من تونس إلى بنزرت.. موزاييك قرطاج

من تونس إلى بنزرت.. موزاييك قرطاج

ضاقت‭ ‬الحياة‭ ‬بالأميرة‭ ‬الفينيقية‭ ‬اعليسةب‭ ‬ابنة‭ ‬مدينة‭ ‬اصورب‭ ‬الراقدة‭ ‬على‭ ‬الساحل‭ ‬الشرقي‭ ‬للبحر‭ ‬المتوسط‭. ‬كان‭ ‬أخوها‭ ‬ابيجماليونب‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬شراسته‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬مداها،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬اغتال‭ ‬اأغريباسب‭ ‬زوج‭ ‬شقيقته‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬عليسة‭ ‬إلا‭ ‬الفرار،‭ ‬وقد‭ ‬أحست‭ ‬أن‭ ‬مصيرها‭ ‬المحتوم‭ ‬قادمٌ،‭ ‬فتمسكت‭ ‬بروح‭ ‬المغامرة‭ ‬عند‭ ‬أهلها‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المدينة‭ ‬الفينيقية،‭ ‬وتسلحت‭ ‬بالصمت‭ ‬والسرية،‭ ‬وانطلقت‭ ‬غربًا‭ ‬يدلها‭ ‬ملاَّحون‭ ‬ركبوا‭ ‬البحر‭ ‬مراراً‭ ‬إلى‭ ‬بقعة‭ ‬ظنتها‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬مرمى‭ ‬الغدر،‭ ‬قالوا‭ ‬لها‭ ‬إن‭ ‬التجَّار‭ ‬الذين‭ ‬سبقوها‭ ‬إلى‭ ‬الساحل‭ ‬الشمالي‭ ‬لإفريقيا‭ ‬أسسوا‭ ‬مع‭ ‬الملاحين‭ ‬الفينيقيين‭ ‬الأوائل‭ ‬مدينة‭ ‬لهم‭ ‬أسموها‭ ‬اأوتيكاب،‭ ‬أي‭ ‬العتيقة،‭ ‬فاختارت‭ ‬عليسة‭ ‬بقعة‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬30‭ ‬كيلومتراً‭ ‬منها،‭ ‬تبعد‭ ‬اليوم‭ ‬نحو‭ ‬15‭ ‬كيلومتراً‭ ‬عن‭ ‬تونس‭ ‬العاصمة،‭ ‬لتقيم‭ ‬مدينتها‭ ‬الجديدة‭. 

سعت عليسة بما جلبته من مال، وما تمتلكه من حيل وكياسة، إلى الحوار مع حاكم الساحل الأمازيغي، بل وعرضت عليه شراء قطعة أرض ترتاح فيها ورفقتها المنهكة من السفر الشاق بالبحر، كما تقول الأسطورة، صغيرة بمقدار ما يغطي مساحتها جلد ثور، كان المبلغ زهيداً، وقبِل به السكان، فليس أهون مساحة مما طلبت!

هنا تظهر حيلة عليسة، حيث جعلت جلد الثور شرائط رفيعة، أحاطت بمساحة واسعة من الأرض، كانت مهد «قرطاج»، أو «المدينة الجديدة»، التي تسمى بقعة فيها، حتى اليوم، «بيرصا»، أو «بيرسا»، وتعني باللغة اليونانية الجلد، أو جلد الثور، نسبة جلد ذلك الثور الكريم!

 

بين‭ ‬الثور‭ ‬والفرس

سيأتي أبناء «أوتيكا» للقاء أشقائهم في «قرطاج»، يحملون الهدايا، ويعتزمون مساعدتهم في بناء مدينتهم الوليدة. لكنهم حين يحفرون، وربما بسبب لعنة جلد الثور الخادع، يعثرون على رأس ثور، وكأنه نذير شؤم، فيختارون بقعة أخرى يحفرونها، ليعثروا فيها على رأس فرس، يمثِّل لديهم رمز القيم النبيلة للفروسية، والروح المحاربة التي قادتهم، في ما بعد، لامتلاك سواحل «المتوسط»، فتنشأ «قرطاج»، التي ستمر رحلتنا بها، وهي الرحلة التي بدأت سيراً على الأقدام، نتخطى باب البحر، لنقرأ موزاييك تونس كلها، قرطاج التي حكيت لكم عنها وسنراها، بنزرت التي سنصل إليها في ختام الرحلة، والمرسى وقمرت، موجزة جميعها في شارع الزيتونة.

يمكن لمرجعيات الحديث عن تونس في تلك الرحلة أن تأتي من أهلها الذين رأيتهم؛ مثل الشاعر منصف المزغني، والمفكر الحبيب الجنحاني، والإعلامية سعيدة الزغبي، والمسرحية هاجر حمودة زويتن، والمعلمة سعيدة الأشهب، والمترجم أيمن حسن، والحكَّاء كمال العيادي، لكن الصديق الكاتب المصري خالد سليمان المقيم في تونس، الذي يعد كتاباً عن المرويات التراثية هناك، كان الصوت الذي أضاف الكثير لكل بقعة عبرناها، بعمقها التاريخي، وحاضرها العيني، وصوتها الشفاهي.

في السوق الزيتونية، ستتعدد المهن، بألوانها ومشاربها، بأصولها ومسمياتها، بقديمها الزاهر، وحاضرها المتعثر، وكأن كل مهنة تحتاج إلى حارس يحافظ عليها، ستنقرض حين يغمض العين عن حمايتها.

 

السوق‭ ‬الزيتونية‭ ‬

أشهر المهن في السوق هي صناعة الشاشية، وهي غطاء صوفي للرأس، وهي شهيرة في تونس، وكعادة كل المهن التقليدية يُعزى قدومها إلى أكثر من مصدر، أشهرها مدينة القيروان؛ عاصمة الدولة الأغلبية، حيث جاءت الشاشية مع فرسان من مدينة شاش (طشقند الأوزبكستانية التي كانت تسمى كذلك قديماً)، وكانوا ضمن الجيوش الإسلامية الفاتحة. أما المصدر الأشهر الثاني فيرقى تاريخياً إلى تونس القرن الرابع عشر، مع قدوم الإسبان، وإذا كانت الشاشية التونسية لونها الأشهر هو الأحمر، فإن الشاشية الليبية تختار الأسود، لكننا حين نتوقف لنراقب صناعتها عند أحد ورثة المهنة الكبار، الشاب عطيل، نرى ألواناً كثيرة، ويقول لنا إن الأحمر هو الأشهر، في تونس، لكن الفنانين يختارون ألواناً مميزة أخرى.

في سوقي الشواشين، الصغير والكبير، نتوقف عند شيخهم كذلك، والطريف أنه يسمي محله بالأزبكية، وحين سألناه عن سر «الأزبكية»، قال إنه عشق أم كلثوم، وكان يستمع إلى غنائها، والمذيع يقدمها بأنها على مسرح الأزبكية، أما الأطرف، فهو كلمة «مغازة»، التي تسبق اسم المتجر والورشة، فإذا بها تحريف تونسي من كلمة «متجر» الفرنسية، والتي تُكتَب «magasin»، ومع تحريف النطق ظهرت المغازات في كل مكان تعريفاً للمتاجر، أهلية ورسمية.  

جمعتُ مراحل صناعة الشاشية في صورة واحدة، تبدأ بزرد الصوف، ثم صنع الكبوس، وتشارك النسوة في البيوت في هذه المرحلة الأولى، ثم يأتي تلبيد الكبوس، ومعالجته بالماء المغلي، بواسطة «الكرضون» في عملية «الكربلة». ثم تصبغ الشاشية، ويأتي الكرضون ثانية ليمنحها سمتها قبل أن توضع في القالب لتتخذ الشكل النهائي للشاشية التونسية.

يرتدي الشاشية اليوم المسنون، ويرتديها في حفلات ختانهم الأطفال الذكور (شاشية المطهر) وقد ارتدى البايات الحسينيون (الباي كالحاكم) الشاشية المنمقة وسميت باسمهم «شاشية البايات»، لكن عطيلاً ورفاقه في المهنة يخشون كسادها وانقراضها، حيث هبطت مبيعاتها إلا من سياح مغرمين بها، أو أبناء البلد الحريصين عليها.

وقد توقفنا كثيراً عند الشاشية لخصوصيتها، ويمكن أن نتوقف كذلك عند المقروض، وهي حلوى تقليدية، شقيقة للحلويات الشامية والمصرية، لكن أشهرها، كالشاشية، التي جاءت من القيروان. 

ها هي السوق تبيعُ جمالاً تذكاراً للزينة، لها ما يشبهها في كل مكان، وكأن بها شبهة القدوم من الشرق، لكن المحلي بارز، وهو جمل مصنوع من الخشب تربط أجزاءه مفاصل معدنية، وهناك القدور الخزفية، منها ما للطعام وفيها لإطفاء الدخان، والنايات المصنوعة من القصب، ربما سيغني عليها الرعاة الأشعار المشفرة، كما سنرى، وما دمنا ذكرنا الغناء، فلا ننسى الطبل،  والفرسان المصنوعين من القماش بشواشيهم الحمر، وحرَّاس البايات، والفوانيس النحاسية ذات الأبواب الزجاجية الملونة، والأقنعة النسوية الأمازيغية التي تذكرك بأقنعة فلورنسا، إلا أن جمال العيون الزرق، والفم المختفي ليوحي أكثر مما يفضح، والحاجبين اللذين التصقا أو كادا؛ أكثر غنجاً وجمالاً، والسجاد الذي يثرثر بقصص في كل لون، والأسمطة المصنوعة من السعف، والحقائب المصنوعة من الجلد، والجبن التقليدي، والأعشاب الطبية، والتمر... والمشاهد لا تنتهي.

في وسط ذلك كله تذكرتُ «عليسة»، حين رأيت سفينة، ظننتها لها، في بداية الأمر، وهي القادمة من البحر، لكنني حين أمعنت النظر، وأطلت الفكر، قلت إنها ملامح عربية، ولعلها مشهد من تغريبة بني هلال، لكن فكرة ثالثة أطلت وبزت ما عداها؛ إنها سفينة نوح التونسية، وقد رأيت أن أغلب كائناتها، على صغرها كانت تضم زوجين من الفيلة والغزلان والإبل والزرافي.

كان السير في السوق قد طال، وكشرقي أحب الشاي، لن أجد الشاي «الأحمر» إلا بصعوبة بالغة، فليس هنا سوى الشاي الأخضر، يضاف إليه النعناع، ويغمره حمام السُّكَّر. في مقهى من تلك المقاهي المتناثرة في السوق التي تشبه شجرة تسلقنا فروعها، سنجلس لنستمتع بكأسي شاي، وأنا أتأمل في السقف الداخلي للبناء الصغير، الذي يشبه صحن مسجد، وهي عمارة سأجدها مراراً، لا يختلف مبنى عن آخر إلا بالتقوى، أي في ما يُستخدم!

 

جامع‭ ‬الزيتونة

حين تخرج من بوابة السوق تصعد للصلاة في جامع الزيتونة، بعد أن تتوضأ خارجه، فالميضأة التي كان مكانها الصحن لم يعد يبقى من آثارها غير آبار مغطاة.

صحيح أن حسان بن النعمان هو الذي أنشأ الجامع الكبير في تونس سنة 84هـ / 703م، لكن جامع الزيتونة  الحالي لم يعد ينتمي إلى العهد الأموي، فقد أجريت تعديلات في الجامع أيام الحفصيين، وبخاصة في عهد الأمير أبي زكريا، وابتدأت الأعمال من عام 677هـ / 1275م إلى عام 680هـ/ 1278م.

تقوم مئذنة مربعة حديثة في صحن جامع الزيتونة بالزاوية الجنوبية. أما الصحن نفسه، فمحاط بـأروقة، بينه وبينها أبواب عدة؛ اثنان في الشرق، وآخران في الجنوب، وخامس في الغرب، وهي الأروقة التي أنشـئت عام 1047هـ / 1637م، كما هو موثق فوق الباب الرابع. 
أما الحرم فهو مؤلف من خمسة عشر جناحًا باتجاه الجنوب، وهناك جناح أكبر يتوسطها نهايته المحراب، يتقاطع مع جناح مـوازٍ، وفي التقاطع قبة محززة ذات رقبة مثمَّنة الأضلاع، تنفتح في كل ضلع منها نافذة مقوََّسة، وتقوم هذه القبة مستندة إلى جدار القبلة من جهة، وإلى ثلاثة أقواس من الجهات الأخرى، وهي محمولة في كل أركانها على عمودين مرمريين لهما تاجان مزخرفان.

غابة الأعمدة الرخامية في حرم جامع الزيتونة جاءت من آثار مختلفة، فكأنك في متحف، ورأسها تيجان تدل على أنها وُلدت وعاشت وسكنت معابد في قرطاج وغيرها قبل أن تأتي إلى هنا.

الكتابة فوق المحراب توثق لأعمال البناء في عهد الخليفة العباسي المستعين بالله، وأيام الأمير الأغلبي أحمد أبي إبراهيم، وكانت هذه الأعمال قد استكملت أيام الأمير زيادة الله الثاني. 
ولأن المدن التاريخية مثل كتاب متعدد الصفحات، وشجرة عديدة الفروع، فإننا حين نخرج من الجامع، سنمر بزاوية سيدي الكلاعي، التي ترجع للفترة التي أُسست فيها زاوية ابن عروس (النصف الأول للقرن التاسع أو العاشر الميلادي). وندخل زاوية ابن عروس فيغمرنا هدوء، تحت صحنها المتوج بقبة عالية، وفانوس ضخم، وتستند إلى كوة كبيرة في الجدار آنية من الماء، أحس أنها هناك منذ قرون.

في أعلى مدينة سيدي بوسعيد الصغيرة نعرف أن بها مراقد لأكثر من 500 ولي صالح، يأتي أولهم سيدي بوسعيد الباجي (ريّس الابحار)، وسيدي الجبالي وسيدي الظريف وسيدي بوفارس وسيدي الشبعان وسيدي الشهلول وسيدي عزيزي وللاّ المعمورة وللا شريفة ابنة سيدي أبوسعيد.

لم نستطع تصوير داخل الضريح، الذي يحتله سرير، للراقد أن يرى القبة وقد زيَّنها فاعل خير، ونقش على الجدار المربع الأسماء الحسنى، كما علقت سورة «تبارك» بين سور قرآنية أخرى. خارج الضريح رأينا البئر المسورة بالموزاييك، وكأن البئر عامل مشترك، بين آثار قرطاج، وصحن جامع الزيتونة ودار ابن عروس وضريح للا شريفة، وما أكثر المشترك في كل درب حللناه. 

 

هو‭ ‬البحر

هذا المشترك هو الذي جعلني أتذكر قصيدة كتبتها قبل ربع قرن، فقد بدا لي وأنا أعبر تونس الأرض، إلى قرطاج الساحل، أن الطريق تشق بحيرة تونس، وكأنها عصا موسى تشق البحر: «هو البحرُ دوامة حين يغضبُ / وأنتِ التي صغتِ فيه التمرُّد /
فإن أطلق الحوتَ يرديك/ هاتِ يديك / سندعو إلهي / بأن تصبحي يونس المعجزة، وأغدو جزيرة! هو البحر بركان شوق، وطوفان عشق، وشلال شك/ فإن ثار فينا، هربنا سويا - جناحي عصافير جنة - زوجين كنا، يناديك نوح: هلمي، إليك السفين، نلبي ... فننجو!/ هو البحر آتٍ وفرعون يسعى وراءكِ/ سلي الله يوحي لموسى عصاه / فتعلو كغيمٍ / وتهوي طريقا لقلب الحياة/  فإن صار فرعون في المنتصف / رفعتِ الجباه / فأعدمت فرعون / ظل الإله!/ هو البحر؛ أنت العروسُ / فإن همَّ... همي به أنت لا تنكصي، وشقي قميصه، فمن روض البحر غير الشواطئ؟/ وشقي بنور الفنارات ليل المرافئ/ ففي غفلة البحر... أو غفلتك
تباح الموانئ»!

إلى المدينة الجديدة «قرط حدشت»، التي حُرِّف اسمها لينطق «قرطاج»، جاءت «هاجر» حفيدة عليسة تتأمل آثار مدينة جدتها، أو ما بقي منها، لقد جاءت بعد 3200 سنة كاملة لتستعيد تاريخها، فقد كان دخول عليسة الأول لمدينتها في عام 814 قبل الميلاد.

في المخطط الأثري لقرطاج الكاملة، التي تسجل آثارها مراحلها التاريخية العديدة، سنقرأ عن كنائس بئر فتوحة وماجوروم وسان سييريان، وداموس الكريطة ودرمش، وقناطر زغوان المائية والميناء التجاري والحربي ومقابر بونية (الذي كان لقباً لحضارة قرطاج)، وصلامبو، والمسرح وحمامات أنطوني، والمعالم الدائرية وذات الأعمدة، وما بقي من كل ذلك قليل، تدل على نماذجه الكاملة مجسمات أقيمت عند باب المتحف المفتوح الذي دخلته «هاجر» تتأسى، ربما لحضارة ضاعت، أو لمصير جدة انتهت!

بعد أن استتب الأمر لـ «عليسة»، وحين ازدهرت مدينتها جاء الملك الأمازيغي «هيارباس»، الذي يحكم  الماكستانيين يهدد عشيرة المدينة وعلية قومها بالحرب أو الزواج من الأميرة عليسة، التي هربت من شقيقها الملك الفينيقي وفاء لزوجها، ومن هنا قررت أن تحمي الجميع، ذكرى زوجها ومستقبل مدينتها، فانتحرت بالخنجر، كما تقول الرواية، وهي التي ألهمت الشاعر الروماني «فرجيل» ليقدم عليسة القوية بما يليق بأميرة والرقيقة بما يتسق مع امرأة عاشقة. ها هي تصعد إلى محرقة كبيرة أمرت قومها بإنشائها، تطعن نفسها بعد أن قالت لشعبها: أنا طوع رغبتكم، وإني ذاهبة إلى زوجي.

ومنذ بدأت حكاية عليسة، التي تحول اسمها المكتوب في الحاضر إلى «إليسا» كما في لبنان، و«إليسار» كما في بلدان أخرى، سأجد في كل زاوية حكايات عن نساء مخلصات، وشخصيات مبدعات، وكذلك عن نساء حكيمات بسيطات، كما يدون خالد في كتابه، وهو يحكي أنه في أطراف الساحل، إلى الجنوب حيث تقع بلدات ريفية، كان من الممكن أن تُخطف فتياتٌ من منازلهن، حيث اعتادت الفتيات النوم على الحُصُر، فيــــأتــــي الخاطـــف من قبـــيلة جـــنوبـــية، ليلف الفتاة في الحصيرة ويهرب بها ليتزوجها. 

وحين تظل النساء في البيت الجنوبي، شبه محبوسات، لا يبقى سوى أن تبلغ قصتها لمن تسهل لهم الحركة، وليس أسهل على ذلك أكثر من الرعاة، فتقول لهم المرأة المخطوفة أبياتاً مشفَّرة مرمَّزة من الشعر، يحملها الرعاة إلى الشمال، ويسمعها الأهل المغدورون.

ثم يأتي الزوج، فيقتل، وحين تطول غيبته يخرج الأب باحثاً عنه، وينتهي به المطاف إلى محلة القبيلة القاتلة، فيسمع غناء مشفراً آخر، يقول له الحقيقة المرة، على لسان المرأة نفسها، بأن ابنه قتل وألقيت جثته في الوديان، وأن على الرجل الأشيب أن يعود بحسرته:

«روَّحْ يا شايِبْ رَوَّحْ

ولدك في الهندي مِلوَّح»

والهندي هو التين الشوكي، وهو يتكاثر هنا فيما يشبه الدغل أو الغابة، و«ملوّح» تعني أنه ملقى هناك، وهي من أغاني النساء أثناء رحي القمح وتؤدي بطقس النواح، وراوية الأغنية خالتي دوجة بوخاتم.

سنسمع عن الحوت مجدداً، ولكنه ليس الحوت في القصيدة، وإنما الحوت المرادف للسمك بالنسبة للتونسيين، فبعد أن نغادر الساحة الأثرية القرطاجية، ونمر ببيت ومزار ابنة سيدي بوسعيد ومتحف الحوت، سننطلق إلى أكلة رأس الحوت، في بنزرت!

تقول المرويات إن الصيادين حين كانوا يجمعون السمك في سراويلهم الواسعة بقلب البحر، كان السمك يعضهم، لذلك عزموا على قضم رؤوس السمك فور صيده، لذلك سُمي صيادو بنزرت بأكلة رأس الحوت.

نحن قادمون لنأكل الحوت (السمك)، جالسين على طرف من الميناء نراقب البيت الأقدم هناك، وكان صديقنا خالد سليمان يصحب ضيوف تونس إلى هنا، ويحكي لي كيف أعجبت سيدة المسرح سميحة أيوب بسمك بنزرت، مفضلة إياه، وقلت له وأنا آخذ نصيبي: وأنا أشاركها. 

كلما حللنا مكاناً تذكرنا قرطاج، فمدينة بنزرت الفينيقية كانت مركزاً تابعاً لأوتيكا (المدينة العتيقة)، مثلما كانت تونس تابعة لقرطاج (المدينة الجديدة). كانت مدينة تتمتع بحماية ملكية في عهد يوليوس قيصر اعترافاً بأهمية موقعها، والمتأمل لها، من سماء «خرائط جوجل» يدرك قيمة ذلك الخليج الطبيعي، الذي تمتلكه تونس / قرطاج، وبنزرت، الذي جعل منهما ميناءين مهمين.

 

معركة‭ ‬بنزرت‭ ‬

المؤلم بصرياً لأبناء بنزرت هو اللافتات ذات الإشارات السود التي شوَّهت سور المدينة التاريخي، وكذلك البناء الضخم (المارينا) غير المكتمل الذي يسد أفق أبناء المدينة عن رؤية البحر، لكن المؤلم نفسياً هو تلك الحكاية التي تروى عن معركة بنزرت. الاسم الرسمي لمعركة بنزرت هو معركة الجلاء، وهي مواجهة مسلَّحة دارت في يوليو1961م، بين القوات الفرنسية المرابطة قرب مدينة بنزرت والجيش التونسي تسانده أعداد من المتطوعين. وفي الوقت الذي انتظر فيه المحللون حلاً سياسياً، دخلت فرنسا أرض المعركة مستعرضة بكل ثقلها العسكري.

رأى الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة أن فرنسا تنكث بوعودها في الانسحاب، لأنها تعزز وجودها المدني الاستعماري بإحداث خدمات لجاليتها في بنزرت، ربما خوفاً من تحول تونس إلى ثكنة عسكرية لثورة الجزائر. بدأت المعركة بعد حادثة ثكنة سيدي أحمد، حيث بدأ المستعمر الفرنسي يوم 30 يونيو 1961م سلسلة توسعة للمطار العسكري بالثكنة، وتصدت قوات الحرس الوطني التونسي للعملية، وأعادت الأسلاك الحديدية إلى مكانها الأصلي، فغضب الفرنسيون، واستقبل القائم بالأعمال الفرنسي في 1 يوليو رئيس الوزراء التونسي الباهي الأدغم (الوزير الأول) والصادق المقدم وزير الخارجية ليبلغهما انزعاج فرنسا الشديد من العملية. ثم صدر بيان الديوان السياسي للحزب الدستوري يوم 4 يوليو، يعلن فشل المفاوضات حول جلاء قاعدة بنزرت من طرف الجيش الفرنسي، ويدعو إلى خوض الحرب، فبدأت التعبئة الشعبية في اليوم التالي، في كل أنحاء تونس، ووفد مئات المتطوعين من الشباب والكشافة والمقاومين إلى بنزرت، وكثّف الطيران الحربي الفرنسي قصفه للمدينة، وتضاعف عدد القتلى خاصة من المدنيين، وتواصلت الاشتباكات طوال يومي الجمعة 21 والسبت 22 يوليو حتى صدور القرار 164 عن مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، ثم وصل يوم 25 يوليو 1961م الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد إلى بنزرت وعُقد في 21 أغسطس 1961م اجتماع في الأمم المتحدة للنظر في قضية بنزرت، انتهى بإصدار قرارات لمصلحة تونس وصوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أغسطس بالأغلبية المطلقة على ضرورة فتح التفاوض بين تونس وفرنسا من أجل تحقيق الجلاء عن بنزرت، ليكون يوم 15 أكتوبر 1963م تاريخاً لجلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية.

نصعد إلى مقبرة الشهداء لنتذكر ونصلي على أرواحهم الطاهرة، ومعظمهم ماتوا ولم يستطع المتطوعون بأسلحتهم البسيطة إحضار مئات جثثهم وسط دموية القصف. 

وإذا كان هناك ما آلم البصر، وأدمى القلب، فإن ما أزعج الجميع هو أن الطريق التي كانت بين تونس وبنزرت عامرة على الجانبين بأشجار الزيتون، فكأن للطريق جناحين بلون أخضر، قد تنازلت عن أحدهما لمصلحة التجريف، فقطعت أشجار الزيتون لتنشأ تجارة جديدة، خلال السنوات القليلة الماضية، في الأرض الزراعية التي تحولت إلى بناء عشوائي غير جمالي لمتاجر وبيوت ومطاعم على الطريق، إنه سلوك لم يكن موجوداً لبلد اسمه «تونس الخضراء». لقد ظهر أعداء اللون الأخضر، ليغتالوه، غير آبهين بما يترتب على ذلك من خسائر للأجيال القادمة. 

في طريق العودة، من بنزرت إلى تونس، كان الليل قد حل، وكان القمر قد استدار، وكانت رائحة البحر تقص علينا سيرة النساء، اللائي جئن وعشن وحكمن وروين، من «عليسة» إلى «للا شريفة»، وكلها سيَر عطرة خضبت الأرض فوهبتها كل ما يُستَحب، وأنبتت بها كل ما يستطاب، هن الشواطئ التي روَّضت البحار، وهن الفنارات التي شق نورها ليل المرافئ .

الصورة‭ ‬توضح‭ ‬أحد‭ ‬المعالم‭ ‬الذي‭ ‬رأينا‭ ‬فيه‭ ‬مدرجاً‭ ‬وحوضاً‭ ‬وبعض‭ ‬الأعمدة،‭ ‬ورؤوسها‭ ‬أو‭ ‬تيجانها‭ ‬متناثرات‭.

‮«‬موزاييك‮»‬‭  ‮«‬عليسة‭ ‬وبحارتها‮»‬

وجه‭ ‬لسيدة‭ ‬قرطاج‭ ‬من‭ ‬الموزاييك،‭ ‬أشهر‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬محفوظة‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬البيزنطي

‭ ‬باب‭ ‬البحر أو باب‭ ‬بحر،‭ ‬أحد‭ ‬أبواب‭ ‬المدينة‭ ‬العتيقة‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬التونسية،‭ ‬وقد‭ ‬بني‭ ‬بسورها‭ ‬الشرقي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الأغالبة،‭ ‬وقد‭ ‬هدمت‭ ‬الأسوار‭

‬وأعيد‭ ‬تركيب‭ ‬الباب‭ ‬الذي‭ ‬سُمي‭ ‬باب‭ ‬فرنسا‭ ‬خلال‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬للبلاد،‭ ‬ومنه‭ ‬سنعبر‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬الزيتونة،‭ ‬وجامعها‭.‬

في‭ ‬سوقي‭ ‬الشواشين،‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬شيخهم‭ ‬الذي‭ ‬سمى‭ ‬محله‭ ‬الأزبكية،‭ ‬وحين‭ ‬سألناه‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬الاسم‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬عشق‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬

وكان‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬غنائها،‭ ‬والمذيع‭ ‬يقدمها‭ ‬بأنها‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬الأزبكية‭!‬

الحمام‭ ‬يحلِّق‭ ‬حول‭ ‬مئذنة‭ ‬مربعة‭ ‬حديثة‭ ‬أقيمت‭ ‬بالزاوية‭ ‬الجنوبية‭ ‬من‭ ‬صحن‭ ‬جامع‭ ‬الزيتونة‭. ‬

من‭ ‬التلة‭ ‬التي‭ ‬قادتنا‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬بنزرت،‭ ‬برزت‭ ‬بيوتها‭ ‬البيضاء‭ ‬اللون،‭  ‬وخليج‭ ‬الميناء‭ ‬والسفن‭ ‬العابرة‭ ‬له،‭ ‬ونوقن‭ ‬أهميتها‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬فرنسا‭ ‬تتمسك‭ ‬بها