عادل كاظم وفن تشكيل النص المسرحي

عادل كاظم وفن تشكيل النص المسرحي

حين‭ ‬تتنوّع‭ ‬اتجاهات‭ ‬الإخراج،‭ ‬وتتباين‭ ‬أطروحاتها،‭ ‬وتتناقض،‭ ‬فإنها‭ ‬لابدّ‭ ‬أن‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬إخراجية،‭ ‬يكون‭ ‬أساسها،‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬الدراما‭ ‬المكتوبة،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬اسيناريوب‭ ‬يمهّد،‭ ‬في‭ ‬امخططهب،‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬العرض‭ ‬المسرحي‭ ‬المرتقب‭.‬

والنص الدرامي، بدوره، يُبنى على نسق مبتكر يخصّ المؤلف نفسه، الذي يجد أمامه ما يشبه المتاهة المركّبة التي صممتها عقول المبدعين المسرحيين (الدراميين)، وقرائحهم، عبر فترات تاريخية بعيدة أنتجت مئات النصوص من روائع الآداب القومية لتلك الشعوب التي اشترعت تقاليد جديدة لفن كتابة المسرحية. 

ليس من المغالاة، بالنسبة لتاريخ مسرحنا في العراق، أن نضع كاتباً مسرحياً مثل عادل كاظم في موضع الريادة التجريبية، في مرحلة ما بعد الكاتب يوسف العاني، الذي سبق له أن أنجز تطوراً ثميناً ملحوظاً في تأسيس ملامح فنية رصينة في النص، مع نخبة من الكتّاب، منهم: طه سالم، نورالدين فارس، محيي الدين زنكنة، بنيان صالح، جليل القيسي، وآخرون.

عادل كاظم، الذي نشأ وترعرع في البصرة، الحالم على طريقة السندباد، بارتياد آفاق بعيدة، نمت في داخله بذرة الإحساس بالإيقاع الشعري العروضي، وحين كان يشاهد الأفلام كان يعيد سرد قصصها على مسامع أخيه الفنان التشكيلي نداء كاظم، النحّات الذي أبدع في كثير من الروائع النحتية، ومن بين أبرزها تمثال الشاعر بدر شاكر السياب في مدينته على شط العرب. وقد تأثر عادل، من جانبه، بالتكوينات التشكيلية، وتدرّجاتها اللونية، ونسبها، واتجاهات خطوطها، وحجومها، ومساحاتها، وطرق تصميمها. 

وبذلك توافر له إمكان ولادة مشروع كاتب درامي ينهل من أخيه هذا الحسّ التشكيلي، ومن زميل طفولته الفنان المبدع محمد مهر الدين، وما يملكه من ثقافة إنسانية تقدمية، وذوق مرهف، وقدرة إنتاجية مغايرة للسائد المألوف، وما يخصّب مخيّلته من فضاءات سينمائية، لكبار المخرجين العالميين، الذين تعاملوا مع الأساطير، والتاريخ، والحكايات الفلكلورية، تعاملاً إبداعياً جريئاً، جعل الذاكرة البشرية رهن التلقي المعاصر للإنسان البسيط، وللنخبة المفكرة أيضاً، في صالة تجتمع فيها الأحلام، والصبوات، وتتغير عبرها نظرات هذا الجمع الخليط إلى طبيعة مجتمعها الذي تبدّلت أطواره السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية.

من اللاشعور الثقافي للمدينة انتقل أثر الخبرة هذه، ممثلة - أيضاً - في لغة الفراهيدي، وطرائف الجاحظ، وأشعار أبي نواس، ومجونه، ومغامراته، إلى تحصيل عادل كاظم المعرفي (المديني) المتلاقح من تراث يمتدّ عميقاً في الذاكرة الوطنية العراقية.

هنا، تشكّل لديه ما يُسمّى بالأنموذج المعرفي الخاص، والمعروف بـ«Paradigm»، الذي يؤطر مجموعة المعتقدات والقيم والأساليب والأفكار التي كان يتداولها الوسط المسرحي آنذاك، والمتفاعلة - أيضاً - مع الوضع السياسي والفكري للعراق في تلك المرحلة التاريخية (الستينيات والسبعينيات والثمانينيات)  من القرن العشرين. كان لدى عادل، وجيله، توق فني ومعرفي، ومقاربة قرائية مضنية لفهم آفاق الواقعية واتجاهاتها، وكذلك الوجودية في الفلسفة والمسرح، أو ما انتهت إليه نظريات الملحمية، ومسرح العبث واللامعقول، والتجارب الطليعية الأخرى في «التجريب» المسرحي المتنوع. التقط عادل كاظم من تلك التحولات الدرامية المفصلية، عبر تاريخها الطويل، وبمهارة نقدية - تحليلية، «جوهر» الفن الدرامي المسرحي، وميّزه من أعراضه الزائلة النافلة.

ونجح عند قيامه بـ«التخطيــط» لكتابة نصوصه الدرامية مســـرحياً، وتلــفزيونياً، وإذاعياً، وكذلك حرص عــلى اخـــتيار «موضــــوعاته» الفنية، بمعرفة جمالية وجدلية، تنقل تخيّلاته من فضاء «الاحتمال» إلى «التحقيق» العملي، يجد حلولاً إبداعية لتلك المشكلات الساكنة التقليدية، ويتجاوزها إلى فضاء  من التواصل مع شريكه الأشهر في التجربة، لا في الكتابة، وإنما في «الإخراج»، الفنان إبراهيم جلال، ومع أمثاله من مخرجينا الكبار، مثل: جاسم العبودي، سامي عبدالحميد، بدري حسون فريد، محسن العزاوي، أديب القلية جي، وسواهم. 

هؤلاء المخــــرجـــــون الذين ترشّحوا لإخراج أعماله أضافـــوا منظـــورات مرئــيــة لتجريدات الكتــــابة، وبثّوا «قيماً» معزِّزة لتلك الأنساق المضمرة، ونقلها على ألسنة شخوصه، وحواراتهم، وهــــم يفككــون معه تلك الأحكام القيمية (المعيارية)، ويتطلعــون إلى قـــيم معرفــــية مغايــــرة. يذكر في هـــذا المقام حواراته، ومساجلاته الصحفية مع د.جميل نصيف، المعروف برصانته الأكاديمــية المرموقة. 

ينظر عادل كاظم إلى الفن، بوصفه «خطاباً» خاضعاً للنظرية الدرامية التي لا يجيدها إلا مَن تعرّف إلى أسرارها، وخفاياها، ليجعلها معبّرة عن أفكاره، بصورة فنية جذّابة، وهذا التوافق مع رأي أناتول فرانس الذي وجد في الفن انتقالاً إلى «صور» غير التي نراها في الحياة. ويضيف: «إنها صور تصلح مساوئ الحياة وتكفّر عن ذنوبها». 

لكن تبقى المفارقة قائمة بينه وبين المخرجين، إذ أقام المخرجون إبداعاتهم على نصوص عادل كاظم، وأقام هو شهرته على عروض المخرجين في آن واحد. وبذلك كلّ منهم صنع إبداعه الخاص من خلال هذا التفاعل الخلَّاق (الجدلي)، بينه وبين الآخرين.

منذ مسرحيات الستينيات، وهو في معهد الفنون الجميلة، تواصلت نصوصه على خشبات مسرحنا، من «الكَاع» إلى «عقدة حمار» و«الطوفان»، و«تموز يقرع الناقوس»، و«الحصار»، و«الخيط»، و«الموت والقضية»، و«مقامات أبي الورد»، و«المتنبي»، و«نديمكم هذا المساء».

مثّل في نصوص عادل كاظم كبار ممثلاتنا وممثلينا، ومن الممثلات: زينب، وناهدة الرماح في «تموز يقرع الناقوس»، وناهدة في «عقدة حمار»، وفوزية عارف في «الخيط»، وأميرة علي في «الغضب»، وسهام سبتي وسليمة خضير وفاطمة الربيعي في «الحصار»، وسناء عبدالرحمن في «مقامات أبي الورد»، وهناء محمد في «المتنبي»، وسمر محمد في «نديمكم هذا المساء» ومن الممثلين: سامي عبدالحميد، إبراهيم جلال، كريم عواد، صلاح القصب، جواد الشكرجي، سامي قفطان، قاسم محمد، حميد الجمالي، يعقوب الأمين، فخري العقيدي، مقداد عبدالرضا، عبدالأمير الورد، عزيز عبدالصاحب، فارس عجام، جبار كاظم، عزيز خيون، غازي التكريتي، ستار البصري، وآخرون.

طغت «الثيمة» الفكرية الخاصة بوعي البطل الوجودي، الفردي، المنهمك بمشروعه ضد السلطة، وبطانتها، من أسماء ووظائف أجنبية، جاءت إلى حصار بغداد، أو الاحتلال منذ المغول والتتار، إلى العثمانيين إلى الإنجليز، إلى الحكم المطلق، وهي تذكّرنا بمحنة العراقيين وهم يرزحون تحت سلطة «خزندار، وجندرمة، والصاحب، وسواهم»، ويقابلهم «شعيط ومعيط وجرار الخيط، والسايس، وفلتانة، على خلفية من مناظر بابلية، وعباسية، بغدادية وعثمانية، ومعاصرة».

وقد تمّ نحت هذه العروض، بصياغة بصرية، للفنان كاظم حيدر، وفاضل قزاز، وأزياء امتثال الطائي، وسواها.

عمّق الإخراج اتجاهات النص الذي يكتبه عادل كاظم في مسارب حلمية، وواقعية، وتعبيرية، ووجودية، وعبثية (كافكوية) مثلاً. وهي تحمل رسائل «فكرية» عريضة، وصادمة، كالذي حصل في إعداده لمسرحية برخت، «دائرة الطباشير القوقازية»، تحت عنوان: «دائرة الفحم البغدادية»، التي أبدع في إخراجها إبراهيم جلال، وفق منهج برختي، وتأويل عراقي خاص برؤية المخرج الذاتية، ما أثار حفيظة الرقيب، وقام بإيقافها بعد عرضها الأول.

عُرف عن عادل كاظم بعض المفارقات الساخرة على طريقة برناردشو، الذي أخذ عنه، وعن سارتر، ذلك الولع بالأفكار الاشتراكية العامة، والوجودية الفردية الخاصة، وكذلك الهجاء الساخر، وسخريته حتى من نفسه، حتى أنه قال مرّة، مداعباً، إنه يعد العدّة، لتحطيم السينما العراقية، بعد أن فرغ من تحطيم المسرح العراقي والتلفزيون! (رغم أنه قدم روائع المسلسلات، مثل: الذئب وعيون المدينة، والمدن الثلاث... وسواهما).

ومن طرائف تقلّباته الوجدانية الحميمة ما يمكننا تسميته بـ «فضل السودان على البيضان»، على نهج الجاحظ، ابن مدينته (البصرة)، حين فضحه عطر الغابات الإفريقية الصارخ المراق على مخدع نومه الأسري.

وتكثر الطرائف، والحكايات، حين كان يكتب حواراً مضافاً للدور الذي يمثله صلاح القصب، وهو يغريه على دعوته لغداء في أحد المطاعم، الأمر الذي جعل المخرج إبراهيم جلال يقف مستغرباً من هذه الزخّات الحوارية الفجائية التي يمطرها الممثل في قاعة التمرين، يومياً! إضافات جعلت حواراته تخرج عن الإطار الذهبي المطلوب، في «الحدث» الدرامي! وله طرائف مع نديمه في الراح، إبراهيم جلال، في الليالي المقمرات.

يحتفظ عادل كاظم بمخطوطات كثيرة لمسرحيات ومسلسلات جديدة, يسعى في تقديمها إلى جهات إنتاجية تتبنى عطاءه المكتنز بالإنسانية، والحب، والجمال، والوطنية الحقّة، والموهبة المثقفة، والعراقية العميقة الجذور، الفوّاحة العطرية.