هل أخفت شجرة درويش غابة الشعر الفلسطيني؟

هل أخفت شجرة درويش  غابة الشعر الفلسطيني؟

بدأ‭ ‬المثقفون‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬يعيدون‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مشهدهم‭ ‬الشعريّ،‭ ‬ويسلّطون‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الأصوات‭ ‬التي‭ ‬اخفتتب‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬هيمنة‭ ‬درويش‭ ‬الشعريّة‭. ‬أصوات‭ ‬لا‭ ‬تقلّ‭ ‬قيمة‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬الراحل،‭ ‬ولا‭ ‬تقلّ‭ ‬جرأة‭ ‬وإبداعاً‭ ‬لكنها‭ ‬ظلّت‭ ‬مغيّبة‭ ‬لعقود‭ ‬طويلة‭.‬

هذه المراجعة لا تعني التهوين من قيمة الشاعر محمود درويش بقدر ما تعني إنصاف هذه الأصوات التي ظلمها حضور الشاعر الغامر فظلّت منكفئة في الظلّ، بعيدة عن صخب المهرجانات، وضجيج الاحتفالات. تحيا على أطراف المشهد الشعريّ الفلسطيني، ليس لها إلا عدد ضئيل من القرّاء، بعد أن سطا درويش على الجمهور، كلّ الجمهور.

هذه الأصوات كانت، على عكس صوت درويش، ذات نبرة خافتة، وربّما هامسة، تقترب أحياناً من الصمت. أسئلتها أسئلة الكائن المجروح تختنق اللغة في حنجرته فلا يصدر إلا بعض الكلمات القليلة المتناثرة. لاشك في أن فلسطين حاضرة في هذه الأصوات المرتجفة، لكن في شكل صور غائمة، غامضة في هيئة ألوان وأصوات باهتة. لقد تحوّلت، أقصد فلسطين، إلى خيط في نسيج القصيد المعقّد... حتى لا تكاد تظهر أو تبين.

شعراء‭ ‬فلسطينيون‭ ‬يحتجون‭ ‬على‭ ‬الظل‭ ‬العالي‭ ‬لدرويش

يقرّ الشاعر الفلسطيني مازن معروف بأن درويش، هذه النحلة الأكثر طنيناً في القفير الفلسطيني، حسب عبارته، كانت تحتاج إليه القضية الفلسطينية إعلامياً وسياسياً... فهو قدر رمزي بالنسبة إلى الفلسطينيين سدّوا به فراغاً مهولاً «هكذا وجدنا أنفسنا ومهما كان خط الرحلة مستقيماً أو معوجاً قد وضعنا وجهاً لوجه أمام قصيدة درويش... كانت كل الممرات تفضي إلى جملة كتبها أو عبارة تركها مذيّلة بتوقيعه أو مقابلة تلفزيونيّة أو تكريم أو احتفاء أو قصيدة أو كتاب...» هكذا ملأ درويش فلسطين وشغل أهلها حتى أنهم تناسوا بقية شعرائهم، فيما رفعوا درويش إلى مقام الرمز وحوّلوه إلى سلطة. وككل سلطة انعقد حوله إجماع وبات محل احتفاء الجميع سواء أدركوا قيمة شعره أم لم يدركوا.

لهذه الأسباب أخذ بعض المثقفين الفلسطينيين، بعد وفاة درويش، يتململون، ويدعون إلى إعادة ترتيب المشهد الفلسطيني... فسلطة درويش، وإن لم تنته بوفاته، ارتخت قبضتها... ويمكن لهؤلاء الشعراء، الآن، أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على الأمير، الذي بسط عليهم ظلّه العالي سنوات عدة. إن هؤلاء الشعراء أصبحوا يجاهرون بما كان يتهامس كثيرون به خلسة ووراء الأبواب الموصدة... فلسطين ليست لوناً واحداً أو صوتاً واحداً، وإنما هي ألوان متكاثرة وأصوات متعددة... ولا يمكن لشجرة مهما يكن ارتفاعها أن تغطي كل أشجار الغابة. كل ألوان قوس قزح.

هل هي ثورة الأبناء على سلطان الآباء، يريدون، بعد أن شبّوا على الطوق، أن يقتسموا معهم غنائم الحضور والشهرة؟

ربّما... لكنّ حضور درويش لم يغمط حقّ الشعراء الشباب، بل غمط حقّ مجايليه من الشعراء... ويشير كثير من المثقفين على وجه الخصوص إلى الشاعر طه محمد علي.

أنا على يقين بأن قلة قليلة من المثقفين، خارج فلسطين، قد سمعت بهذا الاسم أو قرأت قصائد هذا الشاعر، مع أن طه محمد علي شاعر ذائع الصيت في الولايات المتحدة وأوربا، قُرئ في أهم الجامعات العالمية، وتُرجمت قصائده إلى أكثر من عشر لغات، واعتُبر واحداً من أفضل مائة شاعر في القرن العشرين، هذا الشاعر الذي «حرّر الشعر الفلسطيني من شبح درويش»، حسب عبارة الشاعر الفلسطيني مازن معروف، قد عاش ومات في صمت، لم تُقم له المؤسسات الثقافية العربية، في حياته، أي ندوة فكرية تقرأ شعره قراءة جادّة، ولم تنظم له بعد موته حفل تأبين تذكّر بمساهمته المتميزة في إنجاز قصيدة فلسطينية، بل أقول عربية، حديثة ومتطوّرة... فظلّ الرجل لم يكن عالياً، كما هو الشأن بالنسبة إلى ظلّ محمود درويش، لهذا كانت إقامته في الأرض خفيفة كغيمة عابرة.

كان طه محمد علي مختلفاً عن درويش في كل شيء، خلقة وشعراً ورؤية للعالم والأشياء، فإذا كان لدرويش وسامة الأمراء وممثلي هوليوود، فإن لطه صرامة الفلاح الفلسطيني وصلابة قسماته: وجه حفرته الأخاديد... وظهر محدودب، وفك بارز، درويش يذكّرني في قسماته، بآلان ديلون الممثل الفرنسي المعروف، أما طه فيذكّرني بأنطوني كوين الممثل الأمريكي المشهور.

 

زمانان‭ ‬بعيدان

أمّا في مجال الكتابة فالفرق واضح... إذ كان طه يحرث في أرض أخرى غير التي كان يحرثها شاعر «عاشق من فلسطين»... لهذا لا نجد أي أثر لتجربة درويش في شعره، كما لا نجد أي أثر لتجربة طه في شعر درويش، لكأنهما كانا يعيشان في مكانين مختلفين، وفي زمانين متباعدين.

لكن قبل الخوض في شعر طه نريد أن نتعرّف إلى حياته التي لا تقلّ إثارة عن شعره. وُلد هذا الشاعر في قرية صفورية وهي إحدى قرى الجليل التي دمّرها الكيان الصهيوني وشرّد أهلها وحوّلهم إلى لاجئين في بلاد عربية كثيرة. انتقلت أسرته، بعد الاحتلال الإسرائيلي، إلى لبنان لتستقر في أحد المخيّمات، لكنها سرعان ما عادت إلى الناصرة لتسكن على تخوم المدينة قريباً من صفورية، ترقب من بعيد بساتينها وأطلال منازلها، كان الخروج من هذه القرية هو الجرح الغائر الذي ظلّ ينزف في كل قصائد طه من غير أن يتمكّن من تضميده أو نسيانه... لم ينس الشاعر، لحظة خروجه، الحرائق التي كانت تلتهم الأشجار والبيوت وتراث والده، ولم ينس الرحلة إلى لبنان وزخات الرصاص الإسرائيلي تطارد أسرته، ولم ينس مغامرة العودة إلى الناصرة وهو يقطع الأودية ويصعد الجبال لمخاتلة العدو الإسرائيلي، كل هذه الأحداث التي وشمت ذاكرة الشاعر تحوّلت في قصائده إلى صور ورموز وأقنعة، يقول طه: «إني أكتب عن الطفولة ومدارج الصبا وصفورية، صفورية التراب الذي لامس جسدي، فهذه القرية هي التي صنعت مني شاعراً».

 

قصيدة‭ ‬نثرية‭ ‬تستلهم‭ ‬‮«‬ماريو‮»‬‭ ‬و«الماغوط‮»‬

لم يتمكن طه بعد هذه السنوات المضطربة من الالتحاق بمقاعد الدراسة، فاختار دكاناً قرب كنيسة البشارة في مدينة الناصرة، واشتغل ببيع التحف والصور التذكارية. قال الشاعر قبل وفاته بقليل «من خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن وأنا موجود في مدرسة (يعني الدكان الذي يشتغل فيه) لن أخرج منها إلا للقبر... لا تمرّ فترة من دون أن أكتسب شيئاً من اللغتين العربية والإنجليزية... ومكتبتي تتكون من أعمال كتبت بهاتين اللغتين، فمثلما أحفظ قصيدة كاملة لامرئ القيس أو للمتنبي، فأنا أحفظ قصيدة كاملة للشاعر الإنجليزي كريستوفر مارلو...». ويضيف: «عندما كنت في سنّ الثامنة قرأت ألف ليلة وعنترة وتغريبة بني هلال... إن المحل الذي أشتغل فيه ساعدني كثيراً على المطالعة، فالسيّاح يأتون على فترات متقطّعة».

كتب طه قصيدة النثر من دون أن يكلّف نفسه مؤونة البحث عن سند فنّي أو فكري يعضده ويزكّيها... ربما كتبها بتأثير مباشر من الشعر الإنجليزي الذي أقبل على قراءته بحب وشغف كبيرين، أو ربّما كتبها بتأثير من شعراء قصيدة النثر العرب، وبتأثير من الماغوط على وجه الخصوص، لكن هذا لا يعني أن الشاعر قد استنسخ التجارب التي اطلع عليها... كلا... فطه حفر طريقه في أرض الشعر كما يحفر النهر مجراه من دون محاذاة أو محاكاة أو تقليد... فكلّ من يقرأ قصائد طه يلحظ أن قصيدة النثر التي كتبها قصيدة مختلفة عن القصائد التي عرفها... قصيدة حديثة متطوّرة تدل، كما قال أحد الشعراء، «على ثقافة شعرية عالية، ومشغولة، في الوقت ذاته، بأداء عفويّ كأنما هو عفو الخاطر»، قصيدة «عذبة، طفوليّة، مجروحة تقول المعنى الأكثر في اللفظ الأقل على حدّ عبارة النقّاد القدماء. أضف إلى ذلك أنها قصيدة احتوت، في الأغلب الأعمّ، على بنية حكائيّة جعلتها أقرب ما تكون إلى كناية موسعة، تلوح للواقع من دون أن تذوب فيه».

يقول في قصيدته «تحذير!»:

إلى‭ ‬هواة‭ ‬الصيد

وشُداة‭ ‬القنص‭!‬

لا‭ ‬تصوِّبوا‭ ‬غدّاراتكم

إلى‭ ‬فرحي‭!‬

فهو‭ ‬لا‭ ‬يساوي‭ ‬ثمن‭ ‬الخرطوشة

‭(‬تُبدَّد‭ ‬باتجاهه‭!) ‬فما‭ ‬ترونه‭:‬

أنيقاً‭ ‬وسريعاً‭ ‬كغزال

ويفرّ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬اتجاه

كديك‭ ‬حجل

ليس‭ ‬فرحاً‭!‬

صدقوني‭:‬

فرحي‭/‬

لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالفرح‭.‬

ويقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬حلم‮»‬‭:‬

فيما‭ ‬مضى

كنت‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬الحلم

‭/‬أنّك‭ ‬راحلة

فيخنقني‭ ‬الأسى

ولأنّ‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬حلماً

كنت‭ ‬أستيقظ‭ ‬وأفرح

ويملأ‭ ‬القمح‭ ‬الظهيرة

وأنت‭ ‬كنت‭ ‬الأسى‭ ‬وأنت‭ ‬كنت‭ ‬الفرح

أمّا‭ ‬الآن‭ ‬فإنّني‭ ‬أحلم‭ ‬أنّك‭ ‬قادمة

فأفرح

وأستيقظ‭ ‬لأدرك‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬حلماً

‭/‬فيخنقني‭ ‬الأسى

ويملأ‭ ‬الشوق‭ ‬الغسق‭...‬

معظم قصائد طه جمعت بين كينونة الشعر وصيرورة القصّ، فالشاعر ظلّ يسرد ويغنّي في آن، يسترفد مناخات الحكاية في بناء القصيدة من غير أن يتخلّى عن طقوس الشعر وقوانينه الأسلوبيّة والإيقاعيّة.

توفي مجنون صفورية بعيداً عن الأرض التي أحبّ في 2 أكتوبر 2011، تاركاً وراءه أعمالاً شعرية مهمة تنتظر من الباحثين والنقّاد العرب أن ينعطفوا عليها بالنظر والتأمّل .