تراث ليبيا الحضاري.. ضحيّة للنهب والتدمير

تراث ليبيا الحضاري.. ضحيّة للنهب والتدمير

لا‭ ‬يعرف‭ ‬سوى‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المختصين‭ ‬بعلم‭ ‬الآثار‭ ‬ما‭ ‬تتمتع‭ ‬به‭ ‬أرض‭ ‬ليبيا‭ ‬من‭ ‬كنوز‭ ‬أثرية‭ ‬ومعالم‭ ‬معمارية‭ ‬بديعة‭ ‬وتراث‭ ‬ثقافي‭ ‬وحضاري‭ ‬عريق‭ ‬في‭ ‬القِدم‭ ‬وثري‭ ‬في‭ ‬تنوّعه‭. ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬دولة‭ ‬الاستقلال‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬التي‭ ‬يعود‭ ‬تأسيسها‭ ‬إلى‭ ‬أوائل‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬تولي‭ ‬ذلك‭ ‬التراث‭ ‬العظيم‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬السياحة،‭ ‬خاصة‭ ‬الثقافية‭ ‬منها،‭ ‬من‭ ‬أولويات‭ ‬سياستها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬فكانت‭ ‬معرفة‭ ‬ما‭ ‬تضمّه‭ ‬الأرض‭ ‬الليبية‭ ‬الشاسعة‭ ‬الأرجاء‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الحضارات‭ ‬العديدة‭ ‬والعظيمة‭ ‬التي‭ ‬مرّت‭ ‬عليها‭ ‬مقتصرة‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭ ‬على‭ ‬علماء‭ ‬الآثار‭ ‬ودارسيها،‭ ‬خاصة‭ ‬الغربيين‭ ‬منهم،‭ ‬وظلت‭ ‬غائبة‭ ‬عن‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬حتى‭ ‬أبناء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭. ‬

غير أن ليبيا كانت أرض الحضارات عبر التاريخ... حضارات مازالت آثار معالمها المعمارية شاهدة على عظمتها؛ فمن الآثار البونيقية والرومانية في غرب البلاد والإغريقية والمصرية في شرقها إلى البربرية في الجنوب، تحتضن أرض ليبيا روائع إبداعات فنية قلّما توجد في غناها وتجتمع في تنوّعها وعظمتها في بلاد أخرى. كما توجد فيها مواقع تاريخية فريدة من نوعها تعود إلى ما قبل عصور التاريخ، تتضمّن في ما تتضمّن، رسوماً صخرية من أقدم ما تمّ اكتشافه في العالم أجمع، فضلاً عن آثار مغمورة بالمياه على طول شاطئ البحر الأبيض المتوسط. ولليبيا خمسة مواقع ثقافية مسجّلة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهي القائمة التي تضمّ الممتلكات الثقافية والمواقع الطبيعية ذات القيمة العالمية الاستثنائية، التي تتجاوز أهميتها حدود الوطن والمنطقة الجغرافية التي تقع فيها، لترتفع إلى مستوى التراث الإنساني، وهي التالية: «موقع لِبدة الأثري (لبتس ماغنا - لِبدة الكبرى)»، و«موقع سبراطة الأثري»، و«موقع شحات (قورينة) الأثري»، وأُدرجت جميعها في القائمة في عام 1982، و«مواقع تادرارت أكاكوس الصخرية»، وسُجّلت في عام 1985، و«بلدة غدامس القديمة»، سُجّلت في عام 1986. 

 

تخريب‭ ‬ونهب

إن هذا التراث العظيم الذي خلّفته الحضارات الإنسانية القديمة، التي كانت أرض ليبيا مسرحاً لها عبر التاريخ، بل وما قبل تدوين التاريخ، يتعرّض للتخريب والنهب والدمار في السنوات الأخيرة، خاصة منذ اندلاع الأحداث المأساوية الدامية والخطيرة في الأراضي الليبية، وإن لم يكن ذلك التراث الثقافي في مأمن من التخريب المتعمَّد والبناء العشوائي المسيء ما قبل تلك الأحداث، بسبب الإهمال وضعف التمويل والتخطيط وسوء الإدارة وغياب الوعي الجماهيري بأهمية التراث الثقافي والحضاري في المجتمع. وقد يبدو الحديث نافلاً عما تتعرّض له المعالم التاريخية وآثار الحضارات الغابرة من أخطار في ليبيا أمام المأساة الإنسانية القاتلة في حاضر البلاد والأسئلة الحارقة في أتون النزاع المسلح عن مستقبلها. وليس الأمر كذلك، فالدراسات الثقافية الحديثة تُجمع على أن التراث الثقافي يمثّل مدخلاً إلى تحقيق هويَّة وطنية مشتركة، ويشكّل مورداً أساسيّاً للدخل القومي، كما أنه ركيزة لربط العلاقات مع العالم الخارجي، فضلاً عن أن الثقافة تلعب دوراً كبيراً في بناء اللُحمة الاجتماعية، وتساهم بذلك في تحقيق التصالح والسلام في داخل المجتمعات البشرية. كذلك فقد أصبح معروفاً أن الاتجار غير المشروع بالآثار، خاصة ما نُهب من آثار سورية والعراق وليبيا واليمن ومصر، غدا من أخطر السبل التي تنتهجها الجماعات المسلحة لتحقيق الأرباح الطائلة لتمويل المجموعات المتطرّفة والأعمال الإرهابية، إلى جانب سعي تلك الجماعات الخطيرة إلى تقويض الأسس الثقافية التي لطالما كانت مرجعاً للبناء الوطني والقومي الحديث بمقوّماته التاريخية وأبعاده الحضارية، التي استقى منها أبناء الأمة العربية في عصرنا هوّيتهم الثقافية التي انصهرت فيها روافد حضارية متنوّعة كانت الأرض العربية مسرحاً لها عبر تاريخ طويل، اغتنت بها وأغنتها. ولئن كانت الانتهاكات التي تعرّض لها التراث الثقافي وما زال في كل من العراق وسورية ومصر خاصة، موثّقة ومعروفة بشكل واسع، فإن ما أصاب ذلك التراث في ليبيا من نهب وهدم وتخريب لم تنتشر أنباؤه خاصة في وسائل الإعلام العربية، في الوقت الذي نال فيه ما يستحق من اهتمام في الإعلام الغربي وفي دوائر المختصّين ومعظمهم من الغربيين الذين عملوا بالتنقيب في المواقع التاريخية بليبيا أو من دارسي آثار الحضارات التي مرّت بأراضيها. فقد حدثت عمليات نهب واسعة وخطيرة لآثار ليبيا منذ عام 2011 لا مجال لتعدادها في هذه المقالة (يُنظر حصر أولي لها فضلا عن عمليات نهب الآثار في الأراضي الليبية قبل هذا التاريخ في الموقع الإلكتروني: 

https://www.temehu.com/cities_sites/museumvandalism-archaeological-robberies.com).

 غير أن أخطر عمليات النهب حدثت في بنغازي بُعيد انطلاق الثورة في ليبيا، وتحديداً في شهر مايو عام 2011، وقد وصفها أحد الخبراء بأنها إحدى كبريات عمليات السرقة في تاريخ الآثار، إذ تمّ نهب ما يُعرف بـ«كنز بنغازي»، وهو مجموعة آثار كانت محفوظة في البنك التجاري بالمدينة، تتمثل في ما يزيد على 7700 قطعة نقود تاريخية مسكوكة من الذهب والفضة والبرونز لا تُقدّر بثمن، يعود بعضها إلى أيام الإسكندر المقدوني الكبير، وبعضها الآخر إلى عام 570 قبل الميلاد، وكذلك إلى عصور تاريخية لاحقة بما فيها العصور الإسلامية الأولى، ويشمل هذا «الكنز» أيضا مجوهرات وميداليات وحلي ومجموعة من الأحجار الكريمة، إلى جانب نحو 50 قطعة من اللُقى الأثرية والتماثيل البرونزية والزجاج والعاج. وقد جُمعت معظم قطع هذا الكنز بين عامي 1917 و1922 من معبد أرتميس، إلهة الصيد، في موقع شحات (قورينة) الأثري. وتعرّضت عديد من المواقع الأثرية في أنحاء مختلفة بليبيا للتخريب والهدم والتدمير، فتم في عام 2013 استهداف جامع أحمد باشا القرمنلي، الذي شُيّد في القرن الثامن عشر عند مدخل السوق في داخل المدينة القديمة بطرابلس، وهُشّمت مزارات ثلاثة أولياء تقع عند مدخله تعود إلى القرن العاشر. ويُعدّ ما أصاب موقع شحات (قورينة) الأثري، المصنّف تراثاً عالمياً، من أكبر عمليات تخريب الآثار في العصر الحديث، إذ جرى في شهر أغسطس عام 2013 استخدام الجرافات لهدم ما يزيد على كيلومترين من المدافن الإغريقية التاريخية فيه، وهي مدافن تمتد على مساحة عشرة كيلومترات وتُشكّل أحد أكثر آثار العالم القديم اتساعاً وأعظمها تنوّعاً، وذلك من قِبل سكان المنطقة لبناء مساكن ومحال تجارية. وقبل ذلك تعرّضت آثار موقع سبراطة الأثري، وهو أيضاً تراث عالمي، لتخريب بعض التماثيل الموجودة بالقرب من مسرح المدينة الأثري، وسُرق عدد من القطع الأثرية من متحف المدينة، وتم تحطيم تمثالين ضخمين قائمين أمام متحفها وسُرق رأساهما. وتعرّض موقع تادرارت أكاكوس، الذي يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، لتشويه رسومه الصخرية وتخريبها، وذلك غيض من فيض ما يتعرّض له التراث الثقافي العظيم في أرض ليبيا من أخطار تهدد وجوده، وهو ما يشكّل خسارة لا تُعوّض لتاريخ البلاد، وإفقاراً للتراث الثقافي للمنطقة العربية بأسرها وللحضارة الإنسانية جمعاء. 

ولا يمكننا أن ندرك فداحة الخسارة الناجمة عن فقدان هذا التراث الثقافي وضياع قيمته العالمية الاستثنائية ما لم نكن على اطلاع عليه ومعرفة بأهميته في التاريخ الثقافي البشري. وسأعرض في ما يلي تعريفاً مختصراً بالمواقع الخمسة في ليبيا المسجلة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، التي قرر المجتمع الدولي أنها ذات قيمة عالمية استثنائية بالنسبة للبشر جميعاً، معتمدة بذلك إلى حدّ بعيد على الكتاب العلمي القيّم الذي يُعرّف بمواقع التراث العالمي في المنطقة العربية وكان عددها ستة وستين موقعاً ثقافياً وطبيعياً حتى عام صدوره في 2011 عن كل من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ووزارة الثقافة في مملكة البحرين، وقد أشرفت عليه ووضعت نصوصه وحررته هذه الكاتبة، بصفتها مدير إدارة الثقافة بالمنظمة العربية حينذاك. وقد صدر الكتاب باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية في أربعمائة صفحة ونيّف، وتمّ التقاط صور في تلك المواقع خصوصاً للنشر في الكتاب من قبل المصوّر الفرنسي المتخصص بتصوير المواقع الأثرية جان جاك جلبرات، الذي يتعاون معي مجدداً هنا في تقديم بعض الصور التي التقطها للمواقع الثقافية بليبيا، للتعريف بتلك الآثار وإبراز روعتها وأهميتها في التاريخ الثقافي والفني الإنساني.

   

موقع‭ ‬لبدة‭ ‬الأثري‭ ‬

‭(‬لبتس‭ ‬ماغنا‭ - ‬لبدة‭ ‬الكبرى‭)‬

كانت لبدة الكبرى (لبتس ماغنا) إلى جانب كل من سبراطة وأويا (طرابلس)، إحدى البلدات التجارية الشهيرة الثلاث وأكبرها التي تألفت منها ولاية تريبوليتانيا الرومانية (وتعني المدن الثلاث) في شمال ليبيا. أُسست لبكي، وهو اسمها الأصلي، في فترة مبكّرة من الألفية الأولى قبل الميلاد، وقد اختارها الفينيقيون لمينائها الطبيعي وأرضها الخصبة. واشتهرت المدينة في القرن الرابع قبل الميلاد حين أصبحت قرطاج قوة عظمى، وظلت تحت سيطرة البونيين حتى أوائل القرن الثاني قبل الميلاد. وقد استولى عليها النوميديون وخضعت لهم في الفترة ما بين 218 و149 قبل الميلاد رغم تمكّـنها من الاحتفاظ بحكم ذاتي محدود. وتعرضت لبدة الكبرى بعدئذ لغزو الرومان، وقد باتت منطقة متنازعاً عليها لما كان لها من دور بوصفها محطة للقوافل على الطريق الرابطة بين ساحل البحر الأبيض المتوسط والسودان.

 تأثرت لبدة الكبرى، بل ولاية تريبوليتانيا بأسرها، خلال الجزء الأكبر من هذه الألفية الأولى، تأثراً كبيراً بقرطاج. وقد اختار سكان المدينة، حتى حين أصبحت مدينتهم جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، الاحتفاظ بدين مؤسسيها وبلغتهم وبأساليبهم التجارية. وتمثّل الآثار البونية التي اكتشفت قرب ميناء لبدة الكبرى وفي المناطق المخصصة للمدافن، أدلّة قاطعة على سيادة الحضارة الفينيقية-البونية، تثبت ما تمّ استنتاجه من اللقى الأثرية في قرطاج. وتتمثل المرحلة الإمبراطورية الأولى بحمامات هادريان وتعود إلى عام 127 للميلاد، وقوس تايبيريوس، وقوس تراجان الذي أنجز عام 110 للميلاد. 

تغيّـرت حال لبدة الكبرى وازدهرت حين اعتلى عرش روما عام 193 للميلاد أحد أبنائها وهو سبتيموس سفيروس، فقد عمل الإمبراطور على بناء مدينة مولده ليجعل منها إحدى أجمل مدن الإمبراطورية. وقد شهدت فترة حكمه التي امتدت من عام 193 إلى عام 211، بناء ساحة عمومية جديدة (فوروم) وباسيليقا وميدان السباق والمسرح المدرّج وطريق رئيسة معبّدة ومرافق جديدة عديدة للميناء من ضمنها بناء منارة. وما زال الميناء القديم موجودا بحوضه الاصطناعي الذي تزيد مساحته على مائة ألف متر مربع، بأرصفته وحصونه ومخازنه وهياكله. ويُعدّ هذا الميناء من روائع الإنجازات التقنية الرومانية، وقد تمثلت في بناء سدّ لتخزين المياه وقناة لضبط تدفق نهر لبدة. وقد شيّد سفيروس قوس النصر عام 203 عند تقاطع الطريقين الرئيستين، إحداهما المتجهة من الشمال إلى الجنوب، والأخرى المتجهة من الشرق إلى الغرب. ويُجمع علماء الآثار على أن لبدة الكبرى تشكّل مثالاً فنياً فريداً من نوعه في مجال التخطيط الحضري.  

 استولى البيزنطيون على لبدة الكبرى في القرن الرابع واستسلمت المدينة لغزوات قبائل بني هلال البدوية بعد ذلك بسبعة قرون. وقد أجريت حفريات معقّدة لإعادة اكتشافها في العصر الحديث لفصلها عمّا أحاط بها من الرمال المتحرّكة. وكان آخر الاكتشافات في الموقع، ذلك الذي توصل إليه فريق من العلماء من جامعة هامبورج الألمانية في عام 2006، وهو لوحة فسيفساء زاهية الألوان، ذات نوعية استثنائية الأهمية، يبلغ طولها ثلاثين متراً، ويعود تاريخها إلى الفترة ما بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد. وتصوّر اللوحة محارباً يقاتل غزالاً، وأربعة شبان يصارعون ثوراً برّياً، ومصارعاً يستريح بعد أن ذبح خصمه. 

 

موقع‭ ‬سبراطة‭ ‬الأثري

كانت سبراطة الواقعة على ساحل منطقة تريبوليتانيا، أحد أوائل المراكز التجارية الفينيقية في شمال إفريقيا. وقد شكّلت المدينة حلقة وصل بين خليج سرت والمناطق الإفريقية الداخلية، وهو ما جعل منها مركزاً تجاريّاً في العهد البوني. وبعد أن قُسّمت الإمبراطورية القرطاجنية، أصبحت سبراطة جزءًا من ماسينيسا في المملكة النوميدية التي لم تعمّـر طويلاً. وفي عام 46 قبل الميلاد، ألحقت سبراطة بمقاطعة إفريقيا الجديدة الرومانية بعد انتصار يوليوس قيصر على حليفه السابق، القائد العسكري الروماني بومبي. وقد أدى قرب موقع سبراطة من لبتس ماغنا (لبدة الكبرى)، مسقط رأس الإمبراطور سبتيموس سفيروس، إلى ازدهارها من جديد خلال فترة حكم عائلة سفيروس. وقد هُدمت سبراطة، كما هدمت لبتس ماغنا، بفعل الزلزال الذي ضرب المنطقة في عام 365م، وهو من أكبر الكوارث التي شهدها التاريخ، وأعاد البيزنطيون بناءها على نطاق أصغر مما كانت عليه. ويروي المؤرخ ابن خلدون، الذي عاش في القرن الرابع عشر، أن قبيلة بربرية من نفّـوسة كانت تسكن سبراطة في زمن الفتح العربي.

اعتمد اقتصاد سبراطة اعتماداً كبيراً على التجارة. وقد اختص تجّارها بتصدير السلع الإفريقية التي كانوا يأتون بها من كل من غدامس وفـزّان ويوزّعونها في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد أظهرت المحال التجارية المكتشفة في مدينة أوستيا بإيطاليا، التي تعدّ ميناء روما، أنها استُخدمت من قِبل تجّار سبراطة، فقد كانت مزيّنة بلوحات من الفسيفساء تمثّل أفيالاً، مما يوحي بأن العاج كان عنصراً رئيساً في تجارة سبراطة. وقد زُيّنت عديد من البلاطات المنقوشة والمباني العامة في سبراطة بلوحات فسيفساء تمثّل أسطولها التجاري. ورغم أن المعالم البونية والبيزنطية مازالت موجودة في الموقع الأثري للمدينة، فإن معظم ما يضمّه من آثار يعود إلى القرنين الأول والثاني للميلاد. 

فقد أخذ الحكام الرومان على عاتقهم إعادة بناء سبراطة، فرمّموا المعابد البونية حول مجمّع الساحة العمومية (الفوروم)، وشيّدوا في القرن الأول للميلاد مبنى مجلس الشيوخ البلدي، المزّين بأعمدة الجرانيت وبالفجوات المُثبتة فيها تماثيل نصفية للأباطرة، وبأرضيات الرخام الأبيض والفسيفساء. ويعدّ هذا المبنى مثالاً نموذجياً للنمط الروماني -  السبراطي في البناء. أما صحن الكاتدرائية - الباسيليقا المسيحية المجاورة، التي شُيّدت بأمر من الإمبراطور جوستينيان، فمزيّـن بفسيفساء تصوّر نباتات وزهوراً وطيوراً وسط الأغصان المتدلّية والمتشابكة لكرم العنب. وعلى الجهة الأخرى المقابلة للساحة العمومية، تقف الكاتدرائية - الباسيليقا الثانية التي يُعتقد أن الكاتب الروماني أبوليوس حوكم فيها.

هُجِّرت سبراطة في أعقاب الفتح العربي، وانتقلت تجارتها إلى موانئ أخرى. وظل خفيّاً ما خلّفته العصور البونية والرومانية والبيزنطية في سبراطة من آثار غنية ذات صبغة ليبية متميزة، حتى عام 1932، حين بدأ علماء الآثار باكتشافها.

 

‭ ‬موقع‭ ‬شحات‭ (‬قورينة‭) ‬الأثري

أُسست قورينة (شحات) في عام 631 قبل الميلاد في مرتفعات الجبل الأخضر على يد المستعمرين الإغريق القادمين من جزيرة ثيرا (سانتوريني) بقيادة باتوس الأول. وأصبح اسم المدينة مصدراً للاسم القديم للمنطقة الشرقية لليبيا، قورينائية (برقة)، ويجسّد تاريخها المتنوّع. تحوّلت قورينة إلى جمهورية في عام 414 قبل الميلاد، وعاشت عصرها الذهبي في تلك الحقبة التاريخية. واستسلمت طوعاً للإسكندر الأكبر في عام 332 قبل الميلاد، وانتقلت السيادة عليها إلى دولة البطالمة الإغريقية - المصرية التي سلّمتها إلى الرومان في عام 96 قبل الميلاد، فظلت خاضعة لهم حتى احتلها البيزنطيون في عام 324 للميلاد. وبقيت قورينة في يد البيزنطيين حتى فتحها العرب المسلمون عام 643 للميلاد في زمن خلافة عمر بن الخطاب. 

عاشت قورينة عندما كانت عاصمة لمقاطعة قورينائية الرومانية أهم فترات تاريخها. وقد منحها مارك أنطونيوس لكليوباترا، ووحّـدها الإمبراطور أوغسطس مع جزيرة كريت، وأعيد بناؤها في القرن الأول الميلادي، ولحقتها أضرار كبيرة نتيجة تمرد مسلح في عام 116، وأعاد الإمبراطور هادريان بناءها من جديد. وقد هدم الزلزال الكبير الذي تعرضت له جزيرة كريت في عام 365 معظم أرجائها وعجّل بانهيارها. 

واليوم، تبلغ مساحة موقع قورينة الأثري الإغريقي - الروماني 124هكتاراً. وتوجد معظم الآثار الإغريقية في غرب المدينة، ومحورها النبع المقدس الذي يروي جدول ماء قورة المكرّس للإله أبولو. وقد بني هيكل له هناك في القرن السادس قبل الميلاد، وأضيف إليه مذبحه العظيم في القرن الرابع. وتشتمل المنطقة أيضاً على هياكل للإلهتين أرتميس وإيزيس وللحورية كورانا. وخلال الفترة الرومانية، رمّـم الإمبراطور تراجان هيكل أبولو وبنى حمامات فخمة عند الطرف الجنوبي الشرقي منه. أما ما تبقى من آثار المباني الرومانية الغنية، فيوجد معظمها على هضبة تقع إلى الشرق، وتتألف من مبنى الأكروبول، وهيكل زيوس، ومبنى الكابيتول، ومقر إيداع السجلات العامة، ومقر إقامة جيسون ماغنوس، أحد أبرز وجهاء المدينة. وفي الساحة العمومية (الفوروم)، توجد عناصر التصميم المعماري اليونانية والعناصر الرومانية في وحدة متكاملة. ولا يزال هيكل ديميترا وبيرسيفوني بادياً للعيان خارج أسوار المدينة، فضلاً عن أحد أكبر المدافن العائدة إلى تلك الفترة وأكثرها تنوعاً. 

كانت قورينة حاضرة في الكتابات الإغريقية القديمة، فقد وصفها المؤرخ هيرودوتس والفيلسوف سينيسيوس، أسقف طليثمة، إحدى عواصم قورينائية، وأنشد مدائحها كل من بندار وشاعرها كاليماخوس. كما كانت المدينة مهداً للمدرسة الفلسفية القورينية التي أسسها ابنها أرستيبوس في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد سُمّيت أثينا إفريقيا لكثرة عدد الفلاسفة القدماء من أبنائها. ولا يزال هناك الكثير مما يمكن تعلّمه عن الحياة الفكرية والفنية والاجتماعية في قورينة، وما أبدعته من إنتاج ثقافي طوال ما يربو على ألف وخمسمائة عام. 

 

مواقع‭ ‬تادرارت‭ ‬أكاكوس‭ ‬الصخرية

تضمّ كهوف سلسلة جبال تادرارت أكاكوس الواقعة في الصحراء الليبية آلاف الرسوم التي يعود عهد بعضها إلى واحد وعشرين ألف عام. وتتميز جبالها المتاخمة للموقع الجزائري المشابه المتضمّن رسوماً صخرية المدعو «طاسيلي ناجر» الذي يرجع أيضاً إلى عصور ما قبل التاريخ، بمشاهدها الطبيعية المتنوّعة من كثبان رملية ملوّنة وممرّات ضيّقة وأودية عميقة، وتشمل معالمُها الرئيسة «قوس أفازاجار» و«قوس تن خلجة». وقد أثبتت الفنون الصخرية في هذه المنطقة الجبلية القاحلة أنها لم تكن في قديم الزمان على تلك الحال.

 كشف المسح الأثري في منطقة تادرارت أكاكوس عن بقايا توفّر أدلّة على أن مجتمعات بشرية سكنتها منذ أوائل عصر البليستوسين الذي بدأ من حوالي مليونين وستة آلاف سنة. ويتضّمن ما اكتُشف من الفترة الأشولية عديدًا من الأدوات الحجرية، تتمثّل في كميات كبرى من رؤوس الفؤوس والمسنّات الحجرية والمثاقب والمكاشط، يرجع تاريخها إلى ثلاثمائة ألف سنة. كما اكتُشفت في مئات المواقع الأثرية في أودية تادرارت أكاكوس أدوات وشظايا من حجر الصوّان من الحقبة الموستيرية التي وُجدت منذ ثمانين ألف سنة. أما ما كشفت عنه الحفريات في كهفي وان تابو ووان أفود، فقد ساعد على معرفة الفترة التقريبية لبدايات الحقبة العاثيرية في الصحراء الليبية منذ حوالي ستين ألف سنة.

ويُعتقد أن معظم فنون تادرارت أكاكوس الصخرية أُنجزت عبر فترات تمتد من عام 12.000 قبل الميلاد إلى عام 100 ميلادي. ولا يقتصر ما تصوّره هذه الرسوم والمنحوتات الفائقة الدقّة على الحيوانات البرّية كالزرافات والأفيال والإبل والنعام والظباء، بل تمثّل أيضاً رجالاً وخيولاً وعربات. وتتضمّن في ما تتضمّن صورَ رجال يمارسون أعمالهم اليومية ويعزفون الموسيقى ويرقصون أو يؤدون الطقوس. وتعكس الأساليبُ الفنّية المختلفة في ما اصطلح علماء الآثار على تسميته بعصور: الحيوانات المتوحشة، والرؤوس المستديرة، والحصان والجمل، التغيّراتِ الأساسية في المناخ وفي ثروة الصحراء الحيوانية والنباتية، كما تروي تاريخ الشعوب المتعاقبة التي عاشت هناك. ويُلحظ التطوّر المثير في الأسلوب والموضوع على حدّ سواء، من نقوش لصيادين بالأسلوب الطبيعي، في مرحلة الحيوانات المتوحشة منذ نحو اثني عشر ألف سنة، تمثّل وحوشًا كبيرة تمّ اصطيادها، إلى رسوم أُبدعت بأسلوب أقرب ما يكون إلى الأسلوب الرمزي، تصوّر «عربات طائرة» وتمثّل الجسم البشري بشكل مثلث، خلال عصر الحصان، 1500 عام قبل الميلاد.

واليوم، بعد انقضاء قرن ونصف القرن على اكتشاف موقع تادرارت أكاكوس في عام 1856، لا تزال دراسة تطوّر تلك المجتمعات التي سكنت هذا الموقع الجبلي على مدى ثلاثمائة ألف سنة من خلال تلك الرسوم، تتقدم بشكل مستمرّ. إن التغير المناخي في هذه المنطقة التي تميّزت في عصور ما قبل التاريخ بالخصب واليناع أدّى إلى التحوّلات الأنثروبولوجية ذات الظواهر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. فمن عصر البليستوسين إلى عصر الهولوسين، انتقلت هذه المجتمعات البشرية من اقتصاد الصيد والقطاف إلى حياة رعوية منظمة شكّلت أساس حضارة الغرامنتيين منذ ثلاثة آلاف سنة، قبل أن تتلاشى الحياة البشرية فيها حين انتهت إلى التصحّر.

 

بلدة‭ ‬غدامس‭ ‬القديمة

عُرفت غدامس في المصادر العربية القديمة باسم لؤلؤة الصحراء. وكانت في الأصل واحة تكوّنت بالقرب من نبع يسمى «عين الفرس»، يقع عند تقاطع طرق التجارة عبر الصحراوية القديمة الثلاث التي كانت تمرّ حيث الحدود الحديثة لكل من ليبيا وتونس والجزائر. وقد عاشت في تلك الواحة في عصور ما قبل تدوين التاريخ قبائل بربرية؛ وبذلك تعدّ غدامس إحدى أقدم المستوطنات البشرية ما قبل الصحراوية. وقد خضعت غدامس لحكم الرومان بعدما استولى عليها القنصل الروماني كورينيليوس بالبوس عام 19 قبل الميلاد إثر حملته على قبيلة الغرمنتين التي سكنت في فزان حينذاك. 

فتحت الجيوش العربية غدامس بقيادة عقبة ابن نافع عام 667، ولم يمضِ وقت طويل بعدئذ حتى غدت مركزاً تجارياً مزدهراً. وفي القرن السادس عشر، أصبحت البلدة خاضعة للحكم العثماني. وفي تاريخها الأحدث عهداً، خلال الحرب العالمية الثانية، قصفت طائرات قوات التحالف بلدة غدامس التاريخية القديمة وألحقت بها أضراراً كبيرة بقيت بعض آثارها بادية للعيان حتى اليوم. ولا تزال البلدة في وقتنا هذا مأهولة بالسكان كعهدها منذ عشرة آلاف عام، وتعدّ ثالث أقدم مستوطنة في العالم سكنها الإنسان بلا انقطاع، وهو ما تثبته المنحوتات والنقوش الحجرية المكتشفة فيها.

تتضمن آثار غدامس الرومانية تماثيل تمسمودين المنحوتة في الحجر والمصنوعة من الجصّ، فضلاً عن قصر مقدول، وهو قلعة رومانية دائرية الشكل ذات باب خفي. وتوجد إلى الشرق من القصر البلدةُ القديمة المحصّنة، وهي مثال نادر للعمارة الليبية التي لم تتأثر بالأنماط المعمارية البونية والإغريقية والرومانية التي سادت المنطقة. والبلدة القديمة ذات تصميم دائري يشكّل المنزل وحدته الأساسية. وتتجمّع البيوت معاً بشكل عنقودي لترسم حدودَ ممرّات ضيّقة وأزقة مغطاة بالأقواس تربط ما بين العناصر المعمارية المختلفة التي تتكوّن منها البلدة. وتستفيد المساكن الموجودة على أطراف البلدة من الأسوار الخارجية المتراصة الصلبة التي تشكّل تحصينات غدامس. ويتعزّز التجمّع الحضري داخل الأسوار بوجود معاقل يصل عمقها إلى ستة أمتار وبوابات ترتبط كل منها بغرفة الحرس. وقد صُمّمت المنازل على نمط معماري موحّد يتميّز بتقسيم وظيفي عمودي، فالطابق الأرضي يُستخدم لخزن المؤن، فيما يضمّ الطابق الأول غرف النوم. ولعل أبرز سمة معمارية في البلدة هي شبكة الشرفات المكشوفة المتجاورة التي تربط طوابق المنازل العليا أحدها بالآخر، ويقتصر استعمالها على النساء، فيما تُخصّص الممرّات ذات القناطر في الطوابق الأرضية للرجال. 

حافظت بلدة غدامس على ما ارتبط بنمطها المعماري الرائع من أساليب البناء التقليدية المتمثلة في الجدران المبنيّة بالتراب المرصوص أو بالطوب الطيني المخلوط بأغلفة خشب النخيل. إنه نمط فريد لا مثيل له في سلسلة المستوطنات ما قبل الصحراوية الممتدة من ليبيا إلى موريتانيا.  إن هذه المواقع التراثية الإنسانية العظيمة الشأن ذات القيمة العالمية الاستثنائية والفريدة، وغيرها الكثير من الآثار التاريخية ذات الأهمية الوطنية والإقليمية الكبيرة، تواجه اليوم أخطار التلاشي والاندثار في سعير النزاع المسلح الذي تشهده الأراضي الليبية، نزاع تلتهم نيرانه أبناء الوطن، ويقوّض أسس بنية البلاد، ويهدد بمحو ماضيها التاريخي العريق وهويتها الثقافية والحضارية الثرية، ويرسم صورة قاتمة لمستقبلها.

من‭ ‬آثار‭ ‬بلدة‭ ‬لبدة