نشر العلوم وتبسيط مصطلحاتها... تثقيف أم تحريف؟

نشر العلوم وتبسيط مصطلحاتها... تثقيف أم تحريف؟

  ‬إن‭ ‬مهمة‭ ‬تبسيط‭ ‬العلوم‭ ‬هي‭ ‬تمكين‭ ‬المثقف‭ ‬العادي‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬المعارف‭ ‬العلمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استخدام‭ ‬لغة‭ ‬يفهمها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الانغلاق‭ ‬الذي‭ ‬عليه‭ ‬الجماعة‭ ‬العلمية‭ ‬يمكن‭ ‬اختراقه‭ ‬وتأمين‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬المختصين‭ ‬وغير‭ ‬المختصين‭. ‬ولكننا‭ ‬نتساءل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬التواصل‭ ‬ممكناً‭ ‬بين‭ ‬الشخص‭ ‬العادي‭ ‬والمختصين،‭ ‬فبأي‭ ‬ثمن؟‭ ‬هل‭ ‬ستضيع‭ ‬بعض‭ ‬المعلومات‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬تلك‭ ‬العملية‭ ‬التواصلية؟‭ ‬وهل‭ ‬العامة‭ ‬الذين‭ ‬يطّلعون‭ ‬على‭ ‬نصوص‭ ‬التبسيط‭ ‬العلمي‭ ‬يتحقق‭ ‬لهم‭ ‬بذلك‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬العلوم‭ ‬أم‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬منها؟‭ ‬وهل‭ ‬المصطلحات‭ ‬المستعمَلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬دلالاتها‭ ‬الأصلية‭ ‬أم‭ ‬تصبح‭ ‬حاملة‭ ‬لدلالات‭ ‬مختلفة؟‭ ‬وهل‭ ‬تنقل‭ ‬نصوص‭ ‬التبسيط‭ ‬العلمي‭ ‬حقيقة‭ ‬واحدة‭ ‬أم‭ ‬مجموعة‭ ‬حقائق‭ ‬عن‭ ‬الشيء‭ ‬الواحد؟

عند مقاربة اللغة المختصة من زاوية نظر مستعملي اللغة يمكن مبدئياً تصنيف المستعملين إلى ثلاث فئات: الخبراء، وأشباه الخبراء، والعاديون. والمقصود بالشخص العادي هو الذي ليس له اطِّلاع على النظريات الأساسية للمجال المعرفي، أو الشخص المثقف الذي له إلمام بسيط بتلك النظريات. ويختلف هذا الصنف عن أشباه الخبراء الذين ينتمون عادة إلى مجالات ذات صلة بمجال معرفي محدَّد. أمّا الخبراء، فهم المختصون الذين لا يجدون صعوبة تُذكر في فهم النصوص الخاصة بالمجال. 

وقد قسّمت جينيفر بيرسون (Jennifer Pearson) الوضعيات التواصلية في النصوص المختصة على النحو التالي:

- التواصل بين الخبراء (Expert-expert communication): تُستعمل في هذا الصنف المصطلحات الشديدة التخصص، ويُفترض أن يشترك الناقل والمتقبل في ذات القدرات المعرفية واللغوية وأن يكون بعضهم قادراً على فهم بعض، ذلك أن الرصيد المصطلحي قد تم ضبطه وتقييسه مسبقاً. 

- التواصل بين الخبراء والمبتدئين في المجال نفسه (Expert to initiates communication): ما يميّز هذا الصنف هو اختلاف مستوى الخبرة بين الناقل والمتقبّل، ذلك أن الخبير قد يكون مطالباً أحياناً بالتواصل مع أشخاص آخرين عاملين بالمجال المعرفي نفسه من دون أن يكون لهم مستوى الخبرة نفسه. ورغم أن الخبراء سيستعملون المصطلحات نفسها التي يستعملها بعضهم مع بعض، فمن المرجَّح أن يعمدوا إلى شرح عدد من المصطلحات المجهولة أو غير المفهومة جيداً من قبل المتلقي. 

- التواصل بين المدرِّس والتلميذ (Teacher-pupil communication): يُستعمل هذا الصنف لغايات بيداغوجية تتمثّل في تبليغ معلومات مدرسية للتلاميذ، تتناسب مع قدرتهم على الفهم. فإن مدارك التلميذ وقدرته على الاستيعاب تتطور بتطوّر مداركه، ولذلك من الضروري مسايرة تلك القدرات واعتماد منهجية تَدَرُّجٍ في إطْلاعه على المفاهيم العلمية.

- التواصل بين أشباه الخبراء والعامّة
(Relative expert to the uninitiated communication): والمقصود بالعامة كل شخص تلقّى تعليماً لكنه غير متبحِّر في أي مجال من المجالات المعرفية. 

إن الصنف الرابع من الوضعيات التواصلية يوظِّف المصطلحات بطريقة فيها الكثير من التبسيط والضبابية (التي قد تؤدي إلى الفهم المنقوص)، ويجنَح عند شرح المفاهيم إلى استخدام عدد من التقنيات التبسيطية كالتشبيه والاستعارة والمقارنة، وإلى توظيف الوحدات المعجمية العامة حتى لا يشعر المتلقي ﺑ«الغربة» إزاء المصطلحات وغموضها. والنتيجة المباشرة لذلك أن الوضعية التواصلية التي يكون الشخص العادي طرفاً فيها هي أقرب إلى الخطاب العام منها إلى الخطاب المختص، أو لِنَقُل هي مزيج من هذا وذاك بات يُعرَف في الأدبيات الغربية بتعميم العلوم (Popularization of science).

 

تعميم‭ ‬العلوم

تعريفه: صنف من النصوص يستهدف نشر الثقافة العلمية في أوساط عامة الناس باستخدام لغة علمية مُبسَّطة في متناولهم. 

دواعيه وغاياته:

- الاستجابة إلى الفضول الفطري للإنسان للتعلم والاطّلاع. إذ توجد نزعة فطرية لدى الإنسان إلى البحث والتساؤل ورغبة في الاطلاع على كل ما يجهله، خاصة على المسائل التي تعنيه مباشرة في حياته اليومية وعلى علاقة بمشاغله وتطلّعاته. 

- توعية الناس بما يحفظ مصالحهم ويقيهم المخاطر. 

شروطه: ينبغي أن يكون المجال والموضوع المطروحان مرتبطين بالحياة اليومية للناس، ذلك أن الاعتناء بمواضيع ليست لها علاقة مباشرة بتطلعات الناس ومشاغلهم ستدفعهم إلى الإعراض عنها. فإن المختصين في نشر الثقافة العلمية لا يهتمون بجميع المجالات، بل يستثنون الكثير من المجالات التي ربما لا تثير اهتمام المتلقي ولا تسترعي فضوله الفطري. فإن الرياضيات مثلاً لا تستهوي القارئ، ربما لطابعها التجريدي، أو لكونها ليست من المجالات التي تجيب عن أسئلة الإنسان العادي الرئيسية في علاقته بالعالم. 

أساليبه:

- التناول المثير للقضايا المطروحة والسعي إلى إبهار المتلقي وجذبه بمعلومات جديدة أو التشكيك في معلومات منتشرة على نطاق واسع. «فكلما انبهر الجمهور زاد تعظيمه للمسائل التي لا يعلم كنهها». 

- توخِّي الأسلوب المبسّط وتفادي التعقيد: حتى لو وُفّق القائمون على نشر العلوم في اختيار المواضيع المناسبة، فإن تناولها تناولاً معقَّداً سيُشعِر القارئ بالغربة وسينقطع حبل التواصل سريعاً بينه وبين كاتب النص. 

- المراوحة بين الأسلوب العلمي والأسلوب غير العلمي.

- توظيف الاستعارة والتشبيه والمقارنة لتقريب المفاهيم العلمية المعقَّدة من ذهن القارئ حتى لا ينقطع حبل التواصل بينهما، ولإضفاء طابع ملموس على المواضيع المطروحة.

- المراوحة بين الطابع المأساوي التهويلي والطابع الهزلي الساخر: ويظهر ذلك خاصة في عناوين المقالات الصحفية المتطرِّقة إلى مسائل علمية. فمن بين العناوين المستعمَلة في المقالات الصحفية الفرنسية التي تطرَّقت إلى مسألة الأمطار الحمضية، على سبيل المثال، نجد: «الأمطار الحمضية: هولوكوست بيئي؟» و«الخل يهطل من السماء: حمض في الأمطار». ولتبليغ أفكارهم وإقناع جمهورهم بها يستعمل محررو نصوص إشاعة العلوم عدداً من الاستراتيجيات:

- مخاطبة وجدان القارئ واستثارة مشاعره بطريقة غير منفِّرة.

- التركيز على الاكتشافات العلمية الجديدة.

- ربط المواضيع المطروحة بأحداث كبرى (تسونامي، أعاصير، حادث نووي...).

- الطابع الاستشرافي: يتطرّق كثير من وسائل الإعلام إلى مواضيع مهمة تطرّقاً استشرافياً، أي إنها تحاول التنبؤ بمصير ظاهرة ما، لها علاقة وثيقة بتطلّعات الجماهير وتعطّشها للمعرفة. إذ كثيراً ما نقرأ على صفحاتها عناوين من قبيل «دواء جديد للسرطان؟» أو «أمل جديد للمصابين بمرض كذا...» وغير ذلك من العناوين التي تثير فضول القارئ.

إن ما يميّز النصوص المختصة عن النصوص التبسيطية هو أن الأولى تتسم بالصرامة العلمية والسعي الحثيث إلى بلوغ الحقيقة مع الحرص على تلافي الضبابية والحقيقة الغامضة أو القابلة للتأويل. لكن يبدو أن النصوص التبسيطية لا تتسم بالقدر نفسه من الصرامة، لأنها موجَّهة إلى أصناف مختلفة من المتلقين، ذلك أننا لا نستطيع أن نحدّث طفلاً عن العالم بالطريقة نفسها التي نحدّث بها كهلاً مثلاً. بل إن فهم الأشخاص لما يُنقَل إليهم من علوم يختلف باختلاف خلفياتهم الفكرية والاجتماعية ومستوياتهم الإدراكيّة ونحو ذلك.  تنطوي عملية التبسيط على تناقض صريح، لأن منتج الخطاب مطالَب باستخدام المصطلحات، لكنه يعرف في قرارة نفسه أن الجمهور الذي يتوجَّه إليه قد يعجز عن فهم دلالة تلك المصطلحات. والحل يكمن في اعتماد عدد من التقنيات التي تبسّط دلالة المصطلحات حتى تصبح قابلة للفهم، وذلك عبر استعمال وحدات معجمية عامّة لتقريب الصورة من ذهن المتلقي غير المختص. تتمثل هذه التقنيات في إعادة صياغة المصطلحات (وأحياناً الأفكار)، ويشبه ذلك ما يقوم به المترجم الذي يعيد صياغة الأفكار بلغة أخرى. 

لا تميل العلوم عادة إلى الضبابية والغموض في وصف الأشياء والظواهر، بل ترمي إلى الوصول إلى حقيقة واحدة للشيء الواحد. ولكن في خطاب التبسيط العلمي، تصبح الحقيقة الواحدة، في واقع الأمر، مجموعة من الحقائق، لأن كل شخص سينظر إليها من زاوية نظر معينة. فإن كل فئة اجتماعية (أمّي، طالب، عامل...) أو شريحة عمرية ينبغي أن تطّلع على العلوم باللغة المبسَّطة التي تناسب قدرتها على الفهم. فإن النشر المكثف لمصطلحات مجال ما يؤدي إلى ظهور دلالات موازية لها علاقة بتجربة الأشخاص العاديين وشعورهم، أكثر مما لها علاقة بحقيقة الأشياء ذاتها. 

وبهذا المعنى فإن الأشخاص العاديين تتكون لهم معرفة حدسية بدلالة بعض المصطلحات، لذا تجدهم يخلقون، رغبة منهم في عدم الانقطاع عن الحقائق العلمية للعالم وأشيائه، عالماً خاصاً بهم. ولذلك يرى «فرنسوا غودان» (François Gaudin) ضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار المضامين العلمية والثقافية للمصطلحات ويعبّر عن ذلك بعبارة «تعايش القيم الثقافية والاصطلاحية للكلمات نفسها»، ذلك أن المصطلحات تكون حاملة لمضامين علمية في الخطاب العلمي ولمضامين ثقافية في الخطاب التبسيطي. بل إن غودان يرى أن تبسيط بعض فروع المعرفة ونشرها يؤدي إلى «نشر مصطلحات خاوية دلالياً، ويتكفل العامة ببناء مفاهيم لها». 

لقد أدى الانتشار الهائل لوسائل الإعلام إلى نشر الثقافة العلمية في أوساط العامة والمثقفين العاديين، وإلى كسر احتكار العلوم من قبل مجموعة ضيقة من المختصين. ولا شك في أن المعارف، كما تنقلها نصوص تعميم العلوم، ذات فائدة عظيمة، لأنها تسهم في تحسين ثقافتنا العلمية. إلا أن الاطمئنان إلى المعلومات التي تقدِّمها تلك النصوص غير محبّذ، لأنها تنقل جانباً من المعرفة العلمية فحسب، وتجعلنا في منزلة وسطى بين الجهل والعلم .