قرطاج

قرطاج

عندما‭ ‬تتصفح‭ ‬االإنياذةب‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬فيرجيل‭ ‬شعرا‭ ‬قبيل‭ ‬وفاته‭ ‬عام‭ ‬19‭ ‬ق‭. ‬م‭.‬،
لا‭ ‬ترى‭ ‬فيها‭ ‬إلا‭ ‬ذلك‭ ‬العبق‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬يمزج‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية‭ ‬بالخيال‭ ‬والأسطورة،‭ ‬وهو‭ ‬الأسلوب‭ ‬نفسه،‭ ‬الذي‭ ‬صيغت‭ ‬به‭ ‬االإلياذةب‭ ‬واالأوديسةب‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الشاعر‭ ‬اليوناني‭ ‬الشهير‭ ‬هوميروس‭. ‬االإنياذةب‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬المحارب‭ ‬إينياس‭ ‬الإغريقي،‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬طروادة‭ ‬بعد‭ ‬المذابح‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬إسبرطة‭ ‬واليونان،‭ ‬وساح‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬فاستوطن‭ ‬هناك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وافته‭ ‬المنيّة‭. ‬وتشاء‭ ‬الأقدار‭  ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬صُلبه‭ ‬مَن‭ ‬يبني‭ ‬مدينة‭ ‬روما،‭ ‬مجد‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬وعاصمتها‭. ‬

تتشابك القصص في الإنياذة بأسلوب جذَّاب يشد سامعها إليها، ويجعله يهيم بخيال الصورة التي يرسمها له فيرجيل في اثني عشر مجلداً. ومن تلك القصص قصة «عِلِّيسة»، التي يُلفظ اسمها باختلاف اللغات: إليسا، إليسار، إليشات. كانت عليسة من أسرة ملكية، فأبوها هو الملك ميتان الأول ملك صور، وأخوها هو الملك بجماليون، الذي تبدأ منه الأسطورة. كان بجماليون مغرماً بالنحت، وعُرِفَ عنه كرهه النساء، وعندما سُئل عن ذلك، أجاب بأنه لن يقترن بامرأة لا يكون لها جمال وعفة الإلهة فينوس. وقد كان يُكرِّس بعض وقته لنحت تمثال يحاكي جمال المرأة التي يشتاق إلى الاقتران بها. وعندما انتهى من نحت التمثال، الذي رأى فيه كل معاني الجمال، غطى الجسد المنحوت بالحرير، وزاده بتعليق الحلي الذهبية والمجوهرات. وما إن حلّ عيد فينوس، حتى دعا إلهته فينوس أن تحلّ في التمثال فتحييه. وما إن أصبح حتى رأى نفسه مضاجعاً تمثاله الحيّ الجميل «جلاتيا»، التي أنجبت له ابنة جميلة أسمياها «بافوس»، التي تنسب إليها مدينة بافوس في قبرص.

عندما توفي ميتان الأول ترك حكم صور لابنته عليسة، يشاركها فيه أخوها الأصغر بجماليون، وكان ذلك تحت وصاية خالهما الكاهن الأعظم بزيكار بعل، الذي كانت أملاك معابد صور تحت إمرته، ما كان يعني تصرفه بأموال وثروة طائلة. تلك الثروة أطمعت فيها بجماليون إلى صور، الذي سيّر من قبرص أسطولاً كبيراً لاغتصاب حكم صور والسيطرة على ثرواتها. وما إن وصل بجماليون إلى صور حتى قتل خاله الكاهن الأعظم، ولكنه لم يظفر بأخته التي استطاعت الفرار بما خف حمله وغلا ثمنه في سفينة يرافقها فيها المقربون منها. يقول فيرجيل في «الإنياذة»: إنّ عليسة أوصت ربّان السفينة المبحرة أن يُثَبِّت دفَّة السفينة بطريقة مستقيمة، حتى ترسو بالمكان الذي شاء لها الإله بعل أن يكون مرساها. وهكذا وصلت السفينة إلى ساحل تونس الحالية، وأطلقت عليسة على هذا الساحل اسم «قرطاج»: وقيل «قَرْت حَدَشْت» أي القرية الحديثة بالفينيقية، وقيل أيضا «قرّة التاج» بالعربية، وفي ذلك مبالغة. وتتابع الأساطير لتحكي لنا مفاوضات عليسة والملك الأمازيغي «آبي» حول السماح لها بمساحة من الأرض، لتبني عليها مدينتها، إلا أنّه، وربما بطريقة من الاستهزاء، سمح لها بمساحة لا تتعدى «جِلْد ثوْر»! وقد أثارت موافقة عليسة سخط مرافقيها بقدر إثارة تعجب الملك الأمازيغي، فقامت بقصّ جلد ثور إلى خيوط رفيعة تكفي للإحاطة بهضبة كاملة، شيدت فوقها مدينتها المرجوة. أثار هذا العمل الذكي دهشة وإعجاب الملك آبي، الذي طلب الاقتران بهذه المرأة التي تفوقت بتدبيرها وعقلها أكثر من تفوقها بالثروة والجمال. ولكنّ عليسة، بزعم فيرجيل، آثرت الوفاء لحبيبها وزوجها الأول من ناحية، وعدم إغضاب الملك آبي من ناحية أخرى، فأقدمت على الانتحار، لتكون بذلك «صورة تجمع بين رقة العاشقة وقوة الملكة».

إنها قصة مدينة بناها المخلصون، أحبوها فأحبتهم، فتتابعت أجيال على حب تلك الأرض وزرع القمح في حقولها، حتى امتدت أراضيها لتصبح «دولة مدينة» لها كل مقومات الدول العظمى. لم تنل قرطاج شرفها التاريخي إلا على يد أبنائها المخلصين، الذين دافعوا عن كرامتها بقدر ما دافعوا عن وجودها. وليسجل التاريخ اسم حنبعل (حنا بعل-هانيبال)، بمنعى حبيب الإله بعل، على سجلات التاريخ المشرقة، وهو القائد العسكري الذي أبهر العالم بتكتيكاته العسكرية الفذّة، التي قادته للنصر في جميع معاركه، حتى أصبح كابوسا للإمبراطورية الرومانية، التي كانت أقوى دول العالم في ذاك الزمان. استطاع حنبعل أن يحافظ على الأسطول البحري، الذي أسسه والده حملقار بارقا، ويعززه في البحر المتوسط، ويقوي نفوذ بلاده على سواحل صقلية وسردينيا وجنوب إسبانيا وشرقها، مما أكسبه الصدارة كقوة عسكرية بحرية، استطاع من خلال ذلك - بصورة أو بأخرى - السيطرة على طرق التجارة في البحر المتوسط والمناطق البرية المحيطة به. ومع مضي الزمن وانتشار القرطاجيون في البر والبحر، كانت الحاجة ملحة إلى بناء مدن على الساحل، تأوي إليها سفنهم وتأويهم من تقلبات البحر وأنوائه، فبنوا مدناً على الساحل الأوربي. ولقد اعتبر القرطاجيون جنوب شرق إسبانيا مستقرا لهم، فأسسوا مدينتهم الثانية الكبرى هناك، وأسموها «قرطاج الجديدة» Carthago Nona التي تسمى الآن «قرطاجنة» Cartagena، وهي مدينة «كارتاخينا» التي تقع اليوم في منطقة مرسيه الإسبانية. 

وعلى الرغم من المعاهدات الموقعة بين الرومان والقرطاجيين، التي تقضي بالسلام وعدم التعدي على ممتلكات الآخر، فإننا نرى الرومان دائما ما يبدأون بنقض العهود، كما حدث في المعاهدات الثلاث الشهيرة التي عقدت بين الطرفين في الأعوام 508 و348 و280 ق. م.، ما دعا حنبعل إلى شن هجوم على روما نفسها. لا شكّ في أنّ حنبعل كان من أعظم القادة العسكريين الذين عرفهم التاريخ، فعلى الرغم من خيانات الرومان ودسائسهم، استطاع إفشال المؤامرات ضده والبدء بشن هجوم عسكري على المواقع الرومانية في حوض البحر المتوسط، والزحف برا لاحتلال روما. عَبَرَ القائد القرطاجي البرانس ووصل إلى الرون على رأس جيش قوامه أربعين ألف محارب، وحقق انتصاراً ساحقاً على جيشين من جيوش الرومان عند نهر تريبيا في ديسمبر 218 ق. م، ثم عَبَر جبال الأبنين في ربيع عام 217 ق.م، وانتصر على جيش آخر من جيوش الرومان في معركة تراسيمينوس. وعلى الرغم من حذر فابيوس مكسيموس من مواجهة حنبعل عسكريا، فإنّ هذا الأخير استطاع أن يستدرجه، بعد أن استولى على مستودع مهم للمؤونة التي كانت تقتات عليها روما، ودارت معركة في مدينة كنّاي، أُبيد فيها جيش كبير من جيوش الإمبراطورية الرومانية عن بكرة أبيه. في هذه الفترة ساد الهلع والفزع الشديدان عند الناس في جميع أرجاء الإمبراطورية، وبدأت المدن الرومانية تتهاوى الواحدة تلو الأخرى أمام حنبعل. وفي عام 207 ق. م، انقطعت الإمدادات عن جيش حنبعل، واستطاع الرومان إلحاق الهزيمة الأولى بإحدى قوات القرطاجيين في معركة حاسمة دارت على ضفاف نهر متاوروس. وفي عام 202 ق. م، وبعد معركة زاما التي انتصر فيها الرومان على خصمهم القرطاجي، وُضعت شروط قاسية على الطرف القرطاجي تقضي بالانسحاب من جميع الأراضي الإيطالية، وأن يسلم أسطوله للرومان وأن يدفع غرامة عشرة آلاف تالنت (يعادل التالنت الواحد قيمة كيلو من الذهب). واستطاع الرومان إعادة تشكيل أسطولهم لغزو قرطاج، الأمر الذي سيجبر حنبعل على التقهقر والرجوع إلى بلاده. وسرعان ما استدعت الحكومة القرطاجية قائدها حنبعل وأمرته بالرجوع إلى الوطن. وما كان منه إلا أن يمتثل للأمر على مضض. وبعد عودته عيّن حاكماً على قرطاجنّة، حيث قام بإصلاحات إدارية واقتصادية وسياسية، ما أحيا خوف الرومان منه مرة أخرى. وسعت أيادي الغدر والفساد إلى نفيه، فعمل مستشاراً عسكرياً لأنطيوخس الثالث إمبراطور الدولة السلوقية، ثم لجأ إلى مملكة أرمينيا. ولكن الرومان لم يتقوا له ظلا، فلاحقوه وطاردوه وساوموا الدول مقابل رأسه، فاضطر إلى تجرع السم وإنهاء حياته، مؤثرا ذلك على موته بيد عدوّه اللدود .