ثقافة إلكترونية: الأصولية التكنولوجية في العالم الافتراضي

ثقافة إلكترونية: الأصولية التكنولوجية في العالم الافتراضي
        

          في عالم الفنون التشكيلية يمكننا أن نتخيل لوحة فنية نرى فيها رجلاً من عصر ناء بعيد ينتمي إلى زمن آخر، أو بالأحرى إلى زمن ماض، يجلس على أرض خيمة بدائية لكنه يمسك في يده جهاز حاسب آلي، أو ربما جهاز «آي فون» من الأجهزة الحديثة التي أصبحت صرعة اليوم، في دلالة على التناقض بين الماضي والمستقبل، أو بين قيم من عصور قديمة والقيم المعاصرة، وما يشبه ذلك من ثنائيات. ولعل فكرة لوحة فنية تقدم موضوعًا كهذا قد تبدو لافتة لانتباهنا، لكن حدود الانتباه لن تتعدى كون الفكرة مؤطرة في حدود اللوحة التي تنتمي للفن الرمزي، وليس للواقع، ومع ذلك فكثيرا ما يقال إن الواقع أحيانًا أغرب من الخيال!

          بمعنى آخر فإننا اليوم نشاهد على امتداد شاشة الإنترنت، وهي وسيلة اتصال حداثية وعلمية بامتياز، مواقع عدة تستخدمها جماعات ذات قناعات جامدة ورجعية للدعاية لأفكار ذات صبغة تتسم بنوع من التخلف، أو لنشر قناعات ذات غلو مبالغ فيه، أو لنشر ما يطلق عليه الجهاد الإلكتروني بالدعوة الى سفك الدماء أو لتكفير المجتمعات الأخرى أو حتى الحكومات العربية والإسلامية وغيرهما باسم الدين. وفي هذه الدعوات تتكشف حالة صارخة من التناقضات التي تتجسد في استخدام وسيلة حداثية، كان من الممكن أن توصف بالبدعة لدى العديد من أشياع مثل تلك التيارات، لنشر أفكار تتعارض في جوهرها مع طبيعة الوسيلة من حيث كونها أفكارًا أصولية ومتأخرة تطالب المجتمعات بالعودة إلى مظاهر وعادات وتقاليد تعود لقرون مضت.

الجهاد الإلكتروني

          لم يعد مفهوم «الجهاد الإلكتروني» مقصورًا على مجرد نشر أفكار خاصة، أو ربما التخطيط لأعمال عنف وتفجيرات دموية تستهدف في غالبيتها العظمى، مع الأسف، أفرادًا أبرياء وأطفالاً، عادة ما يروحون ضحية هذه الأعمال الإرهابية، بل تمتد اليوم إلى استخدام تقنيات البرمجة الإلكترونية في أعمال القرصنة على المواقع الخاصة لجهات تستهدفها تلك الجماعات فقط، بل تمتد إلى محاولة تدمير منشآت عبر التفجيرات الإلكترونية على ما يقول تقرير صادر عن معهد السلام الأمريكي، كتبه الباحث جابريل وايمان يقول فيه: «بدلا من استخدام المتفجرات، تستطيع الجماعات الإرهابية من خلال الضغط على لوحة المفاتيح تدمير منشآت كالبورصات والبنوك، وتحقيق آثار تدميرية تفوق مثيلتها المستخدم فيها المتفجرات، ولهذا فإن أغلب المواقع الجهادية الأصولية تتضمن دعوات لهذا النوع الجديد من الإرهاب».. ومثل هذه التقارير لا تصدر عن تعميمات محتملة بل عن دراسة حالات، لأن التقرير يذكر بالاسم عددًا من المواقع التي تخص تنظيمات ما يسمى بالجهاد وبينها فروع التنظيمات الجهادية التابعة للقاعدة في العراق وغيرها.

          وربما لا يحتاج الموضوع حتى لتصفح هذه المواقع، فقد انتشرت الأخبار عبر وكالات الأنباء العالمية على مدى شهور عدة، وهي تحمل تصريحات من قيادات عدة في جماعات جهادية، من بينها «القاعدة»، تتضمن إما تهديدات بتفجير كنائس في مصر، أو قتل أفراد وضباط في العراق، أو غيرها من أعمال عنف وتدمير.

          والحقيقة أن موضوع «الإرهاب الإلكتروني» لا يتوقف فقط عند حدود وجود مواقع إلكترونية تمثل هذه الجهات التنظيمية الجهادية ذات الأهداف السياسية، بل يمتد لمواقع أخرى تبدو مهتمة بالقيم الدينية، بينما هي، شاءت أو أبت وقصدت أم لم تقصد، تمهد المناخ لتلك الأفكار المتطرفة بالتركيز على تقديم أفكار تبدو في مظهرها جذابة، بينما هي في جوهرها تعبر عن المنطق المتضاد ولن أقول الانتهازي الذي يبرع فيه - مع الأسف - العديد من الرموز المهتمين بقضايا تتحدث كثيرًا عن الدين، لكنه حديث عام، خصوصًا إذا ما تناول مفاهيم مهمة مثل التقدم المجتمعي، أو المجتمع العلمي، أو أي من سبل تحقيق التنمية البشرية في المجتمع.

تناقضات الغاية والوسيلة

          على سبيل المثال، الموقع الشخصي لأحد رموز الدعوة الدينية الإسلامية يتضمن مقالاً بين العديد من مقالاته يتحدث فيه عن الديمقراطية بقوله «إن البعض يقول عنه إنه مبدأ مستورد، فالاستيراد في ذاته ليس محظورًا، إنما المحظور أن تستورد ما يضرك ولا ينفعك، وأن تستورد بضاعة عندك مثلها أو خير منها، ونحن نستورد من الديمقراطية آلياتها وضماناتها، ولا نأخذ كل فلسفتها التي تغلو في تضخيم الفرد على حساب الجماعة، وتبالغ في تقرير الحرية ولو على حساب القِيَم والأخلاق، وتعطي الأكثرية الحق في تغيير كل شيء، حتى الديمقراطية ذاتها! نحن نريد ديمقراطية المجتمع المسلم، والأمة المسلمة، بحيث تراعي هذه الديمقراطية عقائد هذا المجتمع وقِيمه وأسسه الدِّينية والثقافية والأخلاقية، فهي من الثوابت التي لا تقبل التطور ولا التغيير بالتصويت عليها».

          والمفهوم هنا أن الدعوة لاتخاذ الديمقراطية سبيلا للوصول إلى الحكم، ثم الانقلاب على جوهرها، وهذا هو جوهر التناقض في أفكار هذه الفئات التي تنتشر على الشبكة آراؤهم وتقدم للشباب باعتبارها أفكار العلماء والفقهاء، بالرغم من أن بين هؤلاء الفقهاء من أساءوا لمذاهب إسلامية أخرى، وتقولوا عليها بما لا يليق من دعاة يثق بهم الكثير من المواطنين العاديين الذين لا يفرقون الغث من السمين في أمور الدين، ويأخذون كلام الدعاة على علاته.

          ويبدو أن الكثير من هذه المواقع تتعرض للقرصنة من قبل أجهزة المخابرات والجهات المتخصصة في ملاحقة الإرهاب بالولايات المتحدة وأوربا، حيث إن الكثير من هذه المواقع عند دخولها لا تجد محتواها الأصلي من موقع يعرف باسم موقع «جيش أبي بكر»، أو موقع «شبكة الخلاص الإسلامي» الذي يعرّف نفسه بأنه موقع مختص بالجهاد الإلكتروني.

ظاهرة الدعاة الجدد

          توجد كذلك مواقع عدة لمن يعرفون على نحو خاص بـ«الدعاة الجدد»، وبتصفحها تبدو كمواقع دعائية للبرامج التلفزيونية، التي يقدمها هؤلاء الدعاة على شاشات الفضائيات العربية المختلفة، أو حتى الدعاية لقنوات تلفزيونية يمتلكها بعض هؤلاء الدعاة. أما المحتوى فهو لا يزيد على عدد من الفتاوى المكررة في موضوعات فقهية أغلبها في الحقيقة موجود ومنقول عن كتب الفقه الموثوقة.

          بمعنى آخر أن العديد من المراقبين والمتابعين الرصينين لهذه المواقع وحتى للقنوات التلفزيونية التي تقدم برامج لهؤلاء الدعاة الجدد، يلاحظون مدى بساطة الخطاب المقدم وسطحيته، أو كما نشر تقرير في إحدى الصحف وصفًا لهذا الخطاب بأن أهم ما يميز خطاب الدعاة الجدد أنه «خطاب عام فضفاض غير محدد الملامح ولا واضح القسمات، إذ هو خطاب مغرق في بساطته، يتكلم في العام وغير المحدد، يستثمر أشواق الشباب والرغبة في التديّن والبحث عن سبل نجاة في وجه مادية طاحنة إمّا أن تغرقه في ملذاتها وتلهيه في مستوى الوفرة أو تطحنه بحرمان لا يعرف له منتهى». ويضيف كاتب المقال د.عمرو عبدالكريم أن خطاب الدعاة الجدد هذا «يبدأ بالتمترس خلف قصص السيرة النبوية وحياة الصحابة وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم والجوانب الأخلاقية السلوكية والبعد عن الجدال الفقهي والخلافات الفقهية والمسائل السياسية حتى يكتسب أرضية ومساحة للحركة ثم لا يلبث أن يطرح نفسه في الساحة كرمز من الرموز الدعوية، وهنا تبدو صناعة الرمز بأبعادها الرأسمالية وقوانين السوق وما يترتب عليها من شبكة علاقات ومصالح «بزنس» تكون الدعوة نفسها بعد الفترة من مكملات الديكور الشكلي وليست من صلب الصورة».

          وما يثير الانتباه هنا نقطتان، الأولى تتعلق بالمواقع الخاصة بتنظيمات جهادية من مثل ما سلف الإشارة إليها وهي في الحقيقة قد فقدت الكثير من مصداقيتها بعد أن تحرك الشارع العربي مطالبًا بحقوقه في الحرية والعيش الكريم عبر ثورات سلمية استطاعت بهذه القوة الناعمة أن تحقق ما لم تتمكن منه أي من هذه التنظيمات الجهادية التي تدعو للعنف والقتل، حيث حققت الانتفاضات العربية الشعبية المدنية نتائج هائلة بإسقاط أنظمة ديكتاتورية مثلما حدث في تونس ومصر، وبعضها لايزال مستمرًا في الثورة مثل اليمن وليبيا وسورية مع الاختلاف في الظرف الخاص لكل حالة منها.

          والنقطة الثانية تتعلق بالمواقع الخاصة بالدعاة الجدد وما تتضمنه المواقع الشخصية الخاصة بهم من محتوى، في بساطته، وعاديته يبدو مؤشرًا على خلو الساحة لمثل هؤلاء الدعاة الذين يبحثون عن الشهرة والثروة، من رموز الإصلاح الديني الكبيرة التي عرف من خلالها المجتمع العربي مظاهر التدين الحقيقي المعتدل الذي يعلي من قيمة العقل والعقلانية والتسامح.

          وهو ما دعا أحد المواقع «الإسلامية» إلى نشر مقال جاءت فيه فقرة ترى تشابها بين هؤلاء الدعاة الجدد ونظراء لهم من الدعاة الجدد في الولايات المتحدة، وجاء فيها: «تصنع الفضائيات دعاتها الذين يكونون على شاكلتها يتشابهون فيما بينهم إلى حد التنميط حتى يصح القول إن ما يجمع بين الدعاة التلفزيونيين عبر العالم أكثر مما يفرقهم أيًا كانت دياناتهم، ومن ثم فلم يكن غريبًا هذا التشابه الكبير بين الدعاة الجدد في العالم الإسلامي وخاصة عمرو خالد ونظرائهم الإنجيليين في الولايات المتحدة الذين كانوا الأسبق ظهورًا، على أن التيمة الأساس التي تجمع بينهم هي تيمة «النجم»: الداعية النجم أو النجم الداعية وما تقوم عليه من منطق دعائي تسويقي أساسه صناعة النجم الذي «يتأيقن» أي يصير أيقونة تحمل قيمتها في ذاتها، ليتحول لاحقا إلى ماركة تجارية. إن  فكرة الداعية «النجم» لم تكن يوما أصيلة في فضاء الدعوة الإسلامية والفقه الإسلامي، بل وليدة منطق السوق وزمن الدعوة في الفضائيات، وقد أشاعها الدعاة الجدد في الحقل الدعوي بالرغم من أنه «يفترض» أنه يختلف تقليديًا إلى حد التناقض مع فكرة النجومية، فـ«الحق لا يعرف بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق، واعرف الحق تعرف أهله» وحيث ثقافة راسخة في رفض الشهرة والحذر منها والتحذير من عواقبها.

تديّن أم هوس ديني؟

          إن تأمل هذه الظواهر التي يمكن رصدها بسهولة عبر شبكة الإنترنت مع الغياب الكامل تقريبا للمواقع العلمية العربية، والفقر الفادح في المحتوى العربي المعرفي على شبكة الإنترنت، يكشف عددا من الظواهر بينها ظاهرة «الهوس الديني»، التي تجتاح المجتمعات العربية، التي تبدو كأنها تكتشف الدين وليست مجتمعات متدينة بالفطرة منذ أقدم العصور حتى الآن. هذا الهوس هو الذي يبرر ظهور مثل تلك المواقع الإلكترونية التي تغذي هذا الهوس لأنه يمثل استثمارًا لأصحاب تلك المواقع يزيد من شهرتهم ويرفع من نسب مشاهدة برامجهم ويكدس حساباتهم البنكية (يبدأ واعظا وينتهي صاحب قناة فضائية ومدرسة خاصة ومؤسسة لبيع الأشرطة والبرامج ..!) وبالتالي من أجورهم، وكأن المجتمعات العربية قد فقدت تدينها فجأة.

          كما أن غياب دور المؤسسات الدينية الإصلاحية وعلى رأسها الأزهر كان له دور كبير في تفاقم مثل هذه الظواهر، وإن بدا أن مؤسسة الأزهر في عهد الدكتور أحمد الطيب قد بدأت تستعيد مكانتها بالتأكيد على فلسفة الإصلاح الديني والتأكيد على القيم العقلانية ومفاهيم التسامح والمعرفة العلمية كقيم أساسية في الدين الإسلامي تم تغييبها وتهميشها لصالح أصحاب المصالح السياسية في المنطقة العربية لعقود طويلة.

          وللدكتور رشدي راشد العالم العربي المقيم في فرنسا رؤية خاصة لتفسير تراجع المستوى العلمي وغياب العقلانية في العالم العربي يقول فيها: «منذ عهد محمد علي‏,‏ وعهد عبدالناصر إلى الآن‏,‏ لم يهتم أحد بالعلم كقيمة اجتماعية‏,‏ حيث كان يتم الاهتمام بالتكنولوجيا أكثر من العلم‏,‏ أو بالأبحاث التطبيقية أكثر من الأبحاث العلميه النظرية‏,‏ لأن مفهوم العلم كان تطبيقيًا‏.

          واستمر هذا الوضع‏,‏ ولما جاءت الثورة أو الانقلاب عام ‏1952,‏ كان هناك شعور بأهمية العلم‏,‏ لكن كان التصور - أيضًا - تطبيقيًا ولم تخلق أو تنشأ معاهد الأبحاث التي تعمل على العلم النظري‏,‏ وحتى معهد الأبحاث المصري‏,‏ هو أساسًا ذو اتجاه تطبيقي أكثر منه نظريًا‏.‏

          ومن هذه الأسباب أيضًا‏, وجود الاستعمار القديم‏,‏ وأحد أهم الأشياء التي فعلها الإنجليز فور دخول مصر هو إلغاء الكليات العلمية‏,‏ وعندما أسست الجامعة المصرية وظهر أفراد ممتازون مثل مصطفى مشرفة‏,‏ ومصطفى نظيف‏,‏ حاولوا بجهود فردية إحياء البحث العلمي والعمل من أجله‏,‏ وأنشأوا جمعيات ومجلات ما بين الأربعينيات والخمسينيات‏,‏ ولأنها مجهودات فردية في أغلب الأحيان‏,‏ فلم تتحول إلى خبرات اجتماعية داخل المجتمع المصري والعربي‏,‏ ولم يفرض العلم كقيمة اجتماعية‏,‏ لأن هذا لكي يحدث لابد أن تعترف بالعقلانية كالقيمة الاجتماعية الأولى، وهو ما لم يحدث أيضًا‏.‏

          وبعد النكسات والهزائم ودخولنا في مرحلة جديدة‏,‏ بدأت بانتهاء العهد الناصري‏,‏ ومع أول أيام السادات‏,‏ ثم دخولنا في معاهدة كامب ديفيد‏,‏ وكانت لهذه المعاهدة شروط‏,‏ ومن هذه الشروط إلغاء كل المحاولات العلمية الجنينية، التي تمت في عهد عبدالناصر‏,‏ مثل معهد الطاقة النووية الذي كان يضم مشرفة وآخرين‏,‏ ووقف البعثات العلمية إلى روسيا‏,‏ ووقف الأبحاث في الفيزياء والكيمياء التي كانت ضمن مقررات معهد الطاقة النووية‏,‏ وكما نعرف فإن الأبحاث تولد الأبحاث‏,‏ فإذا توقف مجرد البحث فماذا ننتظر؟ فالبحث في الفيزياء مثلا يقتضي تكوينًا علميًا في الرياضيات والكيمياء ومجالات علمية أخرى‏,‏ وهذه قيمة البحث الذي يساعد على نوع من النهضة العلمية وليس مجرد الشكل النفعي لها‏.‏

          وبدلاً من تحويل العلم إلى مناخ كما كان يحاول عبدالناصر‏,‏ استجبنا لشروط كامب ديفيد‏,‏ واخترعنا قانون الرّدة‏,‏ ودخلنا بالتالي في هوسة دينية وأقولها بكل وضوح هوسة دينية‏,‏ لأننا نرى آثارها الآن في المجتمع المصري‏,‏ وبدلاً من اكتساب القيم العقلية وفرضها كقيم أساسية‏,‏ بدأنا نفرض قيمًا أخرى باهتة دينيًا‏,‏ فتوارى دور العلم والعقلانية تمامًا‏,‏ هذا ما حدث ويحدث إلى الآن‏».

 

إبراهيم فرغلي