الواقعية النقدية وإشكالية التغيير

الواقعية النقدية وإشكالية التغيير

  ‬تعتبر‭ ‬الواقعية‭ ‬النقدية‭ ‬Critical Realism‭ ‬حركة‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬وفي‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬أسسها‭ ‬روي‭ ‬باسكار‭ ‬Roy Bahskar،‭ ‬وهو‭ ‬فيلسوف‭ ‬بريطاني‭ ‬وأستاذ‭ ‬في‭ ‬معهد‭ ‬التربية‭ ‬بجامعة‭ ‬لندن‭ ‬من‭ ‬مواليد‭  ‬عام‭ ‬1944‭ ‬لأب‭ ‬هندي‭ ‬وأم‭ ‬إنجليزية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السبعينيات‭ ‬والثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬مذهباً‭ ‬واقعياً‭ ‬متعالياً‭ ‬Transcendental Realism‭ ‬قدمه‭ ‬باسكار‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االنظرية‭ ‬الواقعية‭ ‬للعلومب‭ ‬عام‭ ‬1975‭ ‬كفلسفة‭ ‬للعلوم‭ ‬الطبيعية،‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬مناهض‭ ‬للتجريبية‭ ‬والوضعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ومازالت‭ ‬مسيطرة‭ ‬على‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية؛‭ ‬ومذهباً‭ ‬طبيعياً‭ ‬نقدياً‭ ‬Critical‭ ‬Naturalism‭ ‬كفلسفة‭ ‬للعلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬شرحها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬له‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬1979؛‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بمنزلة‭  ‬النقد‭ ‬لمذهب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنائية‭ ‬Post-Structuralism‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬العالم‭ ‬عبر‭ ‬نظريات،‭ ‬فتكون‭ ‬المعرفة‭ ‬قابلة‭ ‬للخطأ؛‭ ‬ثم‭ ‬جمع‭ ‬المذهبين‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬مشتركة‭ ‬هي‭ ‬الواقعية‭ ‬النقدية‭. ‬

مر باسكار في منتصف التسعينيات بنقطة تحوُّل في حياته جعلته ينتقل من التناول العلمي للواقعية النقدية، إلى التناول الروحي الذي يعني في جوهره تجاوز الثنائية والعزلة بكل أشكالها إلى شعور بالوحدة والكلية Wholeness حتى يصبح العالم بيتاً للجميع. وظهرت النزعة الروحية في محاولته الأولى في كتاب «من الشرق إلى الغرب» الذي نشره مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وتحدث فيه عن العلوم الغربية والشرقية والدين والمادية والمثالية والإلحاد والتوحيد؛ وبعد ذلك بعامين، قدَّم عملاً آخر هو «ما وراء الواقع»، أكد فيه أن التجربة الروحية قادرة على جذب العقول العلمانية والعقول المتدينة على حد سواء.

 

مستويات‭ ‬الواقع

 أراد باسكار أن يسهم في توفير أرضية فلسفية ومدخلاً بديلاً للمداخل الوضعية والبنائية الاجتماعية، تقدم مبادئ وأفكاراً للعلم؛ لأن الوضعية والبنائية الاجتماعية، كما يرى مناصرو الواقعية النقدية، سطحية في إجراء البحوث، وتحليل الآليات والهياكل الكامنة وراء الظواهر، والمهم ليس تفسير العالم فحسب، بل تغييره. وتفترض الواقعية النقدية التي تحاول تحليل ظواهر العالم الواقعي وفهم المعاني في نشاط الإنسان، وتبني منهجية «و، ومعاً» بدلاً من «إما-أو»، وجود ثلاثة مستويات للواقع: 

< مستوى الواقع الذي يولد الأحداث، ويمكن أن يطلق عليه الآليات، أي الأشياء وبناءاتها، أو طبيعتها والقوى المسببة لها والمسؤولة عنها مما لا نعرف عنه الكثير مثل الكهرباء أو الجاذبية الأرضية التي لا نراها.

< المستوى الفعلي، وهو ما يحدث سواء خبرناه وفهمناه أو لم نفعل، عندما تنشط الآليات والقوى في المستوى الواقعي وتحدث تغييراً، كإضاءة المصباح أو سقوط الشجرة.

< المستوى التجريبي الذي يقع في نطاق الخبرة والتجربة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وما نعرفه من جراء القوى المسببة للحدث ومن الحدث، مثل رؤية الإضاءة في الغرفة، وسقوط الشجرة. ويعني ذلك في السياق العلمي ما لدينا من بيانات أو حقائق مرتبطة بنظرية ما، وبالتالي نحن لا نخبر الموقف مباشرة، بل من خلال وسيط هو النظرية؛ وعليه تكون المعرفة قابلة للخطأ، وتتحول ماهية الشيء الذي نحن بصدد دراسته إلى ما يمكن معرفته عن الشيء.

 

من‭ ‬نظرية‭ ‬المعرفة‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬الوجود

يصف باسكار فلسفته التي تسعى لتحديد الآليات الأعمق المولدة للظواهر بأنها نقلة من نظرية المعرفة إلى علم الوجود، وفي إطار علم الوجود، تعد نقلة من الأحداث إلى الآليات. ويرى أن مهمة العلم استكشاف الواقع وعلاقته بمجال التجريب - الأكثر محدودية - والمجال الحقيقي. ويفترض في العمل العلمي بحث وتحديد وجود علاقات- أو غيابها - بين ما نخبره وما يحدث في الحقيقة، وبين الآليات الكامنة وراء ذلك مما يولد الأحداث. فعند إجراء دراسة كالتي أجراها بيتر نيس حول أثر موقع السكن على سلوك التنقل، كمثال، لا يمكن الاكتفاء بالقول إن من يسكن بالقرب من مركز المدينة، يستخدم السيارة بصورة أقل، وبالتالي لا يلوث الجو، ولا يؤذي البيئة إلا بقدر قليل، بل لا بد من الإشارة لأسباب أكثر عمقاً، تتعلق بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وبالعادات والتقاليد، أي بالاختلاف الثقافي بين المناطق القريبة من المدينة والمناطق الريفية، ما يمكن أن يكون له أثر أكبر على سلوك وعادات التنقل. وإلى جانب الأدوات الكمية الإحصائية، ينبغي استخدام أداة نوعية، كالمقابلة، لسؤال الناس عن الأسباب الحقيقية التي تجعلهم يستخدمون وسيلة انتقال دون سواها.

 

‭ ‬الطبيعة‭ ‬الموضوعية‭ ‬للواقع

تشترك الواقعية النقدية مع الوضعية في اهتمامها بالعالم الموضعي، والأنماط، والتعميمات، وفي البحث عن الأسباب، غير أنها تختلف في منظورها الذي يرى أن دراسة ما تمكن ملاحظته دراسة سطحية جداً، لكونها تتجاهل الآليات التي لا تمكن ملاحظتها، التي تولد الظواهر التي يسعى الوضعيون لقياسها.  فليس بالإمكان اختزال العالم في أشياء تمكن ملاحظتها أو حقائق فقط. 

وتهتم الواقعية النقدية بالشبكات المعقدة للعناصر النظرية والعناصر التي تمكن ملاحظتها، ما يبرز الجهود التي تتجاوز سطح الظواهر الاجتماعية. وتتشارك مع عدد كبير من المداخل النوعية في التركيب والسياق، إلا أنها تؤكد بشدة الطبيعة الموضوعية للواقع، وترى أن التركيز على البناءات الاجتماعية غير كافٍ ومضلل، لأن معظم جوانب الاهتمام تتجاوز إدراك الأفراد للمواقف. فهناك أشياء في الهيكل الاجتماعي تتجاوز وعي الإنسان ونواياه. بمعنى آخر، أن الآليات السببية تعمل بصورة مستقلة عن عقول الناس وعن تصرفاتهم. وتؤكد بقوة  أن الواقع في الحقيقة مختلف عن إدراكنا له. 

وهكذا يعتبر مفهوم الآلية من المفاهيم المهمة في الواقعية النقدية، لأن الآلية المولدة يمكن أن تعرف على أنها قدرة مؤثرة في صنع الأحداث في العالم، وعادة ما تكون جزءاً من مركبات معقدة مختلفة المخرجات، قد تفشل أحياناً في الظهور، فهيكل العمل مدفوع الأجر، كمثال، له أثر سببي في تشكيل سلوك الناس في المجتمع، فهو سبب لتصرف الناس على نحو ما، كأن يسعوا إلى تحصيل العلم والحصول على مؤهلات، ثم يتقدموا للعمل، ويعملوا كل يوم، وفي كل مرة يعملون بها بالطريقة نفسها، تولد الآلية أجراً، ويساعد هذا على توليد أفعال جديدة من النوع نفسه من جديد، وهكذا. 

ولا يتكون الواقع من وجهة نظر الواقعية النقدية من أشياء مادية فقط، بل إن الأفكار والأحاديث واقع، ويمكن أن يكون لها تأثير سببي؛ كالأفكار المتعلقة بالعرق والنوع والعمر، التي يمكن أن تشرح أنماط سوق العمل، وهي واقع، بمعنى أنها موجودة وتعمل كآليات سببية مؤثرة. وكذلك الحال بالنسبة للواقع الاجتماعي الذي يعني الممارسات والحالة الاجتماعية، والبناءات الاجتماعية.

 

واقعية‭ ‬النقدية‭ ‬وعلم‭ ‬الاستدامة‭ ‬

لعل ما يميز هذه الفلسفة ويجعلها مناسبة لدراسة موضوعات مثل التنمية المستدامة بكل تعقيداتها، الرابط القوي بينها وبين علم الاستدامة من حيث النظرة لتفاعل الإنسان مع الطبيعة، أي تأثير الناس على الطبيعة، وتأثير الطبيعة بدورها على الناس. ويمثل هذا الرابط مدخلاً موحداً للعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، تقدمه الواقعية النقدية لمقابلة قصور علم الاستدامة -الذي يركز في الغالب على جوانب البيئة- في فهم الناحية الإنسانية، وكيفية مساعدة الناس على أن يكونوا عوامل مساعدة وقوى محركة للتغيير، فمثلما تحتاج العلوم الاجتماعية إلى علوم طبيعية لفهم علاقة المجتمع بالطبيعة، تحتاج العلوم الطبيعية إلى أن تدمج في العلوم الاجتماعية لفهم الأشكال التي تتخذها الطبيعة في الظروف الاجتماعية المختلفة- تاريخية أو جغرافية - لتكون النتيجة علماً موحداً له طرائقه الطبيعية والاجتماعية التي تشترك في المبادئ نفسها، غير أنها تتبنى إجراءات مختلفة، نظراً لاختـــــلاف الموضوعات. 

ويمكن للعلوم الاجتماعية أن تكون علوماً، على غرار العلوم الطبيعية، ولكن بطريقة مختلفة، وذلك لاستحالة اختزال موضوعات العلوم الاجتماعية، كما تختزل موضوعات العلوم الطبيعية، فلا يمكن، على سبيل المثال، اختزال السلوك الإنساني إلى ردود أفعال كيميائية - حيوية؛ هذا إلى جانب أن الواقع الاجتماعي مفسر مسبقاً، حيث تنتج المجتمعات علاقات وهياكل اجتماعية، وتعيد إنتاجها. وتختلف الهياكل الاجتماعية عن نظيراتها الطبيعية بكونها لا تستمر عبر الزمان والمكان، إلا بصورة نسبية.  

ونتيجة لطبيعة هذه الفلسفة الكلية والمنفتحة على معارف جديدة من العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية - بما في ذلك معارف الأشخاص من ذوي الخبرة في الموضوع حتى لو لم يكونوا علماء- ونظرا لاستخدام مناهج بحث وتفكير كمية وكيفية لدراسة قضية ما، فمن الممكن أن يؤدي تبني الواقعية النقدية إلى إضافة مزيد من الآليات والهياكل، وتوفير مزيد من المعلومات حول ما يحدث، أو ما ينبغي أن يتم حتى لا يحدث إذا أردنا إحداث تحولات اجتماعية كالتحول نحو الاستدامة بتجسير الفجوة بين الإنسان والطبيعة .