب ألا نتحرج من نقاش تصورات وسيناريوهات قد تبدو أكثر تطرفاً من هذه الفرضية, فكما ذكرنا آنفاً: إن امتداد رقعة القارة الأمريكية يتيح طرح سيناريوهات أخرى متعددة.
أقول هذا لأن هناك أطروحات وفرضيات أخرى كثيرة، وتتناول إحداها العثور على هيكل عظمي في البرازيل لامرأة وجد تشريحياً انتماءها لعرق الـ Australian Aborigine، وهم السكان الأصليون لأستراليا, وأكثر ما يلفت في أمر هذا الهيكل هو عمره الذي وجد أنه يعود إلى حوالي 30 ألف سنة.
كما نوقش وبقوة وصول البولونيزيين Polynesians إلى القارة الأمريكية، وهم سكان أوشيانيا أو المثلث البولونيزي لسواحل أمريكا الجنوبية.
فهؤلاء البولونيــزيون يــتـــــوزع وجــــودهــــم اليوم في مساحة شاسعــة من المحيط الباسيفيكي (الهادي) وبمنطــقة تشـــكل مثلثـــا يقــــع فــــي رأسه أرخبيل هاواي وفــي طرف قــــاعدته الأولى نيوزيلاند، وفي الثانية جزيرة إيستر Easter Island، هذه الجزيــــرة التــــي رغم بعدها تتبع إدارياً جمهورية تشيلي الأمريكية الجنوبية, وانتشارهم عبــر هذه المساحة الشاسعة في المحيط وفي مقابل السواحل الغربية للقارة يفـــتح آفــاقا لسيناريوهات متعددة ■