التراث الهندي والثقافة العربية

التراث الهندي والثقافة العربية

‭ ‬حظي‭ ‬التراثُ‭ ‬الهندي‭ ‬بمكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬شكّل‭ ‬رافداًً‭ ‬من‭ ‬روافدها‭ ‬العلمية‭ ‬والأدبية،‭ ‬ولكن‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نؤكد‭ ‬أن‭ ‬المؤثر‭ ‬الخارجي‭ - ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬قوياً‭ - ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يُسهم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬حضارة‭ ‬أي‭ ‬شعب‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬يملك‭ ‬من‭ ‬القدرات‭ ‬العقلية‭ ‬والمادية،‭ ‬التي‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬استيعاب‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬وتجاوزها‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الخلق‭ ‬والإبداع‭. ‬ويستهدفُ‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬التراث‭ ‬الهندي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬جوانب‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭.‬

 صنَّف مؤرخو الثقافة الهند من الأمم ذات الحضارات العريقة، فهذا الجاحظ، المتوفى عام   255 هـ، يقول في «البيان والتبيين»: «إن الأمم التي فيها الأخلاق والآداب والحِكَم والعلم أربع، وهي: العرب والهند وفارس والروم». وهذا صاعد الأندلسي (ت 462 هـ)، يقسّم الأمم في كتابه «طبقات الأمم» إلى طبقتين: طبقة عُنيت بالعلم وطبقة لم تعن به، ويقول: «أما الأمة الأولى، وهي الهند، فأمة كثيرة العدد عظيمة القدْر فخمة الممالك، قد اعترف لها بالحكمة وأقرّ لها بالتدبير في فنون المعرفة، جميعُ الملوك السالفة والقرون الخالية».

 تعود العلاقاتُ بين العرب والهند إلى العصور القديمة، فقد نقل التجارُ من الهند التوابل والأحجار الكريمة وطيب العود والسيوف، وتداول العرب بعض المعارف والعقاقير الهندية، كما انتشر اسم هند بين العرب انتشاراً واسعاً. ولكن بعد ظهور الإسلام، تعددت معابر الاتصال بين العرب والهند للأسباب التالية:

 1- الفتوحات العربية في الهند، التي أدت إلى الاتصال المباشر بين الفاتحين والحضارة الهندية. وكانت هذه الفتوحات قد بدأت في العصر الأموي واُستكملت في العصر العباسي. وترك البيروني (ت 440 هـ)، الذي صحب الغزنويين في حملاتهم على الهند، مؤلفات أطل العرب من خلالها على ثقافة الهند، ولاسيما كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة». 

2 - لعب الهنود الذين اعتنقوا الإسلام دوراً كبيراً في نقل علوم الهند وآدابها إلى الثقافة العربية، فقد ظهر بينهم شعراء ولغويون وفقهاء، أمثال الشاعر أبي عطاء السندي (ت 180 هـ)، والفقيه أبي معشر السندي (ت 170 هـ).

 3- نقل العلماء الهنود الذين توافدوا على بغداد، في العصر العباسي، كما سنرى، الكثير من كنوز التراث الهندي إلى العربية من خلال ترجماتهم ومؤلفاتهم. 

4- أسهمت الجاليات الهندية، التي استقرت في المدن العربية، في تعزيز التفاعل بين الثقافتين الهندية والعربية، فقد كانت في البصرة، مثلاً، جالية كبيرة من الهند والسند، وعمل أفرادها في ميدان التجارة والصيرفة. وبالتأكيد فقد تخلل نشاطها هذا علاقات اجتماعية وأدبية وغيرها. 

5- كانت الحضارة الفارسية معبراً رئيساً في انتقال التراث الهندي إلى الثقافة العربية، فالعلاقات بين فارس والهند كانت أكثر عراقة وتنوعاً مما كانت عليه بين العرب والهنود، ولذلك فإن جزءاًً من التراث الهندي وصل إلينا عبر الفارسية، مثل «كليلة ودمنة». ولعل أهم الميادين التي كان فيها تأثير التراث الهندي في الثقافة العربية واضحاً، هي:

1‭ - ‬الأدب‭ ‬واللغة‭:‬ كان التأثير الهندي في هذا الميدان واسعاً، فقد ذكر ابن النديم (ت 385 هـ) في «الفهرست» أشهر كتب الأدب الهندي التي نقلت إلى العربية، مثل «كليلة ودمنة» و«السندباد الكبير» و«السندباد الصغير» و«أدب الهند والصين» و«الهند في قصة آدم عليه السلام»، وغيرها. وكان «كليلة ودمنة» في مقدم ما ترجم إلى العربية، وهو من تأليف الفيلسوف الهندي بيدبا، وجلبه من الهند الحكيم الفارسي برزويه، وتُرجم إلى الفارسية للملك كسرى أنو شروان (ت 579م). وفي عهد الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ) ترجمه ابن المقفع (ت 142هـ)، من الفارسية إلى العربية. وهو يتألف من حكايات ساقها المؤلف على ألسنة الحيوانات. واستهدف منها تقديم نصائح أخلاقية وسياسية واجتماعية للحكَّام والشعوب، لم يكن يجرؤ على البوح بها مباشرة خوفاً من بطشهم. وربما استهدف ابن المقفع أيضاً من نقله إلى العربية تقديم النصائح للعباسيين، ولقد أحدث الكتاب دوياً كبيراً في الثقافة العربية، لما اشتمل عليه من قيمة أدبية وسياسية واجتماعية وأخلاقية، بل بلغ إعجاب المثقفين به أنه نُظم شعراً على يد أبان بن عبدالحميد في أربعة عشر ألف بيت من الشعر. كما صنف سهيل بن هارون كتاباً للخليفة المأمون بعنوان «ثعلة وعفرة» على نسق «كليلة ودمنة». 

 وحظيت قصص «السندباد» بأهمية كبيرة في الأدب العربي، وهي هندية الأصل، وقد ذكرها المسعودي (ت 345هـ) في «مروج الذهب» باسم «الوزراء السبعة»، ناسباً إياها إلى الفيلسوف الهندي «سندباد»، وهي تدور حول الوزراء السبعة الذين استطاعوا من خلال قصصهم أن يحولوا دون إقدام الملك على التسرُّع في قتل ابنه بتحريض من زوجته. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن قصص «السندباد» ليست أسطورية، وتدور أحداثها خارج حدود الزمان والمكان، وإنما هي واقعية جرت في عصر الرشيد (ت 193هـ) ومسرحها، كما يقول صاحب كتاب «تاريخ الأدب الجغرافي»، الهند وأرخبيل الملايو. 

 أما قصص «ألف ليلة وليلة»، فقد كشفت الدراسات النقدية أن هذه القصص هي حصيلة عناصر ثقافية هندية وفارسية وعربية ويونانية، حيث تفاعلت مع بعضها في هذه القصص وشكلت كلاً واحداً، والقصة المحورية فيها هندية الأصل. 

 كما تأثرت العربية بالتراث اللغوي الهندي. وأشار الجاحظ إلى أن العرب كانوا على دراية بعلم البلاغة والبيان عند الهنود. كما دخلت العربية أسماء بعض النباتات والحيوانات الهندية مثل: الأبنوس والببغاء والكافور والخيزران والفلفل، وغيرها.

2-‭ ‬الطب‭:‬ تحدث صاحب «الفهرست» عن أشهر الأطباء الهنود ومؤلفاتهم، كما أفرد ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ) في «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» فصلاً عن الأطباء الهنود، بيّنَ فيه أن أعداداً كبيرة من أطباء الهند توافدت على بغداد بناء على طلب الخلفاء، فعندما مرض الرشيد وفشل أطباء بلاطه في علاجه، استدعى الطبيب الهندي منكه. وبالفعل وصل الأخير إلى بغداد وعالج الخليفة وبرئ على يديه فأجرى له رزقاً واسعاً وأموالاً كافية. وفتحت هذه الواقعة الباب على مصراعيه لقدوم الأطباء الهنود إلى بغداد. كما وفد على بغداد أطباء هنود بناء على طلب الوزراء البرامكة، الذين كان لهم الدور المتميز في استحضار الثقافة الهندية إلى المجتمع العباسي. وأكد ذلك الجاحظ بقوله إن يحيى اجتلب أطباء من الهند، مثل: منكه وصالح بن بهلة وبازكير، وغيرهم. ويذكر ابن النديم أن يحيى نفسه بعث بوفد إلى الهند لجلب عقاقير ومعلومات عن أديانها. 

 وقد توزعت أعمال الأطباء الهنود في بغداد بين ممارسة مهنة الطب في بلاط الخلفاء وكبار رجال الدولة مقابل مرتبات ومكافآت، وبين ترجمة الكتب، إما من الهندية إلى العربية مباشرة وإما عبر الفارسية. ويذكر ابن النديم نحو اثني عشر كتابا في ميدان الطب قد ترجمت إلى العربية، منها كتاب «مائة داء ومائة دواء»، وكتاب «التوهم في الأمراض والعلل» لمؤلفهما الطبيب الهندي توقشتل. وكتاب «أسرار المواليد» للطبيب كنكه الهندي. ويخبرنا ابن أبي أصيبعة أن عدداً من حكماء الهند جمعوا بين الطب وعلم النجوم، وترجمت مؤلفاتهم إلى العربية أمثال: صكه وداهر وغيرهما. ويكشف أن يحيى البرمكي طلب من الطبيب منكه ترجمة كتاب «السموم» لمؤلفه الهندي شاناق من الهندية إلى الفارسية، والذي نقله أبوحاتم البلخي من الفارسية إلى العربية. كما تولى بعض الأطباء الهنود إدارة البيمارستانات (المشافي)، فالطبيب الهندي ابن دهن تولى إدارة بيمارستان البرامكة في بغداد بتكليف من يحيى البرمكي.

3-‭ ‬الفلك‭:‬ لا شك في أن التأثير الهندي كان عاملاً مهماًًً في نشأة علم الفلك عند العرب والمسلمين. فقد وفدت على الخليفة المنصور عام 154هـ جماعة من العلماء الهنود، وكان من بينهم عالم في الفلك يحمل كتاباً باللغة السنسكريتية يتعلق بعلم النجوم، وهو من تأليف الفلكي الهندي براهمكبت، فأمر الخليفة بترجمته إلى العربية، وبأن يقوم العلماءُ العرب بتأليف كتاب اعتماداً عليه، كي يُتخذ مرجعاً لهم في حساباتهم الفلكية. وبالفعل قام بترجمته محمد بن إبراهيم الفزاري، وعُرف باسم «السندهند»، وعمل منه زيجاً (أي جداول فلكية)، وظل الاعتماد عليه قائماً حتى أيام الخليفة المأمون، ليبدأ بعدها استخدام الجداول الفلكية التي وضعها الجغرافي اليوناني بطليموس (ت 170م).

4-‭ ‬علم‭ ‬الحساب‭: ‬اطلع العرب على حساب الهنود، وأخذوا منه نظام الترقيم، حيث رأوا أنه أفضل من الترقيم على حساب الجُمل الذي كان شائعاً بينهم. وكانت لدى الهنود أشكال للأرقام، اختار العرب منها سلسلتين، عرفت إحداهما بالأرقام الهندية، وهي التي تستعمل اليوم في أكثر الأقطار العربية، وعرفت الثانية بالأرقام الغُبارية، التي انتشر استعمالها في بلاد المغرب والأندلس، ومنها انتقلت إلى أوربا وعرفت بالأرقام العربية. وتعود تسميتها بالغبارية إلى أن أهل الهند كانوا يأخذون غباراً ويبسطونه على لوح من خشب ويرسمون عليه الأرقام التي يحتاجون إليها في عملياتهم الحسابية. وقد استعمل العرب النقطة لتدل على الصفر في الأرقام الهندية، والدائرة في الأرقام الغبارية، وذلك حتى لا يحصل التباس بين الدائرة والرقم خمسة في الأرقام العربية. ويعود الفضل في نقل الأرقام الهندية إلى الخوارزمي (ت 235هـ) الذي وضع قواعد استعمالها.

5-‭ ‬الحِكَم‭ ‬والأمثال‭:‬ كان ملوكُ الصين يُطلقون على ملوك الهند اسم «ملوك الحكمة»، وذلك لشهرة تراثهم بالحِكم والمواعظ. ويذكر ابن النديم بعض الكتب المتعلقة بهذا الميدان، مثل كتاب «شاناق الهندي في الآداب»، وكتاب «الهند بين الجواد والبخيل». وقد تأثرت الثقافةُ العربية بهذا الباب من أبواب التراث الهندي. ومن يطلع على بعض كتب التراث العربي يكتشف ما تزخر به من الحِكم والأمثال الهندية، مثل كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة (ت 276هـ)، و«العقد الفريد» لابن عبدربه (ت 328هـ)، و«سراج الملوك» للطرطوشي (ت520هـ)، وغيرها. وكانت هذه الحِكم والأمثال الهندية في معظمها نصائح سياسية وأخلاقية واجتماعية، مثل: «أفضل السلطان من أمنه البريء وخافه المجرم وشر السلطان من خافه البريء وأمنه المجرم». و«لا يُكثر الرجلُ على أخيه الحوائج، فإن العجلَ إذا أفرط في مصّ أمه نطحته ونحّته». 

6-‭ ‬الاقتصاد‭:‬ شكّلَ الاقتصاد الهندي مورداً من موارد خزينة الدولة، فإلى جانب الضرائب، التي كانت تجبى من السكان، تدفقت سلع الهند إلى مدن الخلافة، مثل التوابل والعطور والأحجار الكريمة وغيرها. كما دخلت المشرق العربي الكثير من الأشجار الهندية التي نجحت زراعتها، على قول المسعودي، في عُمان والعراق والشام ومصر، مثل النارنج والأترج (ثمرة كالليمون الحامض). ويَذكر أن العرب جلبوا الجاموس من الهند، وهي موطنها الأصلي، إلى العراق في العصر الأموي، وأن أهل الشام شكوا من كثرة هجوم السباع عليهم، فوضعت الدولة الأموية أربعة آلاف جاموسة على حدود الشام الشمالية، لأن الجاموس عدو للأسود. وقد اهتم أهل فلسطين بتربية الجواميس للإفادة من لبنها ولحمها. كما جلب العرب من الهند الفيلة، ويقول المسعودي إن الخليفة المنصور كان يقتني الفيلة من أجل الحروب والزينة في الأعياد. ومن المعروف أيضاً أن الخليفة الرشيد بعث إلى الإمبراطور شارلمان (ت 814م) جملة من الهدايا، وفي مقدمها فيل أبيض تم تجهيزه بأفخر جهاز. هذا وجلب الأثرياء العرب ألواناً لا حصر لها من الطعام من الهند، ودفعوا فيها أثماناً تفوق الوصف أحيانا.

7‭ ‬–‭ ‬لعبة‭ ‬الشطرنج‭:‬ ومما أُدخل من التراث الهندي في الثقافة العربية «لعبة الشطرنج»، وهي لعبة نشأت في الهند. وقد أشار المسعودي إلى أن الشطرنج اخترع في الهند، وأن الهنود استخدموا العاج في صناعته، كما ذكر قواعد هذه اللعبة. وأكد ذلك أيضاً صاعد الأندلسي. وانتشر اللعب بالشطرنج في المجتمع العباسي، حتى أن بعض الفقهاء كان يلعب بالشطرنج، مثل سعيد بن جبير، على قول القلقشندي (ت 821). 

 الخلاصة: بناءً على ما تقدم، يتبين لنا أن التراث الهندي أثرى الثقافة العربية أيما إثراء، وتفاعل العلماء العرب والمسلمون مع هذا التراث بروح موضوعية وعقلية نقدية، ما مكنهم من إبداع ثقافة جديدة حظيت بمكانة متميزة في تاريخ الحضارة الإنسانية.

بوابة‭ ‬الهند‭ ‬

الحصن‭ ‬الأحمر‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬نيودلهي