التطرُّف... محموداً ومذموماً؟!

التطرُّف... محموداً ومذموماً؟!

  ‬ما‭ ‬إن‭ ‬نرى‭ ‬كلمة‭ ‬التطرف‭ ‬أمامنا،‭ ‬مكتوبة‭ ‬ومنطوقة،‭ ‬حتى‭ ‬تتداعى‭ ‬أمام‭ ‬أذهاننا‭ ‬صورة‭ ‬قميئة،‭ ‬تتلوث‭ ‬بالدم‭ ‬والتخريب‭ ‬والقتل،‭ ‬والتخاصم‭ ‬والتشنيع،‭ ‬مع‭ ‬أننا‭ ‬إذا‭ ‬رجعنا‭ ‬إلى‭ ‬معناها‭ ‬الحقيقي،‭ ‬فسنجد‭ ‬أنها‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعنيه‭ ‬بما‭ ‬سبق،‭ ‬فإنها‭ ‬أيضاً‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعني‭ ‬من‭ ‬الصفات‭ ‬ما‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬

    ‬إن‭ ‬االتطرُّفب‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬هو‭ ‬احيودب‭ ‬عن‭ ‬حد‭ ‬الاعتدال‭ ‬والتوسط،‭ ‬ولتوضيح‭ ‬ذلك،‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬يمسك‭ ‬بأنبوب‭ ‬مملوء‭ ‬بسائل‭ ‬ما،‭ ‬أيا‭ ‬كان،‭ ‬ويجعله‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬أفقي،‭ ‬فإذا‭ ‬ضغط‭ ‬على‭ ‬منطقة‭ ‬الوسط،‭ ‬فسيجد‭ ‬تحرُّكاً‭ ‬للسائل،‭ ‬بعضه‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬اليمين،‭ ‬وبعضه‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬اليسار‭.‬

وهكذا، فإذا كان القتل والذبح والتفجير والحرق، وما سار على هذا الطريق تطرفاً مذموماً، من حيث ما يحمله من أسباب وصور تخرِّب ولا تبني، تمزِّق ولا تلحم، فإن كل صور الإبداع الفني والأدبي والفكري، وأعمال النضال الوطني، والاستشهاد في سبيل العقيدة، في حقيقة أمرها هي أيضاً صورة من صور التطرُّف، لكن إلى جهة الإيجاب والبناء.

وإذا كان التطرُّف الإيجابي له مناخه الذي ينمو فيه ويزدهر، من حيث شيوع مناخ الحرية وسيادة مبادئ الديمقراطية، والإعلاء، نظرياً وعملياً من شأن حقوق الإنسان، والتأكيد على سيادة القانون، فإن التطرف المؤذي له أسبابه التي توفر تربة لاستزراعه، حيث لا يوجد إنسان هو بطبيعته شرير، من حيث شدة الفقر، والقهر والاستغلال والاستبداد والظلم.

ومن الملاحظ أن التطرف ينصرف في معظم الأحوال إلى الناحية الدينية، في ثقافتنا الاجتماعية المعاصرة، مع أنه – من الناحية الفكرية والاجتماعية - له وجود يتمثل في العلمانية على سبيل المثال، والأكثر صراحة من هذا ما أصبح البعض يلمح إليه من تنامي ظاهرة الإلحاد لدى بعض الشباب، بعد أن كان الحديث منذ عقود عدة عما سُمّي «الصحوة الإسلامية».

وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، عرفت مصر موجة من التطرُّف السلبي، الذي كان قد تجلى بصورة متوحشة بمقتل الشيخ الذهبي الذي كان وزيراً للأوقاف، وهذا ما دفع جريدة الأهرام، أن تدير حواراً رائعاً، تداول على الكتابة فيه جمع من كبار المفكرين.

والمؤسف حقاً، أن يمر أكثر من 35 عاماً على هذا الحوار، ونجد أن تاريخ صلاحيته مازال قائماً، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن الواقع لم يسر نحو الانفراج بالنسبة لهذه القضية، مع أن الكثير من ملامح المجتمع قد تغيرت، ذلك أنه بعد ما يقرب من عام من هذا الحوار، لقي رئيس الدولة نفسه، أنور السادات، مصرعه، في السادس من أكتوبر عام 1981، وما سبق هذا من اعتقال السلطة لأكثر من ألف شخص من مختلف التيارات والتوجهات السياسية والفكرية، من دون تفرقة بين يمين أو يسار.

 

بداية‭ ‬الحوار

كانت بداية الحوار على يد د.زكي نجيب محمود، في عدد 13/2/1980، حيث وجدنا توجّهه الفكري هو الحاكم في رؤيته عن التطرُّف، فهو رائد من روّاد فلسفة التحليل التي تسعى إلى التحديد الدقيق لما نستخدم من مفاهيم ومصطلحات، كما هو الشأن في المنهج العلمي بصفة عامة. ومن هنا فقد نظر إلى القضية على أساس أن التطرف يبدأ أولاً في فكرة أو أفكار تسيطر على هذا الإنسان أو ذاك، فتدفعه إلى تصرُّف هنا وهناك، ما يكون مفزعا بالضرورة للمجتمع، ومن ثم لا نجد في العلوم الطبيعية والرياضية تطرُّفاً، حيث إن نهجها الأساسي يقوم على التحديد الدقيق لما تتعامل معه من أفكار ونظريات.

والأمر على عكس هذا في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وفي القلب منها الدراسات الدينية، حيث الشعار الذي يظلل الدراسات والبحوث والمناقشات بصدد أي قضية هو «فيها قولان ...»، كناية عن تعدد المواقف وتنوّع الاجتهادات، بل أحياناً ما يتندر البعض بالقول: إن الحقيقة تقول: بل فيها عديد من الأقوال! ومن هنا فإن التطرف الذي نراه بصفة خاصة في مجموعات من شبابنا هو نتيجة غموض الأفكار التي تبث لهم في أدمغتهم، ولو أننا نحن الكتَّاب أو الجامعيين أو كل من يملك القدرة على التعليم بجميع صوره - يقول مفكرنا عن حق - كنا نتصدى للتوضيح العلمي أو الذي يقرب من العلم للأفكار التي تتخذ صوراً متباينة  لخلصنا هؤلاء الشباب من كثير مما يوجدون فيه، بحيث يندفعون إلى التطرف وهم لا يشعرون.

لكن مفكرنا إذ يركز في كل مناقشاته على توضيح الأفكار، فإنه يمكن أن يُتهم بإغفال ما هو أبرز وأشد فعلا، ألا وهو جملة المتغيرات التي تشكل السياق المجتمعي، إذ لو كانت المشكلة بالفعل هي مشكلة فكرية، لأمكن مواجهتها بقدر من اليسر.

فإذا ما تساءلنا: وهل معنى هذا أن المجتمع مسؤول عن هذه الظاهرة؟

تكون الإجابة، أننا إذا أردنا بالمجتمع أنظمته المختلفة، بما في ذلك التعليم بكل درجاته، فتمكن الإجابة بالإيجاب، أن نظام التعليم مسؤول إلى حد كبير، لأنه أخرج لنا شباباً بغير منهج في التفكير، كما تمت الإشارة منذ قليل.

على أن مفهوم المجتمع يمكن توسيعه والنظر إليه على أنه يعني المرحلة المعاصرة من التاريخ الإنساني كله. وفي هذه الحالة، لابد من القول إن المجتمع الإنساني بأسره يجتاز اليوم، بل وكل يوم، مرحلة قلقة اهتزت فيها المعايير، فلم تعد ثابتة، كما كانت الحال في القرن الماضي، وكما نرجو أن تكون في القرن الآتي. واهتزاز المعايير هذا إنما نتج عن تحول عميق واسع المدى في كل أنظمة الحياة، اجتماعية وسياسية...إلخ، بحيث نجد أن من يقف الآن وينظر أمامه، فإنه لا يدري أين الصواب وأين الخطأ؟ ومن هنا يصبح سريع التأثر بمن يدعوه إلى ترك الحاضر والعودة إلى صورة الحياة الماضية، بمفهوم مشوه، متصوراً فيه الاستقامة والصحة والصواب، وكثيراً ما تؤدي به تلك الصور إلى التطرف في الفكر الديني.  

وإذا كانت هذه وجهة نظر «فيلسوف»، فماذا يكون عليه الرأي في جهة أخرى؟ 

 

التطرف‭ ‬والتعصب

بمبضع الطبيب النفسي الماهر، يفرق د.يحيى الرخاوي، في «الأهرام» 14/2/1980 بين التطرف والتعصب، حيث يمتدح الأول ويشجب الثاني، فالتطرف هو نقطة قصوى في حركة مستمرة، وهو بذلك ضرورة حتمية كنقطة في حركة، ولكنه يمكن أن يكون كارثة مخيفة كنهاية لطرف، والحالة الأخيرة هى التعصُّب والجمود.

وفرط هجومنا على التطرف – مع ضرورته المرحلية - قد يحمل معاني الخوف من الاختلاف أساساً، فالحوار يحتاج إلى طرفين: طرف أول، وطرف آخر. إذن فكل منهما يقف على طرف القضية في مواجهة مثرية، وهذا أساس مبدئي لبداية الحوار.

وعندما أدلى الطبيب الأديب د.يوسف إدريس بدلوه في القضية، في 20/2/1980، وقف في صف ما ذهب إليه الرخاوي، بأن ليس كل تطرف سيئاً، فالتطرف الســـيئ هو ما يسير وفق نهج «المونولوج»، أما الإيــجابي فهـــــو الذي ينهج نهج «الديالوج». الأول لا يتصور جديراً بالوجود إلا هو، وهذا يعني أنه لا يعترف بالآخر، فكأنه يحدث نفسه، وهو ما يعنيه مفهوم «مونولوج»، أما الثاني، فهو يُقرُّ بوجود آخر يسعى إلى منافسته وهزيمته، وهو ما يعنيه مفهوم «الديالوج».

ولو استعرضنا تاريخ المجتمعات الأوربية منذ العصور الوسطى إلى العصر الحالي، لوجدنا أن سر القفزات التي سار بها التطور في تلك المجتمعات إنما يرجع إلى الصراع المتطرف بين عديد من الأفكار.

ولو سأل سائل أديبنا إدريس عن تحديد مفهوم أوضح للتطرف، فإنه، وفقا للمنهج الماركسي، يوضح هذا بنظرة كلية سريعة إلى المسار العام لحركة المجتمع المصري، منذ القرن التاسع عشر، وانضواء هذا المجتمع تحت الفكرة الشمولية الإسلامية التركية المتخلفة، إلى أن اكتشف، من خلال بعثات محمد علي إلى فرنسا وما بشّر به رفاعة الطهطاوي من أفكار، الفكر العلماني الحديث، ونشأ صراع بين الفكرتين أدى إلى ظهور الفكرة الثالثة، فكرة «الوطن المصري»، وكانت مصر قبل ذلك مجرد جزء من الإمبراطورية العثمانية.

وعندما فكّر إدريس عن حل لذلك، وجد– في رأيه - أنه يكمن في ضرورة قيام حياة ديمقراطية حقيقية تتيح للتيارات المتخفية أن تخوض تجربة العلنية، وينكشف ما قد يكون فيها من حمق حين تصطرع في ما بينها من الأفكار.

وإذا سألنا، مرة أخرى عن مدى مسؤولية المجتمع في التطرف، نجد الناقد الأدبي الكبير د.لويس عوض، يلخص الإجابة في «الأهرام» 26/2/1980 في فكرة يكاد يكون حولها إجماع بين مختلف المفكرين، بدرجات، وتفسيرات مختلفة، ألا وهي أن المجتمع الذي ليست فيه وسائل التعبير الحر هو المجتمع الذي يدفع بالمواطنين إلى التطرُّف، فالتطرف في العادة ظاهرة نفسية سيئة تؤدي إلى الانفجار نتيجة للكبت.

وقد يجيء التطرف جنوحاً نحو المثالية، وهو ما يكون دافعاً للحركة إلى الأمام والبناء، كما نلمس لدى عمالقة الفكر والإصلاح، فما جعلنا نعلي من قدر أرسطو، ولوك، وديكارت، والغزالي، وابن سينا، ورسل، وغيرهم، إنما لأنهم لم يكونوا عاديين، بل «شذوا» إلى أعلى، سعياً لإقالة المجتمع من عثرته، والتوجيه المستنير إلى آفاق التجديد والتطوير.

 

أوهام‭ ‬العظمة‭!‬

لكن يجب أن نميّز بين هؤلاء، وبين نفر يستمدون تطرفهم من أوهام العظمة وتخيلهم أنهم سوف يستولون على السلطة، وأن الغنيمة سوف تكون لهم، وما يتلو ذلك من سلب ونهب، مغلفين ذلك بأشكال زائفة من السعي إلى التطوير.

وهناك نوع آخر من المتطرفين، ممن هم في حاجة إلى محللين واختصاصيين نفسيين، وآخرون بحاجة إلى وزارة الداخلية، ولكن، بعد أن يقال كل شيء.

والتطرُّف المؤدي إلى حلم البعض بالمثالية، لا يكون معتنقوه بحاجة إلى اختصاصيين نفسيين، ولا وزارة الداخلية، وإنما علاجهم بالحوار والثقافة الإنسانية، وهذه هي القاعدة الكلية.

وينضم السياسي والمفكر فتحي رضوان، من زعماء الحزب الوطني الأصلي، حزب مصطفى كامل إلى القائلين بإيجابية التطرف، عكس ما هو شائع بين عموم الناس، والكثرة الغالبة من أجهزة الإعلام (الأهرام 4/3/1980)،  وأن السمعة السيئة للتطرُّف جاءت نتيجة الخلط بينه وبين العنف، فالتطرف هو حركة باطنية نفسية أو عقلية، أو هما معاً، بينما العنف في الأغلب الأعم، هو حركة مادية قد تتجرد من بواعث فكرية، ومذهبية، وتصدر عن الأفراد والجماعات كرد فعل، لخيبة الأمل، أو العجز عن تحقيقه، أو نفاد الصبر، أو قلة الحيلة، أو النقمة على المجتمع الذي لا يبدو مدركا لما يدور في دواخل أهل العنف من طموح ورغبة.

هذا بينما التطرف في ذاته، تحرّك سوي سليم، نسميه أحيانا أخرى بالإيمان، فالتطرف والإيمان كلاهما امتلاء النفس الإنسانية بعقيدة أو بفكرة، تملؤها، حتى الحافة، تماما كما يمتلئ الإناء بسائل، بحيث لا يبقى مكان لسائل سواه، والعقيدة أو الفكرة في بداية حياتها، تميل إلى                                                                             التطرُّف، أو إلى الاستحواذ الكامل على النفس، والسيطرة الكلية على العقل، بحيث لا تعود هذه النفس قادرة على أن ترى شيئا سواها.

ومن هنا، فقد أحسن بعض الذين قالوا إن الإيمان هو جنون العقلاء، يستبد بهم فينسون الأهل والصحاب، والمشاق والصعاب، ولا يقبلون لومة لائم، ولولا هذه الخاصية من خصائص العقائد إبان مولدها، لما وجدت فكرة، ولا ساد دين، وهذه العقائد مع الزمن، تصبح هي الأصول، وما عداها هو النقيض لها، الخارج عليها، مع أنها في البداية بدت للمجتمع الذي ولدت فيه نقضا للأصول وثورة على التقاليد، وشذوذاً عن الموروث،                                                                                                                                    وساق د.محمد علي أبو ريان الذي كان أستاذاً للفلسفة بآداب الإسكندرية، عدداً من الأمثلة التي أكّد من خلالها ضرورة التطرُّف في بعض الظروف، فالتطرُّف في الوطنية مطلوب، خاصة وقت الكفاح والنضال من أجل الاستقلال أو النهوض الحضاري، ولا شك في أن الوطنية المتطرفة هي التي كانت تخيف العدو أكثر من غيرها، مع أن المحصلة النهائية للانتصار قد تحتاج إلى المرونة والاتزان.

وكذلك التطرُّف في طلب الحق لا يعتبر رذيلة، وأيضاً التطرُّف في مشاعر الحب، ومثله التطرف في النزعة الروحية التي تثمر المواجد الصوفية، والرهبنة عند المسيحية.

أما التطرُّف في الفكر الذي أنتج الماركسية، فقد كانت له فوائده، لأنه لولا الدفعة الماركسية الأولى لما استيقظ ضمير الرأسمالية وهب زعماؤها لإصلاح ما أفسده الدهر من الليبرالية الاقتصادية.

وهكذا، عندما ننتقد التطرُّف ونندد به، خاصة في الآونة الحاضرة، بفعل مظاهر مؤسفة مخربة، تؤدي إلى قتل وتشريد وتدمير، يجب ألا ننسى أن له مظاهر أخرى إيجابية تدفع بالعقل والفكر والفن والثقافة  والعلم إلى آفاق علا، وهي مهمة يقع عاتقها على المفكرين والعلماء والمثقفين على وجه العموم.

ولعل هذا هو المضمون الحقيقي للدعاء الشهير: اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه... اللهم آمين .