العزف بالكاميرا عند عاطف الطيب

العزف بالكاميرا عند عاطف الطيب

 

تكاد تسمع صوت السينما المصرية تنادي أسماء بعينها مع كل موجة غريبة عليها، يحكمها إحساس الفقد لبعض «الطيبين» الذين غازلوا الجمال الكامن تحت سطح يغلي، وجعلوا الهم الإنساني مصدر بهجة، وأجابوا عن دورها في تنوير الناس بجوهر الأزمة، بعيداً عن عرضها الظاهر. خيال الفن أكبر من كل الحقائق... هكذا تدشن حرية التناول عند عاطف الطيب الذي رحل سريعاً (1947-1995)، فكان كأنه يطارد هاجس الرحيل، أو يقدّر أن أفلامه ستكون علامة على فترة كاملة بتغيراتها المتزاحمة، فأخرج في فترة قصيرة 21 فيلماً، وشارك مساعد مخرج في 5 أفلام... عدد قليل بمقياس الكم، ولكن حضور الموهبة فيه واضح جداً، حتى قال صلاح أبوسيف، ولو على سبيل التواضع، إنه أحس بحالة من الغيرة الفنية بعد مشاهدة أفلام عاطف الطيب، فهل اجتاحته الغيرة الفنية مع: «سواق الأتوبيس»، و«الحب فوق هضبة الهرم»، و«البريء» (اختيرت الأفلام الثلاثة هذه ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية)، أو زادت مع أفلام: «الهروب»، و«كتيبة الإعدام»، و«ضد الحكومة» و«قلب الليل» و«ليلة ساخنة»، وبالطبع «ناجي العلي» ؟

على مستوى الموضوع، ظل هاجس الحرب على الفساد حاضراً، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، وكذا قطاع الشرطة الذي يجاهر بأنه يفتعل الأزمات ويتاجر بها في فيلم «الهروب» على طريقة «عصا موسى»، والذي يبرر الفكرة، ويجاهر بكونها «تفكير أمريكاني يا افندم»، ويبدو «الطيب» مؤمناً بأن تطهير هذا الجهاز أمر يؤسس لنظافة البلاد ذاتها، بعيداً عن أمين الشرطة الذي يعطي المعلومات الصحيحة للمحامي الفاسد في «ضد الحكومة»، أو يغير موقفه فيتغير وجه القضية، كما فعل ضابط المباحث (ممدوح عبدالعليم) في «كتيبة الإعدام»، أو حتى عسكري الأمن المركزي البسيط (أحمد زكي) في «البريء»، الذي يدرك – بنقاء فطرته-خطأ كون أبناء بلده «أعداء الوطن» كما كانوا يريدون إيهامه.

  وتبدو حربه على الفساد مترادفة مع موقفه من الانفتاح الذي اجتاح نفوس البشر كما اجتاح البلاد، وصار تقييم كل شيء تبعاً لقيمته المادية، فتحولت القيم إلى مزاد السمسرة. تبدو المسألة حاضرة حتى في أفلامه الأخيرة، وتجد ذلك في «إنذار بالطاعة»، وفيه يتورط الشباب الجامعي في سرقة محطة بنزين، وتترك البطلة (ليلى علوي) حبيبها مؤقتاً، وتُخطب لأحد أثرياء الانفتاح، تماماً كما تفعل أخت البطل  في فيلم «الحب فوق هضبة الهرم»، وتتزوج من سباك ثري من منتفعي الانفتاح، وهي الجامعية المثقفة. إنه «قانون السبعينيات» كما يقول أحمد زكي في نهاية فيلم «ضد الحكومة»، ذلك الذي جعل من زميل البطل في الجيش أثناء حرب أكتوبر مزوراً محترفاً في «الهروب»، فيواجهه بصراحة، وقد يأتي موقفه مستتراً تحت الرمز؛ كما فعل نور الشريف في «سواق الأتوبيس»، الذي يترك اللص ولا يبالي بمطاردته في بداية الفيلم، وهو الموقف الذي يتغير في نهاية العمل ذاته، دلالة على التطور الحاصل في الشخصية من جهة، وكون محاربة الفساد هي الحل الوحيد وليس دفن الرؤوس في التراب كالنعام. يساعدك على تقبل ذلك ما تراه من خلفية البطل في «سواق الأتوبيس»، التي جاءت مفعمة بجو البطولة والحروب، حتى يسهم زملاؤه في الجيش في خروج زميلهم القديم من أزمته التي يحياها بفعل الشروع في بيع ورشة الخشب التي يمتلكها أبوه، والرامزة إلى الماضي الذي يحاول الانفتاح وجو الربح السريع والإنتاج إزالته من الوجود. ولا يقف أمامه سوى الذي خاض الحروب ولم يمت. 

الأمر ذاته ينسحب - وإن جاء في خطابية زاعقة - على أبطال «كتيبة الإعدام»، الذين يحاربون شبحاً يبدو في النهاية خائناً لوطنه وقضية الحرب مع العدو الأساسي... الخطر كله حين يموت الشهداء ويبقى السماسرة.

 يقودنا ذلك إلى القضية الفلسطينية دائمة الحضور بكل تداعياتها وحروبها لتشكل خلفية أبطاله، فتحوِّل «ناجي العلي» أسطورة على يديه، ولا ينسى دور الفساد فتراه يقول «أخشى ما أخشاه أن تتحول الخيانة إلى وجهة نظر». والخلفية الاشتراكية لمخرجنا ترد معظم بلايا المجتمع إلى اعتبارات الفقر، فكانت حاضرة بقوة، كما فعل في فيلم  «البدرون»، وكون الفقر يهزم الإنسان داخلياً فلا يستطيع إلا التفكير في «لقمة العيش»، أو أن «يأكل عيش»، ذلك التعبير المزري لقيم الإنسان، الذي ينهزم معظم أبطاله في أفلامه، وكذلك فتاة الليل التي كانت قد تابت من قبل، ثم تعود بفعل الحاجة في فيلم «ليلة ساخنة». هذه الخلفية شكّلت التزامه الأساسي، وقضيته الرئيسة، يتحيز لها، والتاريخ لا يكتبه إلا المتحيزون؛ فترى دوماً استدعاء لفترة المد القومي العربي، كما تلمس شكاً في بعض المثقفين الذين لا يلتزمون ما يقولون ولا يدفعون ثمناً لمبادئهم؛ مثل الصحفي المدعي الفضيلة في «الحب فوق هضبة الهرم»، ويندر أن تجد أبطاله الحقيقيين يتراجعون، فرعاً عن تفكيكية تناوله كما سبق. والبطل، دوماً، إنسان عادي لا يدَّعي فضيلة النبل؛ ولا يتنكّر لماضيه، مزور قديم، لكنه لا يقبل أن يطول التزوير أحداً من أهل بلدته في «الهروب»، إنه بطل متطور، والأمر ذاته يحدث مع البطل في «ضد الحكومة».

شكّل الحب هاجساً أساسياً في أفلامه، فلا تخلو أبداً من قصة حب، فالحب جزء من الإنسان، والإنسان عنده هو كل شيء؛ وقصة الحب التي تأتي في كل الأفلام عنده تحد من قسوة الواقع الذي ترصده الأعمال، حتى في فيلم «الحب فوق هضبة الهرم»، يمنعه الحب الجديد من السقوط كما سقط أصدقاؤه في نيران الخليج أو الاتكال على النساء العجائز من أجل الخروج من سيطرة الفقر.

 وتكررت عنده تيمة المومس الفاضلة في أفلام مثل «الهروب»، و«ضد الحكومة»، و«ليلة ساخنة»، فتأتي شخصية رائعة مساندة للبطل برغم انغماسها في الخطيئة، تلك الكلمة التي تعني عنده معاني مختلفة، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. وفي المقابل يحضر الجنس بما أنه ظاهرة إنسانية، ولكنه ليس الجنس المجاني الذي يغازل به شبّاك التذاكر؛ فالجارة التي تعرض على «ابن الجار» (فيلم الهروب) أن يأتي إليها بعد نوم الأولاد، أو العجوز المتصابية في «الحب فوق هضبة الهرم»، التي يهرب منها برغم انحباس أزمته الكبرى - ظاهرياً على الأقل - عن حل لأزمته الجنسية منذ المشهد الأول في الفيلم كله.

ولا يتوقف عن لمز الذين يقفون على يمين السلطة، برغم تدينهم الظاهر، وأن المسبحة لا تفارق أيديهم، وتأتي مقابلاتهم في المسجد، ودائماً يحاولون إلباس كلامهم صيغة الحق المطلق، كما هي حال «أبو بكر عزت» (فيلم ضد الحكومة) في مرافعته التي لا تدافع عن النظام قدر إغارتها على خصومه؛ إذ لا عيب لهم إلا خلاف يقينه الذي يخلو من حجة موضوعية. وعلى النقيض لا يلجأ أبطاله - إلا قليلاً - إلى الخطابية الزاعقة، ولكنه يكتفي بصوغ السؤال بطريقة صحيحة، وهو أهم من محاولة الإجابة عنه.

 

هزيمة‭ ‬المثقف

وأيقونته الكبرى هي المثقف المنهزم داخلياً؛ فلا مجال لأن تتوقع منه فضيلة التغيير، إنه صورة باهتة لمجتمع يعاني التشوُّه الداخلي بالأساس. المثقف المائع، مثل الصحفي عاطف هلال في فيلم «الحب فوق هضبة الهرم»، الذي يظهر دائماً في خلفيته صورة عبدالناصر، عن يمينه في المرة الأخيرة، بينما ظهر عن يمينه المرة الأولى الذين يقفزون من المركب ساعة الخطر، أو يكتبون لتدجين الشعوب وتخديرهم بدل أن يحملوا لهم النار المقدسة، فاستحق العبارة الخالدة «كلهم كدابين، وعارفين انهم كدابين، وعارفين ان احنا عارفين انهم كدابين وبرضه مستمرين في الكدب وبيلاقوا اللي يصقف لهم». الأمر لا يختلف عنده بالنسبة لرجل الدين الذي لا يقدِّم حلولاً لمشاكله، وإنما يكتفي بوصفها، والوقوف عند ظاهر سطحها الخارجي.

لا يعني إفراطنا في تتبع «معاني» الأفلام ابتعاد عاطف الطيب عن لغة السينما القديرة على تجاوز اللغة المكتوبة، فقد كانت الكاميرا عنده-ثابتة أو متحركة-آية في بلاغة من نوع فريد، تماماً كما تجاورت قيم الصعيد والمناطق الشعبية وامتزجت عنده، مسنداً للصمت دوره السينمائي الفريد، لكنه ليس «الصمت العاجز قليل الحيلة»، متجاوراً مع الأغنية التي لازمت بعض أفلامه لتحمل ما لا يحمله حوارها.

 

بطولة‭ ‬المكان

 لم ينسحق أمام سطوة الأوراق التي يقدمها مبدع بحجم أسامة أنور عكاشة حين تعامل معه في فيلم «كتيبة الإعدام»، ولم يكن السيناريو هو البطل كما هي الحال مع معظم أعمال الكاتب الكبير، إنه لا بد أن يدخل إلى السينما بحساباتها هي الخاصة، ففعَّلت الكاميرا المحمولة كما نعهدها عند عاطف الطيب، ولغة الصورة الأثيرة عنده، لغة السينما، كما أسند للمكان دوراً كبيراً؛ فالمكان الذي يبدأ منه فيلم «الحب فوق هضبة الهرم»، هو المكان ذاته الذي ينتهي فيه مع اختلاف رأفة الحلم الذي يستجيب لرغبات البطل المكبوتة، ويكون متنفساً لها عن جهامة الواقع البادي طوال العمل، وبخاصة مع المتصلبين تجاهه، ولا يخففه سوى كونها سخرية خفيفة تأتي في الغالب هجوماً على أوضاع المجتمع برمته. إن تجاهل أثرها وحضورها في تركيب الشخصية المصرية سلب لجانب مهم من إجمال الصورة، والسخرية عنده هجوم متعمَّد على نظام كامل بهدف سلبه أغلب أسلحته... سخرية تجعل النظام تحت سطوة البشر.

النهاية المتفائلة تخفي اليأس القابع طوال العمل، فيمسك سواق الأتوبيس باللص (أمام المبنى الرئيس للحزب الحاكم وقتها في مصر)، وتنتصر «كتيبة الإعدام» على اللص القديم، وتتسبب قضيتهم في تجميع العرب من جديد، ويفوز صاحب «ضد الحكومة» على العدو الحقيقي في الجولة الأولى على الأقل، ويمتزج مع التفاؤل شيء من النهاية المفتوحة التي تناسب الباحثين عن الحرية؛ تلك التي لا تكتمل إلا في عيني العبيد أو السذَّج، والظن بكون الإجابة الحاسمة قد وقع عليها أحدنا خيانة للطريق كله، ومحطاته، وللساقطين على طوله، الذي تلوح نهايته للمبصرين.

   مغرقاً في التفاؤل كان عاطف الطيب... يبدو ذلك في النهايات المبشرة التي تسيطر على أفلامه؛ فيتزوج البطلان في «إنذار بالطاعة»، ويتم استدعاء المسؤولين الحقيقيين في «ضد الحكومة»، ويقتل رمز التعاون مع الإسرائيليين، ويتحد العرب في «كتيبة الإعدام»، وربما لولا هذا التفاؤل لما استطاع الأمل أن يطغى على الواقع المحبط في أفلامه.