بناء الدولة

بناء الدولة

عند‭ ‬بناء‭ ‬الدولة،‭ ‬أي‭ ‬دولة،‭ ‬تنصب‭ ‬العناية‭ ‬على‭ ‬وضع‭  ‬نظم‭ ‬لبناء‭ ‬المؤسسات‭ ‬فيها،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬حاجات‭ ‬الشعب‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتنموية‭. ‬ويتصدّر‭ ‬الحاجات‭ ‬الإنسانية‭ ‬للشعب‭ ‬الصحة‭ ‬والإسكان،‭ ‬كما‭ ‬يأتي‭ ‬التعليم‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬قمة‭ ‬هرم‭ ‬الحاجات‭ ‬التنموية‭.‬

‭ ‬إنّ‭ ‬التعليم‭ ‬حاجة‭ ‬ضرورية‭ ‬للفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬والدولة،‭ ‬وهو‭ ‬السبيل‭ ‬لحياة‭ ‬مستقرة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬جميع‭ ‬الصعوبات،‭ ‬وتنوع‭ ‬العلوم‭ ‬بمجموع‭ ‬ممتهنيها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجتمع،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مقياس‭ ‬التقدم‭ ‬فيها‭. ‬

إن تدني الخدمات الصحية والتعليمية في معظم دولنا العربية واضح كوضوح الشمس في صحو النهار. والسبب في ذلك يُعزى للنظام الإداري والمالي والقوانين المنظمة لتلك الخدمات، ما يجعل للفساد دوراً فاعلاً في نخر الهياكل والأبنية والمنشآت، ليلقي ذلك ظلّه على الأجساد والنفوس والأرواح، الأمر الذي يؤدي إلى تحرّك القطاع الخاص في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية للمواطنين القادرين على دفع التكاليف المالية من أجل الأفضل. 

من هنا بدأت الخدمات تأخذ شكلاً مترفاً ومرفهاً، وربما يكون متميزاً بعض الشيء. وإذا ما أدركنا أنّ القطاع الخاص في مثل هذه الأمور يهدف إلى الربح المادي أولاً، فإننا نتبين بشكل لا يدع للشك مكاناً أنّ مثل هذا الربح ينعكس بصورة أو بأخرى على السلوك العام لأخلاق المعلم والتلميذ والطبيب والمريض على السواء، وربما لا تكون الخدمة بقدر الأمل المراد، حينها تتردى الأمور لتكون «صفقة» بين الطرفين. وفي هذه الحالة نرى كل قوانين ضبط القواعد المنظمة للتعليم والصحة تتهاوى أمام المصلحة، فما بالك إن دخلت في هذا الإطار شركات التأمين أو شركات الكسب السريع. وفي بعض الدول العربية الغنية نفاجأ بخلل فادح في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية، على الرغم من توافر جميع مقومات النجاح، ويرجع ذلك إلى مناهج التعليم أو إلى الخدمات الطبية المساندة؛ إدارة وصيانة أجهزة وخدمات تمريض. ولنأخذ كلاً على حدة: ينقسم التعليم إلى جزأين: ولنطلق عليهما مجازاً: «أدبي» و«علمي»، أما الأدبي فيقترن بعلوم اللغة والدين والعلوم الاجتماعية والفنون، ويأتي العلمي ليشمل علوم الرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء والأحياء، وكل له تفريعاته التي تتناولها المراحل الدراسية تباعاً. ويأتي الخلل في مناهج التعليم العربية من ناحيتين: عدم مواكبة الاكتشافات الحديثة للعلوم، من الكون إلى الذرة، فلا نزال بدايةً ندرس لطلابنا المجموعة الشمسية بكواكبها المعدودة، وننتهي بترسيخ كفر من يعتقد بالانفجار العظيم the Big Bang، وندحض نظرية التطور لدارون، وهي مجرد نظرية، من غير علم أو بحث أو حتى منطق سليم نعلمه للتلاميذ. لقد كانت المفاجأة صادمة لي عند حضوري إحدى مسابقات العلوم (أولمبياد العلوم) التي تقيمها سنوياً منظمة اليونيسكو لطلبة دول العالم، ومعظمها دول العالم النامي، بأنّ ترتيب الدول العربية المشاركة في هذه المسابقة غالباً ما يكون في ذيل القائمة. وعند إعداد تقريري حول هذا الموضوع اكتشفت أنّ مناهج العلوم التي تدرس لطلبتنا العرب قد انتهى العمل بها منذ فترة طويلة. يقول محدثي من اليونيسكو إن الولايات المتحدة الأمريكية قد أنفقت خمسة مليارات دولار على تغيير وتعديل مناهج الفيزياء لمرحلة التعليم ما قبل الجامعي high School، بينما أنفقت المملكة المتحدة البريطانية ثلاثة مليارات جنيه إسترليني للغرض نفسه. ومن يومها وأنا أتساءل: لماذا لا تؤخذ تلك المناهج ومثيلاتها، بالاتفاق مع تلك الدول، كما هي، أو تترجم إلى العربية وتدرس في مدارسنا؟ أليس القائمون على مناهج التعليم في بلادنا أدرى بذلك؟ إن كانوا يدرون ولا يعملون فتلك مصيبة، وإن كانوا لا يعلمون فالمصيبة أعظم، حيث ما تزال مناهج طلبتنا في الفيزياء تقتصر على قوانين الضوء والصوت وعلوم الحركة، ومثل ذلك كثير من نظريات العلوم وطرق تدريسها قد حلّ عليه التبديل والتغيير والتعديل والتطوير. أما على صعيد الدراسات الأدبية فلا يزال تدريس اللغة العربية يسبب قلقاً كبيراً عند واضعي المناهج والمدرسين والدارسين، وننتظر الحين الذي يتكلم فيه الطلبة العرب لغتهم دون لحنٍ أو ركاكة، فهاهم طلبة الجامعات العربية يفاجئونني دائماً بأخطائهم الإملائية، بعد أن غضضت النظر عن قواعد اللغة والتركيب الإنشائي للجُمَل، حتى غدت بعض جملهم تتجاوز ثلاثة وأربعة أسطر، دون فواصل أو نقاط. أما المناهج الدينية والاجتماعية، فحدّث ولا حرج، وكأن واضعي المناهج زمرة لم تسافر أو تختلط بالعالم الحديث والمتقدم. 

في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، أي قبل بداية الألفية الثالثة للميلاد، نجد أن مدارس الدول العربية بلا استثناء قد جعلت في مناهجها هامشاً ترفيهياً دراسياً، للرياضة والفنّ، موسيقى ورسماً وتمثيلاً. وعلى الرغم من علو سقف الحريات في هذا القرن الجديد، ومع عصر العولمة، بدأ هذا الهامش يضيق في مدارسنا شيئاً فشيئاً، فضاقت به إذاعاتنا ومسارحنا ودولنا العربية، حتى عدّه البعض حراماً، وتجاوز البعض فعدّه عيباً وعاراً. إنّ محصلة قولنا السابق تؤكد فكرة العمل على صوغ مناهج تربوية، علمية وأدبية، تتوافق وتتماشى مع روح العصر والتقدم العلمي الهائل في شتى المجالات، ومن ثم الربط بين تلك المناهج، بعضها ببعض، بما يتناسب والقدرات الحقيقية للطالب المتلقي من ناحية، والفائدة المرجوة للمجتمع والدولة من المخرجات التعليمية من ناحية أخرى.

إننا عندما نتناول كيفية استمرار واستقرار أنظمة الدولة نلاحظ تقديم منظومة فاعلة لسد الحاجات الأولية للشعب وتفضيلها كأولوية عن ما سواها، كما نلاحظ أنّ انهيار كثير من أنظمة الدول يكون غالباً بسعي تلك الدول إلى تأصيل ممارسة دور السلطات كحاجة أو أولوية تأتي بمرتبة الضرورة، بمعنى أن حاجة الشعوب إلى الصحة والتعليم تأتي قبل تمكين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، من ممارسة دورها المناط بها في مزاولة صلاحياتها، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى حاجة شعب جاهل مريض لدستور وقوانين تقيد حركته المريضة وتفرض على جهله علماً مرجواً. لذا، فمقولة  أن الأنظمة تنشأ أساساً لخدمة الإنسان ومجتمعه في الدولة أصدق من مقولة خدمة الإنسان للأنظمة في دولته، وإنما يأتي النظام لتسيير حياة الإنسان بالعدل إلى الأفضل، فإذا كان هذا النظام قيداً فلا بدّ له أن ينكسر، ويكون الفرد مسؤولاً عن وضع نظام جديد يتماشى مع التقدم والواقع. هناك أمران مهمان، على أي دولة وليدة مراعاتهما: الأول هو الاستعانة بمواطنيها في بناء الدولة، والثاني هو الاعتماد على ثروات البلاد الطبيعية وتنميتها من خلال الصناعة. وإذا ظنّ البعض أنّ الثروات الطبيعية كفيلة باستمرار حياة الرغد والرفاه فهذا ظنّ فاسد منطقاً وواقعاً، حيث إنّ هذا السلوك شبيه بسياسة «تسمين العجول» التي تستهلك أقـــل كثيراً مما يؤخذ منها، ومآلها الأخير هو الذبــح، ليُؤكل ويُســــتغلّ كلّ ما فيها. 

ولعلك أيها القارئ الكريم تشاركني الرأي في أنّ الثروة الحقيقية للدول هي مواردها البشرية، أفراد الشعب نفسه، إذ كلما زادوا علماً وأخلاقاً زادت بلدانهم علواً وسمواً. إنّ التنمية الحقيقية للدولة تبدأ بتنمية الإنسان، فهي من أثقل الصناعات كما قال أحدهم، وبالتخلص من التبعية الاقتصادية للأجنبي، بتحولها من الإنتاج البدائي إلى الإنتاج التصنيعي، الذي يكفل توزيـــــع اليد العاملة والعقول الفاعلة على كل القطاعات الاقتصادية، الأمر الذي يحتم على الدولة والمواطن التخلص من التبعية السياسية والاجتماعية للدين والطائفة والمذهب أو القبيلة والعشيرة. ولعلّنا ندرك أنّ مجافاة العمل في إطار منظومة فكرية كاملة قد أوقعت كثيراً من الدول النامية في فخّ الفوضى والفساد، ومناهضة هذه المنظومة ليست سوى صرخات نشاز تطلب الحرية، أو حشرجات جائعين، أو على صعيد آخر كانت تقيؤات مترفين تطلب التغيير لمللها من الواقع. لا يجوز رفض الواقع دون تهيئة خطة عمل منهجية لمنظومة متكاملة من جميع عناصر التقدم والبناء، ولتكن كل البدايات من منطلق الإصلاح لا الهدم، دون تعريض مصير الوطن لمقادير الأحوال. إنّ الفشل الذي واجه ثورات الربيع الـــــعربي أتى من عدم التخطيط المكين لبناء الدولة المأمولة، فما زادتهم الثورة إلا دماراً! نسأل الله أن يمنح شعوب العالم العربي أمناً واستقراراً، وتعود إليهم بلدانهم أكثر جمالاً وعماراً .