توظيف الحلم في الفانتازيا

توظيف الحلم في الفانتازيا

    ‬يُستثمر‭ ‬الحلم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واسع‭ ‬في‭ ‬المحكي‭ ‬الفانتازي‭,‬‭ ‬ويتجلى‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬المزاوجة‭ ‬بين‭ ‬الحلم‭ ‬والصحو،‭ ‬ويتم‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفانتازيا‭. ‬فحين‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬معنى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬مباشرة‭ ‬تتدخل‭ ‬الفانتازيا‭ ‬لتطيح‭ ‬بالواقع‭ ‬وتمرر‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستوعبه‭ ‬العقل‭. ‬والحلم‭ ‬هو‭ ‬التقنية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭,‬‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬السينما؛‭ ‬حيث‭ ‬تسمح‭ ‬تقنية‭ ‬السينما‭ ‬بدمج‭ ‬الحلم‭ ‬والواقع‭ ‬بسهولة‭,‬‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تصبح‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬أصعب‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الكتابة‭. ‬

في فيلم «In My Dreams-  2014» يجتمع «نيك» و«كاثرين» عند نافورة الحظ,  ليُلقي كل منهما بعملة معدنية فيها, ثم يعودان كلٌ إلى منزله، لتجمعهما الأحلام بعد ذلك. يستمر لقاؤهما في الحلم, لكن وفقاً لأسطورة النافورة يلزمهما 7 أيام لتتحول لقاءاتهما الحلمية إلى حقيقة, وهذا ما يحدث في النهاية. الفيلم يكاد يكون نسخة أخرى عن فيلمين سابقين أحدهما بعنوان «Waking  - 2013» وفيه يوشك «بن» على الزواج من صديقته «آمي» قبل أن يلتقي «ناديا» لمرة واحدة في الواقع. بن وناديا يتواصلان عن طريق التخاطر الحلمي, تعطيه في الحلم رقم هاتفها ويتمكن عن طريق الحلم أيضاً من الحصول على عنوانها. وعندما توقف ناديا أحلامها معه يقرر الذهاب للبحث عنها في الواقع فيجدها في النهاية. 

في الفيلم الثاني «Awaken – 2012» تلتقي ريتشيل بأليكس في المقهى الذي يملكه. تصدمها سيارة بعد خروجها من المقهى. يتضح لاحقاً أن ريتشيل كانت تعرف أليكس من خلال الأحلام قبل أن تلتقي به. يلتقي أليكس بعرافة, تنظر إلى كفه وتخبره أن خط حياته منقسم ويشبه خط حياة امرأة مرت عليها قبل سنوات، ويشكلان معاً شكل قلب, ثم تعطيه تعويذة لصيد الأحلام ليتمكن من الحلم بريتشيل. يتضح أن أليكس كان يحلم بريتشيل أثناء غيبوبتها في المشفى قبل أن تموت بعشرة أيام، بينما هي تحلم به منذ ثلاث سنوات والحلم كان وسيلتهما للقاء. في النهاية ومن خلال أمنية ريتشيل يعثر أليكس على فتاة أخرى تدعوه لشرب الشاي, هذه المرة لا يفوت الفرصة كما فعل مع ريتشيل. الأفلام السابقة تنتصر  للسعي وراء فتاة الأحلام وكيف أن وجود مثل هذه الفتاة في الحلم حقيقي وإيجادها يتطلب البحث عنها في الواقع وهذا ينطبق أيضاً على فارس الأحلام.

في فيلم «Unknown -2011» وبعد حادثة سقوط سيارة الأجرة في النهر, يستيقظ الدكتور مارتن هاريس من الغيبوبة في واقع استولى شخص آخر على هويته. وفي حين يتآمر الجميع لسرقة هويته يكافح هو من أجل استعادتها. يتضح في النهاية أنه شخص آخر غير مارتن هاريس. الفيلم يتمحور حول فكرة الفرق بين ما يعرفه المرء عن نفسه وبين حقيقته وأيهما المنتصر في النهاية: الوهم أم الحقيقة. أما فيلم «Inception – 2010» فيعتمد على تقنية الحلم داخل الحلم, وهي تقنية تسمح بوجود الشخصية في أماكن مختلفة في الوقت نفسه. يشتغل الفيلم - وكذلك رواية «الواحد» لطلال قاسم - على مصطلحات مثل «الوعي» و«اللاوعي» وفكرة اختراق حلم الآخر والتأثير عليه من خلال زرع أو ترقيع أفكار أخرى. وفيه يؤدي ليوناردو دي كابريو, دور لص محترف يقوم بسرقة أفكار الآخرين وأسرارهم أثناء الحلم. يطلب منه رجل أعمال غني يدعى «سايتو» لفعل العكس، وهو أن يقوم بزرع فكرة داخل عقل أحد منافسيه لتبدو الفكرة كأنها من داخل وعي الرجل نفسه وليست مزروعة. 

 

العالم‭ ‬حلماً‭ ‬والحلم‭ ‬عالماً

من سمات الأدب الحديث التحامه بالمتخيل، فقد استطاع السرد الفانتازي «تأسيس توجهه التجريبي بإضفاء لغة الحلم على السرد الكلاسيكي». وواحدة من البنى الأساسية التي اهتمت بها الرواية العربية هي «الاهتمام بالشعور الباطني باستبطان أحلامه ورسم التعقيدات النفسية, وما تولده من كوابيس وعقد وهلوسات», وذلك عن طريق تقديم شخوص وظواهر فوق طبيعية يمتزج فيها الطبيعي بما هو فوق طبيعي, بطريقة مقلقة تجعل المتلقي يتردد بين تفسيرين للأحداث، ويشكل هذا التردد العنصر الأساسي للفانتاستيك».

ومهمة الفنان بما يمتلكه من خيال مبدع هي القدرة على إلغاء الحدود بين الحلم والواقع، أي أن يصبح العالم حلماً والحلم عالماً كما قال نوفاليس أحد عباقرة الرومانسية الذي كتب رواية تحمل العنوان «هنريك فون أوفتر دينجن» عن شاب يدعى هنريك, يبحث في الواقع عن زهرة زرقاء رآها في الحلم. هذه الفكرة عبر عنها الحكيم الصيني «شوانج تسو» عندما قال: «حلمت ذات يوم أني فراشة, والآن لا أعرف إن كنت شوانج تسو الذي حلم بأنه فراشة أو إن كنت فراشة تحلم بأنها شوانج تسو». وكذلك فعل الشاعر الإنجليزي كوليردج عندما كتب:

وإذا‭ ‬كنتَ‭ ‬نائماً

وإذا‭ ‬حلمت‭ ‬في‭ ‬نومك

وإذا‭ ‬ما‭ ‬ذهبتَ‭ ‬في‭ ‬حلمك‭ ‬إلى‭ ‬السماء

تقطفُ‭ ‬زهرةً‭ ‬جميلةً‭ ‬وغريبة

وإذا‭ ‬ما‭ ‬وجدتَ‭ ‬الزهرة‭ ‬في‭ ‬يدك‭ ‬بعد‭ ‬استيقاظك

فماذا‭ ‬تقول؟

وهذا ما عبر عنه أيضاً أمبرتو إيكو (في اسم الوردة) قائلاً: «هناك لحظات سحرية, فيها إرهاق بدني كبير ونشاط حركي مكثف, تبرز أثناءها رؤى لأشخاص وقع التعرف عليهم في الماضي, عندما أستعرض في ذهني هذه التفاصيل أتساءل إن كنت عشتها حقيقة أو تراءت لي في الحلم».

إذا كان إلغاء الحدود بين الحلم والواقع هو إبداع الفنان, فإن إلغاء التمييز بين الروح والمادة هو إبداع الفيلسوف. أول فيلسوف رومانسي كبير حاول ذلك هو فريدريك شيلنغ. فالطبيعة, بالنسبة له, تعبير عن مطلق أو عن روح العالم. يقول شيلنغ: «الطبيعة هي الروح المرئي, والروح هي الطبيعة اللامرئية», أما المادة فهي برأيه «ذكاء نائم». من هذه الزاوية تكون الطبيعة والوعي الإنساني شكلين من التعبير عن شيء واحد. فيمكننا أن نبحث عن «روح العالم» في الطبيعة كما في داخلنا. لذلك كتب نوفاليس: «إن الطريق الخفي يمضي نحو الداخل». وتساءل ديكارت: «كيف يمكن لنا أن نتأكد من أن الحياة ليست حلماً؟».

فكرة أن «العالم ليس سوى حلم» تكررت كثيرا في رواية «عالم صوفي» لجوستاين جاردر مثلما تكررت في رواية «الواحد». فالحلم هو الآلية التي تعتمدها رواية «الواحد» من أجل إظهار تداخل العوالم وتعدد الأبعاد بينما تعدد المؤلفين هي آلية «عالم صوفي». والدهشة قاسم مشترك آخر يجمع بين الروايتين حين تنجحان في إلغاء الحدود بين الحلم والواقع. 

بدأت رواية «عالم صوفي» بمزج الحلم بالواقع من خلال الخلط بين شخصيتي «صوفي» و«هيلد» وهكذا فعلت رواية «الواحد», من خلال ازدواجية شخصية «جاك/إبراهيم». لكننا نعرف لاحقاً أن أحداث «الواحد» تدور في حلم «آدم». فكرة أننا جوهر في حلم «آدم/الواحد», مجسدة في «فيشنو» الروح السامية ومصدر كل شيء حيث تنام وهي طافية على المحيط الكوني، بينما نحن جوهر أحلامها. 

البداية في الروايتين عدمية، لكنهما تنتهيان نهاية وجودية. والمسار الذي تتخذانه في مقارنتهما بين عالمين: زائف وحقيقي, كان نيتشه قد انتقده وهو بصدد نقده للمسيحية والتراث الفلسفي حين أهملا العالم الواقعي من أجل بناء السماء و«عالم الأفكار»، لكن العالم الذي أُريد له أن يبدو حقيقيا, تكشَّفَ عن عالم وهمي. في الخاتمة يتخلى «الواحد/آدم» عن السماء وينتصر للأرض عملاً بقول نيتشه: «كن وفياً للأرض, ولا تصغ لمن يعدك بحياة أفضل في العالم الآخر». وبهذا تنتهي الرواية بالانتصار للوجود ولحرية الإنسان .