سميح القاسم: الشِّعر المقاوم (1939 - 2014)

سميح القاسم: الشِّعر المقاوم (1939 - 2014)

ولد‭ ‬سميح‭ ‬الـقاسـم‭ ‬في‭ ‬بـلدة‭ ‬الزرقاء‭ ‬الأردنيـة‭ ‬فـي‭ ‬11/5/1939‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬والده‭ ‬ضابطاً‭ ‬في‭ ‬الجيش،‭ ‬وقد‭ ‬رجع‭ ‬بعدها‭ ‬مع‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬بلدته‭ ‬الرامة‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬قضاء‭ ‬عكا‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة،‭ ‬وتلقى‭ ‬دراسته‭ ‬الابتدائية‭ ‬في‭ ‬الرامة،‭ ‬ثم‭ ‬حدثت‭ ‬النكبة‭ ‬سنة‭ ‬1948‭ ‬فأتمّ‭ ‬دراسته‭ ‬الثانوية‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬الناصرة،‭ ‬وهناك‭ ‬بدأ‭ ‬نشاطه‭ ‬السياسي‭ ‬واشتغل‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬وفُصِل‭ ‬منه‭ ‬عام‭ ‬1964‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬ديوانه‭ ‬الثاني‭ ‬اأغاني‭ ‬الدروبب،‭ ‬الذي‭ ‬حذفت‭ ‬السلطات‭ ‬منه‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬لم‭ ‬تحتمل‭ ‬تعرضها‭ ‬المباشر‭ ‬لسياستها،‭ ‬وقد‭ ‬تعرّض‭ ‬بسبب‭ ‬شِعره‭ ‬ومواقفه‭ ‬الصلبة‭ ‬للسجن‭ ‬عام‭ ‬1961،‭ ‬وعام‭ ‬1967‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬حزيران،‭ ‬ثم‭ ‬فرضت‭ ‬عليه‭ ‬الإقامة‭ ‬الجبرية‭ ‬في‭ ‬حيفا،‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يثبت‭ ‬وجوده‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬النهار‭ ‬لدى‭ ‬مركز‭ ‬البوليس‭ ‬وأخيراً‭ ‬أجبر‭ ‬على‭ ‬لزوم‭ ‬بيته‭ ‬وحُظر‭ ‬عليه‭ ‬مغادرته‭ ‬بعد‭ ‬الساعة‭ ‬السادسة‭ ‬مساء‭... ‬تحول‭ ‬الشعر‭ ‬عند‭ ‬الشاعر‭ ‬سميح‭ ‬القاسم‭ ‬عن‭ ‬الندب‭ ‬والبكاء‭ ‬إلى‭ ‬شعر‭ ‬مقاوم،‭ ‬فهو‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬يمثل‭ ‬شعر‭ ‬المقاومة‭.‬

أصبح سميح القاسم في ديوانه «دخان البراكين»... الشاعر الذي يحمل همَّ الأجيال، فما عاد له همٌّ خاص، إلا من خلال هموم الأجيال، وما عاد له نوازع فردية إلا من خلال النوازع الجماعية!

وهو شاعر لم تستطع سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن تكسر شوكته وتحدّ من صموده. كما هو ثالث ثلاثة أقاموا للشعر العربي الحديث في الأرض المحتلة منارات مضيئة، وهم: توفيق زيّاد وسميح القاسم ومحمود درويش.

أحبابُنا‭ ‬خلفَ‭ ‬الحدودِ

ينتظرونَ‭ ‬حبّةً‭ ‬من‭ ‬قمحهمْ

وقطرةً‭ ‬من‭ ‬زيتِهم‭... ‬ويسألون

كيفَ‭ ‬حالُ‭ ‬بيتنا‭ ‬التريك

وكيفَ‭ ‬وجهُ‭ ‬الأرضِ‭... ‬هل‭ ‬يعرفنا‭ ‬إذا‭ ‬نعودُ؟

يا‭ ‬ويلنا‭..‬

حطام‭ ‬شعبٍ‭ ‬لاجئ‭ ‬شريدْ

يا‭ ‬ويلنا‭ ‬من‭ ‬عيشةِ‭ ‬العبيد

فهل‭ ‬نعود؟‭ ‬هل‭ ‬نعود؟‭!‬

أسس منظمة «الشباب الدروز الأحرار» للتصدي لقانون التجنيد الإسرائيلي وانضم إلى الحزب الشيوعي في إسرائيل عام 1967.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن انخراط الشعراء العرب في فلسطين المحتلة، وكذلك بعض الأدباء والمثقفين، في الحزب الشيوعي في إسرائيل ليس نابعاً عن إيمان بالعقيدة الشيوعية الماركسية، ولكن لأنه الحزب الوحيد الذي يسمح بانضمام العرب إلى صفوفه وممارسة نضالهم السياسي، فكانوا يدافعون عن قضيتهم الوطنية تحت مظلة هذا الحزب.

 

جدل‭ ‬الواقع‭ ‬والأسطورة

 بدأ كتابة الشعر في الثانية عشرة من عمره، واصل رحلة المعاناة والعطاء في مناخ الاحتلال الإسرائيلي المشبَّع بالاضطهاد والعنصرية والإرهاب. يصف عملية معاناة القصيدة وإبداعها فيقول: «في مجرى الحياة تتراكم في النفس جزيئات من مشاهد وومضات شعورية، وفي وقت معيّن يتحول هذا التراكم إلى ما يشبه غليان النبع قبل انفجاره من باطن الأرض.

ويندر لديّ أن تأتي القصيدة على مراحل، فهي في أغلب الأحيان تأتي بشكل متدفق يذهب مباشرة إلى الجمهور. ولعلّ هذا ما يعنيه بعض النقاد، حيث يتحدثون عن «التعجّل» لديّ في تقديم القصيدة، وهم على حق، فأنا لا أبذل جهداً كبيراً وقد لا أبذل أي جهد لإعادة صوغ القصيدة، وأحترم عفويتها المطلقة».

ولا بأس أن نقف لحظة عند قصيدته المطولة «إِرَمْ» وهي في في سبعة أناشيد. و إِرَمْ في الأساطير القديمة أن شدّاد بن عاد عندما بسط سلطانه على الدنيا بأسرها حشد عباقرة المخططين، فنفذوا أمره بتشييد مدينة ذهبيّة جدرانها مطلية بالمسك والعنبر، ويحيط بها سور مموّه بالذهب، حيث أصبحت غير مرئية من شدة وهج الضوء المنعكس عنها. ولكن أهالي هذه المدينة استرسلوا في شهواتهم وملذاتهم فغضب الله عليهم. وقد جاء في القرآن الكريم خبرها

‭{‬أَلَمْ‭ ‬تَرَ‭ ‬كَيْفَ‭ ‬فَعَلَ‭ ‬رَبُّكَ‭ ‬بِعَادٍ‮ ‬‭(‬6‭) ‬إِرَمَ‭ ‬ذَاتِ‭ ‬الْعِمَادِ‮ ‬‭(‬7‭) ‬الَّتِي‭ ‬لَمْ‭ ‬يُخْلَقْ‭ ‬مِثْلُهَا‭ ‬فِي‭ ‬الْبِلَادِ‭}‬‮ ‬‭(‬8‭) ‬ (سورة الفجر: 6 و7 و8).

ولكن الشاعر أراد إعادة بناء «إِرَم» جديدة فاضلة يعيش سكانها بهناء ورغد.

فالشاعر لا يستسلم، بل يقاوم ويناضل حتى آخر رمق، ويواجه قدره دون خوف أو وجل. يقول:

يا‭ ‬عدو‭ ‬الشمس‭ ‬لكن‭ ‬لن‭ ‬أساوم

وإلى‭ ‬آخر‭ ‬نبض‭ ‬في‭ ‬عروقي

سأقاوم‭!‬

وأقاوم‭!‬

وأقاوم‭!‬

والشاعر يحمل دمه على كفه، وهو قد جعل عنوان أحد دواوينه «دمي على كفي».

وفي سنة 1958 اعتقلته إسرائيل.

يلجأ الشاعر سميح القاسم إلى استخدام قناع «الصقر» في شعره الذي يعبّر عن موقف سياسي.

كما أن قناع «أيوب» المستوحى من المسيحية والإسلام يعبّر عن الرجل الذي يُضرب المثل بالآلام التي لازمته. وهنا يصبح «أيوب» رمزاً لفلسطين وللشعب الفلسطيني الذي يعاني آلام الاحتلال الإسرائيلي والتنكيل الذي يتعرض له منذ سنة 1948 وما قبل ذلك وقبل قيام دولة إسرائيل.

يقول الشاعر في إحدى قصائده:

قلت‭ ‬لي‭ - ‬أذكر‭ -‬

من‭ ‬أي‭ ‬قرار

صوتك‭ ‬المشحون‭ ‬حزناً‭ ‬وغضب

قلت‭ ‬يا‭ ‬حبي،‭ ‬من‭ ‬زحف‭ ‬التتار

وانكسارات‭ ‬العرب‭!‬

قلت‭ ‬لي‭: ‬في‭ ‬أي‭ ‬أرض‭ ‬حجرية

بذرتك‭ ‬الريح‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عام

قلت‭: ‬في‭ ‬ظل‭ ‬دواليك‭ ‬السبية

وعلى‭ ‬أنقاض‭ ‬أبراج‭ ‬الحمام‭!‬

قلت‭: ‬في‭ ‬صوتك‭ ‬نار‭ ‬وثنية

قلت‭: ‬حتى‭ ‬تلد‭ ‬الريح‭ ‬الغمام

جعلوا‭ ‬جرحي‭ ‬دواة،‭ ‬ولذا

فأنا‭ ‬أكتب‭ ‬شعري‭ ‬بشظية‭.‬

 

قلم‭ ‬سميح‭ ‬القاسم‭ ‬ومسدس‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات

في شعر سميح تزدحم موضوعات الغربة، الحب، البَرَم بالعيش تحت ضغوط الاحتلال، وهو برم لا يقود إلى اليأس، بل إلى التمرد والمقاومة. والموضوع الماثل أبداً هو فلسطين، الوطن المحبوب والوطن الضائع، والحنين
الدائم للانتماء إلى الوطن العربي والتشبث بجذوره.

ربما كانت «قصيدة الانتفاضة» من أشهر ما يمثل مقاومة الفلسطيني للاحتلال، على ما فيها من بساطة العبارة التي تتحدى شعر المنابر:

تقدَّموا‭ ‬تقدَّموا‭!‬

كل‭ ‬سماء‭ ‬فوقكم‭ ‬جهنم

وكل‭ ‬أرض‭ ‬تحتكم‭ ‬جهنم

تقدموا

يموت‭ ‬منا‭ ‬الطفلُ‭ ‬والشيخ

ولا‭ ‬يستسلمُ

وتسقط‭ ‬الأم‭ ‬على‭ ‬أبنائها‭ ‬القتلى

ولا‭ ‬تستسلمُ‭...‬

لن‭ ‬تكسروا‭ ‬أعماقنا

لن‭ ‬تهزموا‭ ‬أشواقنا

وقصيدته «مرفوع القامة أمشي» التي يغنيها مارسيل خليفة قصيدة مشهورة تصوّر روح المقاومة والتحدي التي يبثها الشاعر في قصائده.

وهو كان ينتمي - مثل الشعراء الفلسطينيين محمود درويش وتوفيق زيّاد وسالم جبران وآخرين - إلى حزب «راكاح»، أي الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وقد استفادوا من احتكاكهم بعناصر تقدمية يهودية.

قال الشاعر سميح القاسم في سنة 1999 عندما كان يتسلّم جائزة ثقافية في احتفال بجامعة بيت لحم بحضور ياسر عرفات: «والله يا أبو عمار، لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بأقلامنا». فما كان من ياسر عرفات إلا أن نادى حارسه وقال له: «هات مسدسك». ثم تناول المسدس وسار نحو سميح القاسم وقدمه له قائلاً: «مش بالقلم بس. بالمسدس كمان, خذه. خذ هذا المسدس واقتلني إذا وجدت فيّ اعوجاجاً». وأمام دهشة الحاضرين، وذهول سميح القاسم عانقه ياسر عرفات وقبّله مراراً على عادته.

وهو يقول إن لقب «شعراء المقاومة» الفلسطينيين أخذ من قصيدته «سأقاوم».

وهو لم يقاوم إسرائيل في شعره، بل قاوم مرض سرطان الكبد الذي أودى به. وهو لم يخف من الموت، لكنه أراد أن يموت بفرح.

في مجموعته «لا أستأذن أحداً» يقول في مطلع قصيدة «النبوءة الأخيرة»:

تجتاز‭ ‬باباً‭ ‬سابعاً

لتموت‭ ‬في‭ ‬فرح‭ ‬وصمتِ

وأنا‭ ‬أكون‭ ‬هناك

مبتهجاً‭ ‬رسولياً‭ ‬بموتي‭.‬

شعر سميح القاسم سهل، وكلماته مألوفة وعامية أحياناً. متأثر بالأناشيد الوطنية ولغته مباشرة مملوءة بالغضب والتحدي والتمسُّك بأرض فلسطين.

لقد حمل مع محمود درويش القضية الفلسطينية وحملتهما.

وهكذا سيبقى الشاعر سميح القاسم أحد فرسان الشعر الفلسطيني .