حداثةُ القصيدة العربية... إلى أين؟

حداثةُ القصيدة العربية... إلى أين؟

تشكّلُ‭ ‬تمظهرات‭ ‬رؤيا‭ ‬الحداثة‭ ‬ونموذج‭ ‬شكلها‭ ‬وأسلوبها‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الجديدة‭ ‬موقفاً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬والأشياء،‭ ‬وتتكشّف‭ ‬عن‭ ‬إمكانات‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬غناها‭ ‬وخصبها‭ ‬وتنوّعها،‭ ‬تفتح‭ ‬سبلاً‭ ‬ومسارات‭ ‬متعدّدة‭ ‬للإسهام‭ ‬في‭ ‬مضاعفة‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان‭ ‬وتصعيد‭ ‬حسّه‭ ‬الجماليّ‭ ‬وشعرنة‭ ‬وجوده،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬القصيدة‭ ‬وجوهرها‭ ‬وتحدياتها‭ ‬الجماليّة‭. ‬والرؤيا‭ ‬في‭ ‬مفهومها‭ ‬التشكيليّ‭ ‬الخاصّ‭ ‬بمقاربة‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الجديدة‭ ‬هي‭ ‬رؤيا‭ ‬واسعة‭ ‬وشاملة‭ ‬وحاوية‭ ‬بصورة‭ ‬مكثّفة‭ ‬ومعمّقة‭ ‬وتفاصيليّة،‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬يصبح‭ ‬فيه‭ ‬مفهوم‭ ‬الرؤيا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬إشكاليّاً‭ ‬مشتغلاً،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الوسائل‭ ‬والأهداف‭ ‬معاً‭. ‬

تشترك الرؤية بمرجعيتها البرهانيّة مع الرؤيا بمرجعيتها العرفانيّة في تشييد النموذج الشعريّ بوصفه فعاليةً حادّةَ الخصوصية، ونظامَ تفكير نوعيّاً ليس بوسعه إنجاز مبتغاه بوسيلة واحدة فقط، فالرؤيا على نحو إجرائيّ - إبداعيّ ينجزها الشاعر في سياق مشروع حداثيّ حقيقيّ لإنتاج قصيدة جديدة، تتحرّى عقليّة الرؤية وحساسية التفكير فيها من أجل بلوغ هذا المشروع الحداثيّ إلى مرحلته النموذجيّة المطلوبة.

مفهوم الرؤيا استناداً إلى هذه الإشارات لا يمكن أن يتحدّد في إطار اصطلاحيّ ثابت، أو أن يستجيب لأفق تعريفيّ معيّن يخضع لتوصيف نهائيّ حاسم، ذلك لأنّ الرؤيا تتعدّد وتتنوّع وتتطوّر بحسب كثافة الحقل الشعريّ العاملة فيه، ودرجة انفتاحه، ومستوى ثرائه وقدرته على تفسير الذات الشعرية بمنظورها الوجدانيّ الكونيّ، إنّها في سياق معيّن من سياقاتها الجمالية والفكرية والثقافيّة كيانٌ دائم التجدّد والتوسّع والانفتاح، ولا يتوقّف عند حدود تشكيلية معيّنة، لأنّ مثل هذا التوقّف المحتمل يكسر الخاصية الشعرية للمفهوم ويعيد النصّ إلى مرحلته الحلمية البدائية بكلّ ما تنطوي عليه من عفوية وسذاجة وافتقار إلى شعرية نظام التفكير، ونظام بناء الخطاب، بعد أن قطع أشواطاً كبيرة وعميقة تحوّل فيها المفهوم إلى جوهر، وأصبحت فيه الرؤيا حركة حيّة انبثاقية اكتسبت فيها القصيدة حداثتها وطاقتها الهائلة في التشكيل والتعبير.

وقد حرص معظم شعراء الحداثة العربية المبرّزين الذين تحوّلت تجاربهم إلى متون أصيلة على استلهام هذه الروح الحيّة التي اصطُلح عليها بـ«الرؤيا»، إذ فتحها أدونيس بخاصّة على أوسع وأعمق ما يمكن أن تتمتّع به آفاقها من رحابة وطرافة وحساسية، بوصفها أحد أخطر الينابيع الأصيلة التي تغذّي العقل الإبداعيّ بالمعرفة النوعية الثرة بكلّ تمثّلاتها البرهانية والمتخيلة، مثلما فتحها السيّاب على غزارة تجربة الروح في انبثاقاتها الوجدانيّة الهائلة التي تؤسطر الرؤيا وترمّز طبقاتها في سياق ربطها الجدلي مع ممكنات الرؤية، وفتحتها نازك الملائكة على حساسية أنثويّة ذات كثافة خصوصيّة بالغة التمثّل والرهافة والحضور.

بهذا المعنى يمكننا القول إنّ القصيدة الجديدة قصيدة رؤيا بامتياز، تحصلت على سرّ اندفاعها في أرض الحداثة الساخنة، بصرف النظر عما يمكن أن تتكشّف عنه سخونة هذه الأرض من «ما بعديات»، تعيد تفسير المفاهيم وإنتاجها وتأويلها بحسب ضرورات نظم التفكير واستراتيجية الإبداع، لكنّها لا تبلغ كفاءتها القصوى في تشييد البنيان الشعريّ في القصيدة من دون سند الرؤية.

القصيدة العربية في شكلها العموديّ ذي الشطرين (قصيدة الوزن) تحيل منذ بدايتها حتى الآن على تشكيل نموذجيّ قارّ وموحّد وكلّي، فالحساسية التي يعمل الشعراء العرب على تجسيدها وتمثيل رؤياها تنفعل بالشكل الإطاريّ العام (اللغويّ والإيقاعيّ) على حساب أيّ مقوّم آخر، وتجتهد كثيراً في الحفاظ على حساسية الشكل بنموذجه المتعالي، وما نظرية «عمود الشعر» المعروفة إلا تعبير حيّ عن صرامة النظم والتقاليد الشعرية داخل قفص الشكل، لذا فإنّ الحديث عن «قصيدة عربية» - وفق هذا المفهوم – يعدّ من الأمور البدهية التي يكون فيها الشعر اليمنيّ والعراقيّ والمغربيّ والكويتيّ والأردنيّ والتونسيّ والبحرينيّ شعراً عربياً يتعالى على مكانيته وبيئته وحساسيته الشعبية لمصلحة الشكل الشموليّ، فلا يكون صحيحاً الحديث عن شعر سوريّ مثلاً إلّا تحت لافتة الشعر العربيّ في سورية وهكذا، ضمن رؤيا ورؤية موحّدتين.

تمثّلت أهمّ منجزات الحداثة في قصيدة الشعر الحرّ  (قصيدة  التفعيلة) في الذهاب الحرّ إلى منطقة المكان والبيئة والحساسية الشعبية المحلّية، ولم تكن مغادرة «قصيدة الوزن» مغادرة لقفص الشكل في حدّه الإطاريّ المحض، بل كانت مغادرة كلّية لدكتاتوريّة الشكل الشموليّ والانفتاح على ديمقراطية الخصوصية والنكهة المحلّية في نموذجها الشعبيّ، على النحو الذي يصحّ فيه الحديث عن شعر مصريّ، وشعر مغربيّ، وشعر سعوديّ، وشعر أردنيّ، وشعر فلسطينيّ، يمتلك فرادة وخصوصية استثنائية، يستند إلى مزاوجة وتضافر الحسّ المكانيّ والبيئيّ والفضائيّ والإنسانيّ. 

لعلّ هذا المفترق الصعب الذي وقفت على أعتابه القصيدة العربية الجديدة، يعدّ واحداً من أكثر الموضوعات سخونة وخطورة في المجال الحيويّ الثقافيّ، إذ تعدّدت محاولات الشعراء للخروج بالقصيدة العربية نحو فجر جديد، يتيح لها فرصة تمثّل العصر وتمثيله في حداثة رؤيا شعرية تُفجّر إمكاناتها وتُجلّيها. وربما كان الصراع المهمّ الذي تعيشه القصيدة العربية الجديدة، هو ذلك الصراع القائم بين منظومة العنصر المجازيّ بطاقته التقانية ومنظومة العنصر الوجدانيّ بطاقته الغنائية، فذات المتلقّي العربيّ بفعل استئناسها لنسخة نصّية واحدة، واعتيادها على تسلّم هذه النسخة بإمكانات نمطيّة واحدة مألوفة، أصبحت ذات تركيبة انفعاليّة عاطفيّة تجنح فطرياً نحو العناصر الغنائيّة الأوليّة في أشكال الفنون، وتتعاطف عادة مع الرؤيا أو الشكل أو الأسلوب الذي يخاطب منطقة الوجدان، وتكمن في داخله ثورة ضخمة وخصبة من الانفعال الداخليّ العميق الذي يموج بثراء لا محدود من الدفء والوهج الروحيّ المتدفّق.

وهذا ما يفسّر تعاطف الحسّ الوجدانيّ العربيّ مع قصائد رفعها إلى مرتبة مثاليّة على صعيد الاحتفاء النوعيّ في حساسية التلقّي، مثل مرثيّة مالك بن الريب ولاميّة الشنفرى وهائيّة ابن زريق البغداديّ، ومعظم الشعر العذريّ، وقصائد السياب، والشعر الفلسطينيّ في نموذجه المُقاوم وغير ذلك كثير. ولا نريد هنا أن نشكّك بقدرة انفعال الوعي والذوق العربيين على التقويم، لكننا نطالبه بأنْ يوقف تواطؤه مع النصوص العقيمة التي لا تولد سوى الانفعال المجرّد، الذي ما إن تنتهي رعشة الانفعال وهزّة الوجدان فيها حتى تذوب وتتلاشى وتغيب في مجاهل النسيان، نطالبه بأنْ يوقف هذا النزيف الرثّ من سيل النصوص الشعرية التي تزدحم بها الساحة ولا تترك وراءها غير الضجيج والغبار.

إذن هل يجب أنْ تتوقف القصيدة العربية الجديدة عن إثارة الانفعال، وتعتمد في تشكيل نسيجها الداخليّ على منظومة المجاز والرمز والأسطورة، واللعب المهاريّ على عناصر التشكيل، وسطوة اللغة بأسرارها الباطنية العميقة؟

الجواب ..  كلا، لأنّه ليس ثمة عمل إبداعيّ بلا رعشة جمالية، إنّها عنصر أساس من جماليّات الفنون، حتى الاكتشافات العلميّة تشكّل فيها هذه الرعشة انعطافاً خطيراً في لحظة الاكتشاف البارعة. لكنّ الذي ندعو إليه هنا أن يتخلّى الانفعال في النصّ الشعريّ عن أوّليّته وسذاجته، وقابليته المنفلتة المنساحة على البوح، ويتحوّل بفعل قوّة العقل – التي يجب أنْ تسيطر على تيار الانفعال ووفق ضوابطها وقوانينها – إلى أثر إبداعيّ ذي بنية معرفيّة خاصّة ممغنطة بالانفعال ومسحورة بطاقة غنّاء فذّة في عمقها وكثافتها.

النصّ الشعريّ الحديث حوارٌ دائمٌ وديناميٌّ مع الأشياء، حوارٌ ثرٌّ مبنيٌّ على ديالكتيك خاصّ، مشحون بقيم أصيلة تتّسم بالتشابك والعمق والتعقيد، يقوم بمهمة تشكيل النسيج الداخليّ عن طريق ربط الأجزاء المتوازية والمتقاطعة والمتضادّة في النصّ الشعريّ، وينعدم في هذا الحوار ذلك التواطؤ التقليديّ القائم بين عالم القصيدة ومساحة الفاعلية الذهنية المستقبِلة عند المتلقّي، والمعتمدة على خاصية الإشباع المحايد لمراكز الانتظار والتوقّع فيه، لذلك فهي تصدم ذوق المتلقّي التقليديّ بما لا يُنتظر. بمعنى أنّ المتلقّي سيفقد فيها لذّة تعوّدَ عليها، وتأسّسَ نمط ذوقه على أساسها. لذلك فإنّه سيحتاج إلى نوع من تطبيع العلاقات مع عوالم النصّ الشعريّ الحديث الرحبة المتعدّدة، ينهض بذوق المتلقي ويرتفع به إلى مناطق جماليّة طريّة وطريفة ومباغتة ومفاجئة، تضجّ بسحر غير قابل للنفاد، فيكبر وعيه نحو استثمار قدرات العقل على نحو أكبر وأفضل وأكثر جذباً ومتعة.

 

القصيدة‭ ‬الجديدة‭ ‬حمالة‭ ‬أسئلة‭ ‬سحرية

على هذا الأساس يخرج النشاط الشعريّ من إطار إشباع الحاجة، فهو ليس تمريناً جمالياً مجرّداً، إنّما هو فعل خلاق خصب، يلدُ قدرة لامتناهية على الإبداع والخلق واستمرارية الإنجاز، ومتى توقّف النصّ عند حدّ معيّن للولادة يصبح آنذاك عقيماً، ما يلبث أن يموت، فلا يعدّ على هذا النحو نشاطاً خلاقاً لأنّه لا يخلّف أسئلة كبرى ولا مشكلات مُحرجة، إنّه يغادر منطقة المتلقّي مغادرة كلّية، في حين أنّ القصيدة الجديدة تحيا أساساً بما تخلّفه في منطقة المتلقّي، لا بما تمنحه إياه، لأنّها ببساطة شديدة لا تمنح شيئاً محدّداً بالمفهوم المادي للشيء، فهي ليست إعلاناً أو إشهاراً، إنّها مجموعة مقترحات رؤيويّة وأسئلة لأفعال سحريّة يشترك فيها المتلقّي، فإذا كان المتلقّي يواجه النصّ الحديث بإمكانات عاديّة، فسوف يغترب النصّ وتبقى لحظة الولادة مؤجلة، فقدرتنا على فضّ بكارة الحلم واختراق طفولة النصّ تتوقّف على استكمال مقومات وعينا وقابليته للمرونة والتفاعل والكشف، أي تتوقّف على تحويل وعينا من المستوى المسالم المهادن إلى المستوى الحادّ المشاكس.

القصيدة الجديدة تحرّرت على صعيد تشكيل خطابها المستقبليّ من احتلال وسطوة اللاوعي المجرّد القائم على الانفعال الوجدانيّ البدائيّ، وأصبحت خاضعة في مرحلة مهمّة من مراحل إنجازها إلى الوعي بشكله المعتمد على الحرية، والمتفاعل جدليّاً مع اللاوعي، تلك الحريّة القصوى التي تخضع للجهد والتنظيم الخفيّ، الذي لا يحصل بمنأى عن رؤيا الذات الشاعرة وحداثة مختبر المخيلة فيها، إذ إنها تنشحن هنا بأعلى طاقة ممكنة على الإيجاد والتدفّق والإشعاع. لذلك فهي ليست إشباعاً لحالة توقّع مُفترَضة قائمة على نحو إستاتيكيّ في الذهن، إنّها تفاجئ دائماً، إنّها منجم غنيّ لرفد المتلقي بسلسلة لا تنتهي من المفاجآت المتغيّرة بين سياق لحظويّ وسياق لحظويّ آخر. إنّها عملية الارتقاء بذوق المتلقي إلى مرحلة متحضّرة وراقية في سياق الاصطدام المتولّد بين قوة النصّ المُعلنة، وخيبة الجزء الصغير المستخدم في عقل المتلقّي، كي يحدث خللاً في الموازنة العقليّة ينتهي إلى محاولة توسيع دائرة التفكير الشعريّ بالأشياء، في إحياء مناطق ميّتة من العقل وزرعها بطاقات خصبة جديدة ومزدهرة، تسهم في الارتفاع بقدرته إلى مستوى قابل لتحرير النصّ الحديث تحريراً عقلياً، وذلك بفتح قنوات أخرى تحتوي فضاءات النصّ وعوالمه وعكسها على فهمه المتحضّر بوساطة اللذّة التي سيكتسبها في رؤيته للانسجام في اللاانسجام، والتوافق في اللاتوافق، أملاً في إدراك شيء من لحظة التجانس الكونيّ التي لا يدركها سوى الشاعر.

بهذا المنطق تستهدف القصيدة الجديدة القضاء على التناقض بين المتضادات مع الحفاظ على دينامية الخصوصيات المتضادة. فعملية إعدام التناقض لا تعتمد أساساً على إلغاء فواصل التناقض بينهما، بل تعتمد على اكتساب لحظة التضادّ، ولحظة التماسّ بين المتضادات حياداً في التعبير عن حالة التناقض، مستبدلة بها التعبير عن خصائصها الذاتية التي لا تعني بالضرورة تناقضاً مع الآخر، بقدر ما تعني استقلال الخواصّ التي تمتاز بقابلية استثنائية للبوح والتفاعل مع «الآخر» أو «الماحول» بفرض حالة تجاوز للخلاف التقليديّ على مستوى الشكل والتشكيل. وهذا يتطلّب اختراق نظام الزمن، لأنّ القصيدة الجديدة على هذا الأساس لازمنية – بالتقدير الاستعاريّ وليس التقانيّ- لذلك فهي جمع لكلّ أنواع الأزمنة وتفجير لها في آن شعريّ حضاريّ واحد.

من هنا يمكن أن نصل إلى حقيقة أنّ النص الشعريّ الحديث لا يعبّر عن الحياة بمستواها الأفقيّ، ذلك أنّ الطبيعة - وفق سيزن – هي عمق أكثر مما هي سطح، النصّ الذي يعبّر عن الحياة بهذا المستوى نصّ مخفق بليد تبعيّ سلفيّ، يتقيّأه المتلقّي بمجرد انطفاء لحظة الجماع القرائية الأولى، لأنّه سرعان ما ينكشف وتُفتضح إمكاناته، في حين يتحوّل النصّ الذي يبدأ بخلق حياة جديدة تتجسّم وتتشعرن فيها مشكلات الإنسان الكبرى والصغرى والتفصيلية والهامشية والمسكوت عنها والمغيّبة، إلى مشروع دائم التطوّر باتجاه تحديث أسلوب الممارسة وقوانين الفعل وحلم العقل البكر، واجتراح مستمرّ لقيم ذات نزعة غير قابلة للتمحور، تستقلّ فيها اللغة استقلالاً ذاتياً خارج انعكاسات المعجم والمنهج، كي تخرجَ من فضاء قدرة النصّ وفاعليته لاكتشاف العوالم السحرية الغامضة الثاوية في مفرداتها، وقد أركنتها المعجمات والممارسات الشعرية الجائرة جانباً، وجعلت تعتمد في بنيتها الرثّة على احتمال واحد، في حين تضجّ عوالمها بعدد لا متناهٍ من الاحتمالات.

يجب على النصّ الشعريّ الحديث أن يفجّر إمكانات اللغة ويفتح منظومتها اللفظيّة على كل الاحتمالات، ويحرّرها من استعمار المنطقة والمكنَنَة التي أسهم الكثيرون في تسييجها ودفعها إلى حالة التصحّر، ما يؤدي بالضرورة إلى إحالتها على كائن عدميّ لا يمتلك سوى قدرة محدودة على البثّ الوجدانيّ والإدراكيّ الخلاق، الذي أفرز افتراقاً صعباً – كان وما زال أحد أبرز مشكلات الشعر الحديث – بين طموح المخيّلة وحداثة رؤياها في تعبئة المفردة بثقل دلاليّ وغنائيّ وإشعاعيّ كبير يستجيب لعالم الشاعر وطموحه وتطلّعه، والواقع العدميّ للغة الذي ليس له القدرة على تحمل هذه المسؤولية، فكان أن وقعت الكثير من النصوص الحديثة ذات المسؤولية الفنية الكبيرة في دائرة الغموض والإبهام، وقيام النصّ بهذه المهمّة الخطيرة لا يتأتى إلا بإمكانات موهبيّة وعقليّة وثقافيّة ولغويّة عالية، بمعنى أنّه لا يمكن لأنصاف المواهب، تلك التي يتواضع فيها إنجاز العقل وتتسطّح فيها الثقافة، وتغيب فيها الرؤيا وتُختزل الرؤية، وتفتقر فيها اللغة– على مستوى الثراء وعلى مستوى ضبط المهارات الأساسية – إلى إنجاز ذلك، أن تتقدّم الصفوف، ولا يصبح البيان والادعاء والتصريح الذي تتبناه عندئذ أكثر من نقر ضعيف متهالك من وراء الزجاج.

الحداثة الشعرية - بلغتها ورؤياها وشكلها وأسلوبها - المتكشّفة عن خصب المخيلة وحدّة الانفعال وغنى الموهبة، هي التي تدهم اللغة فتُخرجها من نمطيتها وتراخيها وكسلها، وتُدخلها في سياقات تعبيرية حديثة غير مألوفة، لذلك تتحوّل من تشكيلها المستقرّ إلى تشكيل صداميّ استفزازيّ متمرّد، وهي في هذا التحوّل يجب أن تملك نفسها، وإلا فسوف تضيع في مجاهل الغريب ومتاهات الشذوذ، وحالات الإغماض والظلاميّة، لكنّها إذا امتلكت نفسها كما هو معوّل عليها فإنّها تعطي النصّ قدرة لامحدودة على منح أمداء لامتناهية لمنظومته اللغوية، فـتأخذ اللفظة حرّيتها المطلقة في الكشف والبوح عن مضمراتها الدلالية والتعبيرية والرمزية، وعن استثمار خصبها الذي يتحوّل بفعل ذلك إلى طاقة تخييلية فائقة متجدّدة، بحيث لا يصبح الشعر فيها تعبيراً مطلقاً ثبوتياً عن مستقرات إبداعية مطلقة، إنما يصبح تعبيراً متجدّداً عن قيم فنية وجمالية دائمة التطوّر، وتبني واقعاً شعرياً جديداً هو نتيجة طبيعيّة لانعكاس الموقف الشعوريّ النفسانيّ للواقع، أي الموقف الشخصانيّ «الأنويّ» في فعله وإدراكه الوعيويّ للواقعيّ والجمعيّ والمشترك.

 

اللغة‭ ‬وورطة‭ ‬البحث‭ ‬

عن‭ ‬الدلالات‭ ‬في‭ ‬المتاهات‭ ‬العصية

تستهدف هذه المحاولة إيجاد مصالحة بين فردية الكون وكونية الفرد، لا بالوصف العدديّ أو الاعتباريّ، بل بالوصف الكليّ المستند إلى حقيقة الوعي بالحياة، المتمثلة في القدرة على التمييز بين الكائنات الشعرية ذات الفاعلية الحيّة والكائنات المجرّدة من الحياة، فتتكوّن للقصيدة على هذا الأساس فضاءاتها الخاصة، وتعتمد على الصراع مع اللاشيء من أجل إفراز شيء لا تعثر عليه في النصّ داخل السياق المرئيّ المباشر، ولكنْ بالإمكان اقتناصه متلبّثاً ومتشكّلاً في ذهن المتلقّي لحظة القراءة. وهي نتيجة مستخلصة سريّة على مستوى التعبير، ويتوقّف مدى تحصّل النتائج المستخلصة في هذا الإطار على موهبة الشاعر وثقافته وإتقانه للمهارات الأساسية وحساسيته المرهفة في التفاعل مع التقانات المتاحة للفنون المجاورة، والالتفات إلى إمكانات الجسد وطاقاته الغنائية العالية. وهذا ما يفسّر سقوط المواهب المتواضعة في شرك القصيدة الواحدة ذات النسخة الواحدة، بمعنى أنّ تجربتهم الشعريّة الكاملة ليست أكثر من قصيدة واحدة فحسب. ويجب على النصّ الحديث أن يحقق ما يدعى بـ «تحسيس المفهوم» الذي يتفتق فيه اللاحسّي عن حسّي، والمجرّد عن مجسّد، والسريّ عن علنيّ، والذهنيّ عن ملموس، والغامض عن واضح.

يتوقف إنجاز هذا المفهوم على درجة اندماج الذات الشاعرة في اللغة بالموضوع الشعريّ في التشكيل، مع القدرة على استنطاق منظومة الدوال على هذا المستوى وتحريكها في المتاهات العصيّة المؤدية إلى ظلال الدلالات، أي إنّ النصّ يلد نصاً مضاداً والشكل يلد شكلاً مضاداً وفق هذه الضوابط.

أما في ما يتعلّق بالشاعر الحديث الذي يرتفع إلى مستوى هذا الإنتاج، فيجب أن يتمتّع بذاكرة تشكيلية وتركيبية وغنائية قوية، تحتوي التوتّر الحادّ الذي يعانيه الشاعر بين الفعل المرئيّ المباشر والفعل العقليّ غير المباشر، ويستطيع تصريف القلق الناجم عن ثورة الشاعر تصريفاً إبداعياً، فالشاعر ثائر وقلق على الدوام وعلى نحو لا محدود، فعليه بإزاء هذا الموقف أن يأسر السماء والأرض داخل قفص الشكل كما يقول «ماكليش»، أي إنّه يجب أن يبدأ بالحلم والرؤيا لينتهي إلى فضاء الاستنتاج، لا أن يبدأ بالاستنتاج، لأنه سوف ينتهي إلى الفراغ العدميّ.

الشاعر بهذا المفهوم يمتلك طاقات لامحدودة على الإنجاز لأنّه ليس كائناً واحداً، ويعتمد عدد الكائنات فيه على حجم موهبته واتّقاد ذهنه، ودرجة فاعلية عقله، وقدرته على الإنجاز، ومستوى حساسيته وانفتاح رؤياه، وهو ينجز شعراً جديداً على أساس نظرية الميل والوجود الخاصّ والنشاط المميّز للمخيلة والتفتّح الثقافيّ الجديد لكُنْه الأشياء، خارج دائرة كينونته الأخرى المعتمدة على فلسفته في الأخلاق والقيم والأدب والحضارة.

ومن هنا يتحتّم على الشاعر أن يكون جريئاً وصادقاً في الدفاع عن ميله ووجوده الخاصّ، ونشاط مخيلته الخلاق. وإلّا فسوف يفتقد الشعريّة والشاعريّة، لأنّه خانهما لمصلحة كينونته الأخرى غير الشعريّة، وتحوّل بناءً على ذلك إلى مُنظّر وداعية، وانعدمت فيه حساسية الذات الشاعرة وافتقد رؤيا الحداثة الشعرية وشكلها وأسلوبها. يبقى السؤال الكبير والخطير الذي يجب أن يستوقف الجميع، وهو: ما الذي أنجزته القصيدة العربية الجديدة؟ وإلى أين تسير؟

سيبقى هذا السؤال قائماً وملحّاً ومحرجاً، فمنذ الثورة السيّابية التي استطاعت إيقاد فجر جديد للقصيدة العربية، مروراً بأدونيس الذي استطاع أن يكون ظاهرة تمثّلت على صعيد المهارة والصنعة في إيجاد شعريّة تعتمد كيمياء اللغة، وانتهاء بالإنجازات الباهرة التي حقّقها الشعراء العرب الكبار من أصحاب المتون الأصيلة حتى نهاية الألفية الثانية، عاشت هذه القصيدة تحولات شتّى أفرزت الكثير من الأسئلة التي يمكن أن تقودنا في ميدان مقاربتنا إلى السؤال عن مستقبل القصيدة العربية، وإلى أين تتجه؟

ولعلّ القراءات المستمرة الجادة للشعراء والنقاد معاً (نصوصاً وظواهرَ) وهي تنهض بمهمة فحص التطوّرات التي تحصل في بنية القصيدة وتشكيلها وعلاقتها بالآخر ومقاربتها، هي التي يمكن أن تنتج مشاريع حوار جدليّ مثمر وخصب بوسعها أن تقول شيئاً مهماً وصحيحاً على سطح هذا المستوى وفي جوهر هذا الإطار .