مكانة العقل عند ابن رشد تأملات في العقلانية المفقودة في حاضرنا العربي

مكانة العقل عند ابن رشد تأملات في العقلانية المفقودة في حاضرنا العربي

يمثل العقل ركيزة أساسية ومحورية في فلسفة ابن رشد، والعقلانية تمثل الصبغة الأساسية التي يتصف بها مذهبه واتجاهه الفلسفي في الفكر الإسلامي  خاصة والفكر الإنساني عامة. وعلى الرغم من اهتمام كل المفكرين والفلاسفة السابقين له بالعقل والعقلانية، فإن أهمية العقل عنده تأتي من كونه قد اتخذ منه موقفاً متميزاً، حيث رد ابن رشد للعقل الإنساني اعتباره في عصره حين دمج فيه ما كان يُعرف بالعقل الفعال، وحين قاوم إغراء نظرية الفيض والصدور التي قال بها كل من الفارابي وابن سينا ونقدها بشدة، وقد كانت هذه النظرية الأفلوطينية تعّول على ذلك العقل الفعال، الذي هو عقل فلك القمر في المعرفة والإدراك الإنساني.

كان رفضه لهذه النظرية هو رفض لجعل المعرفة العقلية الإنسانية معرفة مستعارة أو وهبية أو تعتمد على ركائز غيبية، وجعلها معرفة كسبية تعتمد على القدرة على التجريد والنظر، وهي في النهاية قدرات بشرية في مقدور كل إنسان ممارستها واكتسابها متى شاء.
ومن ناحية أخرى تجلى هذا العقل في ذلك الاتجاه النقدي الذي تبناه ابن رشد وكان مميزاً لثلاثة مؤلفات تعتبر من أهم مؤلفاته وهي «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت». 
وسوف نعالج الآن الناحية الأولى، وهى مفهوم العقل والعقلانية، والذي يجمع بين نظرية المعرفة ومباحث الميتافيزيقا، ولكن قبل الشروع في المعالجة الفلسفية لهذا الأمر ننبه إلى أن طابع العقلانية لا يتوقف عند ابن رشد على معالجة الموضوعات الفلسفية الخالصة، بل يمتد إلى كل العلوم التي يكتب فيها ابن رشد أو يؤسس لها.
وأفضل أنموذج لهذه العلوم يتمثل في معالجته للفقه في كتابه «بداية المجتهد»، حيث نجد اهتماماً فائقاً في هذا العلم الديني بالقياس والتعويل بشكل أساسي على إظهار العلل، وبالاحتفال بعمليات الاستنباط والاستدلال التي هي عمليات عقلية في الأساس.
فالقياس، كما هو معروف، يتطلب مجهوداً علمياً، وعقلياً ضخماً، ويقتضي الوقوف على التحليلات الصحيحة للشريعة الإسلامية، بإدراك مقاصدها العامة من إصلاح البشر والمجتمعات. 
والفقيه المجتهد - وقد تقلد ابن رشد وظيفة القضاء في عصره - هو الذي يتابع العلل في كل حكم، زيادة على إدراك العلل الأساسية الذي يورد الخير للمجتمع ويجنب عنه الشرور.
وليس اختلاف المذاهب فـــي الأحكـــــام إلا من الاختلاف في الوقوف على التعلــــيل الأنسب، ولا يُعد فــــقـــيهاً من تغافل عن هذه الأسرار واكتفى بنقل أحكام مذهبية بالطرق التقليدية التي سلكها أغلبية فقهاء الغرب الإسلامي.
غير أن التعليل الإجمالي لإدراك الأسرار الأساسية للشريعة كثيراً ما يجعل ابن رشد يرتفـــع فــــوق موضــــوع الفقه، ليصل إلى الموضوع المشترك بين الحكمة والشريعة في عقلانية تبرز معاني الوجود والتعاون الاجتماعي، 
والشواهد من «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» على البحوث التعليلية كثيرة لا تكاد تخلو منها أي صفحة من صفحات الكتاب.

بين الفلسفة والشريعة
إننا نجد ابن رشد لا يترك فرصة من أجل  المزاوجة بين الفلسفة والشريعة إلا انتهزها، وقد كان هذا مطلباً رشدياً ملحاً ويمثل محوراً من محاور هذه الفلسفة، حتى في الموضوعات الدينية مثل الفقه. 
ولذلك نجد أن التساند بين الحكمة والشريعة لم يتم التخلي عنه حتى في الميادين الخاصة مثل الفقه.
إن اجتهاد ابن رشد في الشريعة لم يصل إلى مستوى الإتقان حتى تمكن من استغلال مختلف العلوم العقلية، وما هو واضح بالنسبة للتجربة الشخصية عند هذا المفكر الذي يُعد مثالاً لهذه الظاهرة، قد يكون أقل ظهوراً إذا نظرنا إلى العلوم الشرعية في مختلف تطورها واكتسابها النضج العــــقلي عبر مراحل التاريخ.
 لكن يجب ألا ننسى احتكاك علماء الإسلام من أصوليين وفقهاء ولغوييـــــن ومتكلمين، بمعارف الأولين، وخاصة في المواضيع التي تدعو إلى إتقان طرق العقلانية وتثبت المنهجيات المناسبة لبناء العلوم. 
ومن هنا يمكن أن نــــدرك مـــدى تأسيس بعض هـــذه المنهــــجــــــيات العقلــــية، على الرغم من وعيه بالفرق الأساســــي بيــــن القـــــياس والبرهان
 الأرسطي والقياس كما هو مستخدم عند الفقهاء والأصوليين. 
وقد تعرض ر. برنشفيك إلى اعتماد ابن رشد على القواعد المنطقية في «بداية المقتصد»، وإلى شغفه بالمبادئ العقلية المتطلبة الملحة وإلى ارتكازه على هذه الفكرة الأساسية المهيمنة على تآليفه، والتى تفرض أن الكليات سابقة على الجزئيات ومقدمة عليها في كل منهجية بيانية صحيحة.

تجليات العقلانية
هذا الشغف بالمبادئ العقلية يبدو في بحث ابن رشد لأكثر من قضية فقهية في هذا الكتاب، ويمكن تلمس هذا الشغف بالمعاني العقلية في تصور ابن رشد لحجية القياس ولمكانته من التشريع ولاعتباره كأصل من أصوله، وكابن حزم الظاهري يقرر ابن رشد ان القياس الفقهي استنبط بعد الصدر الأول، وهو وإن أقرّ بأن حجيته تستخرج  من النقل {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } (سورة الحشر/2)، إلا أنه يحرص على التأكيد على ضرورة الاعتماد على العقل: «ودليل العقل يشهد بثبوته وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي والنصوص غير متناهية والنصوص والأفعال والإقرارات  متناهية. محال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى».
وهذه الطريقة في إثبات حجية القياس يعتبرها مؤرخو التشريع الإسلامي طريقة جمهور الفقهاء، إذ لم يسبق ابن رشد في تبينها سوى «المريسي الحنفي» (218هـ/833م) والدقاق الشافعي (392هـ/1007م) وأخيراً المعتزلي أبوالحسين البصري(436هـ/1044م).
كما تتجلى العقلانية الرشدية في كتابه «بداية المجتهد» في عرضه في كل قضية من قضايا الفقه الآراء المتماثلة، وخاصة الآراء الخلافية والنموذجية الراجعة إلى كل المذاهب السنية، فقد كان  هدفه في الكتاب السعي إلى إيجاد شرح صالح ومقبول لهذا الخلاف، وذلك بدراسة طرق استنباط الحلول من مصادرها التشريعية.
وصورة الاختلاف تتمثل في أن فيلسوفنا الفقيه وإن كان مالكياً وسليل عائلة ضمت كبار المالكية، لا يرمي مطلقاً إلى الإسهام في أدب المجادلة المالكية. فهو إذن ينقل بأمانة وموضوعية كل الآراء الصالحة حول القضايا التي تعتبر من الأصول والقواعد ويشفعها بأدلتها أو بالأحرى تلك التي تبدو أبلغ من غيرها.
ونجد عنده حرصاً شديداً على تفهم أسباب خلاف الفقهاء وشرحها، وذلك بعد عرض كل  الآراء التي اتفقوا عليها، فيرجع هذه الأسباب لا إلى اعتبارات اجتماعية أو اقتصادية وتاريخية، بل يرجعها على طريقة الأصولي العقلاني البارع إلى قضايا تتعلق بالتأويل والمنهجية الفقهية كتأويل محتمل لنص قرآني، أو حديث، أو ترجيح قياس على حديث، أو توقف إزاء طرق مختلفة ولكنها متساوية من شأنها أن تخلق تنازعاً فقهياً. 
كما تتبدى العقلانية أيضاً في سعيه نحو التقعيد أو التأصيل، أي ذلك الحرص على الاقتصار على القواعد والأصول من القضايا الجديرة بأن تصبح قانوناً ودستوراً، وكذلك على الأمهات منها.

منهجية خاصة 
إن معالجة الأصول بهذه الطريقة العقلانية - كما تتجلى في كتابه الفقهي - تستدعي منهجية ذات أهمية خاصة عند ابن  رشد، وذلك قصد التوصل إلى درجة التوضيح الكافي الذي يبصر طريق الاجتهاد حيث نجده يبادر صدر كل باب بتحديد المصطلحات وتناولها بالشرح الدقيق قبل الشروع في التفريعات التي تقتضيها الأحوال القانونية، ومن هنا ينطلق إلى تحليل كل فرع مع إبراز علة الخلافات، حتى يتسنى للفقيه أن يتجاوز ـ بناء على هذا الموضوع ـ موقف المقلّد الملتزم بالرأي الوحيد من المذهب الوحيد.
فضبط المعاني، واستقصاء الأحوال المتعددة للمسألة الفقهية، وذكر خلافات الناس في المفاهيم والتطبيقات، كلها ضمانات علمية، لا يمكن الاستغناء عنها عند الباحث الذي يريد أن يتحرر من ربقة التقليد. ومن هنا فليس غريباً أن يكون العقل جوهر فلسفة الرشدية من حيث إن العقل هو خاصية الإنسان الأساسية وكماله الأسمى. والإنسان  في نظره، حفي به الكمال، ولذلك كان أشرف الموجودات في هذا العالم لأنه هو: «النظام بين الموجودات المحسوسة الناقصة، أعني التي تشوب فعلها أبداً القوة وبين الموجودات الشريفة التي لا تشوب فعلها قوة أصلاً، وهى العقول  المفارقة، ووجب أن يكون كل ما في العالم إنما هو من أجل الإنسان وخادم له إذ كان الكمال الأول الذي كان بالقوة في الهيولى الأولى إنما ظهر فيه».
ويذهب ابن رشد إلى «أن الإنسان أشرف من كثير من الموجودات، ومنها أنه إذا كان كل موجود يظهر من أمره أنه لم يُخلق عبثاً وأنه خلق لفعل مطلوب منه وهو ثمرة وجوده» ويقول: «وإذا ظهر أن الإنسان خُلق من أجل فعل مقصود به ظهر أيضاً أن هذه الأفعال يجب أن تكون خاصة».  ومن ثمَّ «فيجب أن تكون غاية الإنسان في أفعاله التي تخصه دون سائر الحيوانات، وهذه أفعال النفس الناطقة». 
فالإنسان عنده «من أعاجيب الطبيعة وأنه يعرض له أن يكون كالمركب مما هو أزلي وفاسد، على جهة ما توجد المتوسطات بين الأجناس المتناسبة».  ويحدد مكانة الإنسان في الكون فيقول: «إن أقرب موجود ها هنا في المرتبة من الأجرام السماوية هو الإنسان، وهو كالمتوسط بين الموجود الأزلي، والكائن الفاسد فالإنسان هو الواصلة التي اتصل بها الموجود المحسوس بالموجود المعقول ولذلك تمم الله به هذا الوجود الذي لحقه النقصان لبعده عنه».

الحقيقة والحق
وهكذا سنجد أن القيم التي تسود في تفكيره حسبما يمكن أن تطلعنا عليها دراسة آثاره، هي القيم التي تستلزمها الحقيقة الراسخة ويقتضيها العقل السليم، ويفرضها الدين الحق، وتدعو إليها المغامرة الفلسفية الرائدة، ويقوم عليها الوجود الإنساني الصحيح في التصور الإسلامي المتفتح السمح.
ولهذا نجده في تفسيره لما بعد الطبيعة يقول: «من المعروف بنفسه عند جميع الناس أن ها هنا سبيلاً يفضي بنا إلى الحق، وإن إدراك الحق ليس يمتنع علينا في أكثر الأشياء. والدليل على ذلك أننا نعتقد اعتقاد يقين أننا قد وقفنا على الحق في كثير من الأشياء. وهذا يقع به اليقين لمن زاول علوم اليقين. ومن الدليل أيضاً على ذلك، ما نحن عليه من التشوق إلى معرفة الحق، فإنه لو كان إدراك الحق ممتنعاً لكان الشوق باطلاً ومن المعترف به أنه ليس ها هنا شيء يكون في أصل الجبلة والخلقة وهو باطل».
 ومن هنا فالحقيقة لها وجود قائم، ولنا السبيل الذي يفضي بنا إليها في نظر ابن رشد، ودليله على ما يقول: «ما نقف عليه من الحق في كثير من الأشياء أولاً، وتشوقنا إليها ثانياً. فتشوقنا إليها دليل على وجودها، لأنه لا يمكن، وهو في أصل الجبلة والخلقة أن يكون باطلاً».
ومن هنا أعطى ابن رشد العقل الإنساني أداة لالتقاط الحقيقة، والبحث عنها ووسيلة لفهمها والبلوغ إليها، ومن الخطأ الذي لا تقدر عواقبه الوخيمة أن نعرض عنه، لأنه الوسيلة التي تدرك بها حقائق الدين والطبيعة، والوسيلة التي تدرك بها أسمى سعادة يمكننا الحصول عليها زيادة على كونه المميز لنا عما سوانا من الكائنات، ولولاه لما كان لنا علم بوجودنا وما نصبو إليه من سعادة وكمال.

إنسانية المعرفة 
ومن هنا فالمعرفة عند ابن رشد تظل إنسانية لا دخل فيها للأجرام والعقول السماوية: إن منطلقها ومرجعها يظلان الإنسان نفسه في بيئته الإنسانية ضمن عالم الإضافات والموجودات بصفة عامة وضمن شروط الواقع التجريبي الموضوعي بصفة خاصة، ويتأيد هذا الكلام في ضوء فهم ابن رشد لمفهوم السببية الطبيعية، الذي طالما أكد عليه في كثير من مؤلفاته، فقد أحل ابن رشد الضرورة الطبيعية محل الصدفة والاتفاق.
لقد وضع ابن رشد الفكر العربي على خطى المذاهب العقلانية التي تقرُّ للعقل بمكانة رفيعة في ترجمة الاختيارات والتجارب، وفى تفسير ما يجري في الكون من حوادث، وفي إدراكه لذاته وإدراكه للوجود.
وهذه المنهجية العقلية التي اختطها ابن رشد تساعد اليوم على إماطة اللثام عن عثرات فلسفتنا المعرفية والتقويمية، فنستطيع بواسطتها تجاوز العوائق التي توقف مد الوعي والإدراك الإنساني العربي، وتزيل سدف القطيعة والجمود الذي ران على كثير من اتجاهاتنا الثقافية، ومن هنا يصير استدعاء ابن رشد وعقلانيته له مسوغاته الضرورية التي لا تخفى على أحد في هذه المرحلة العلمية التي أصبح العقل والعقلانية يحتل فيها أكبر مساحة ممكنة من الوعي والإدراك الإنساني.
وبذلك نقيم نوعاً من التوازن العادل بين الاستفادة من التراث العقلاني للفكر الإسلامي، والأخذ بمعطيات العصر وآلياته ومناهجه الحديثة التي لا غنى عنها من أجل الصيرورة في التاريخ وعدم الحياة خارجها، فنجمع بين الأصالة والمعاصرة جمعاً حيوياً لا يفقدنا هويتنا ولا يدفع بنا خارج التاريخ، خاصة أننا نعلم أن كل تراث ينطوي على آلية التأويل التي تهيئ للإنسان/ المجتمع أن يحذف ويضيف سبيل التكيف والملاءمة، وفى لحظات التحول الاجتماعي الحاسم يستعين المجتمع بهذا الرصيد الثقافي يستلهمه ويحاوره في ضوء المرحلة ومتطلباتها. وتجري خلال الحوار عملية إعادة تقييم وإثبات لعوامل الحركة والتفسير ومجالاتها ومداها.
ومن هنا فنحن لا نطالب بنفس مفهوم ابن رشد للعقل والعقلانية، ذلك المفهوم الذي قد تم تجاوزه بثمانية قرون، وأصبح من مفرادته الفلسفية والفكرية ولا يمثل إلا إنجازاً تاريخياً يوزن بميزان عصره وليس بميزان عصرنا، بل نحن في أمسّ الحاجة إلى مطلق العقلانية، كما أنه لا يمكننا الاستغناء بحال من الأحوال في عصرنا عن الاتجاه النقدي الذي  وضع ابن رشد أسسه، على الرغم من اكتشافنا لمناهج من النقد جديدة وعلى الرغم من اتساع دائرة المعقول، وارتفاع سقف العقل في العصر الحديث، فما كان غير ممكن قديماً صار ممكناً الآن بفضل التقدم العلمي المتسارع. 
ولا ننسى أن الخطاب الثقافي العربي يبدو للوهلة الأولى، وكأنه بالفعل خطاب عصري يمثل منطق العصر الحديث، ربما لما هناك من اختلافات كبيرة بين أساليب الكتابة الحديثة في الوطن العربي والأساليب التقليدية القديمة في الحضارة العربية الإسلامية.
لكنَّ قليلاً من التمحيص كفيل بإقناعنا بأن بعض النصوص القديمة (مثلاً: ابن الهيثم، ابن النفيس، الرازي، البيروني، ابن رشد) أقرب في جوهرها إلى روح العصر من كثير من كتابتنا العربية  المعاصرة، الأمر الذي يشير إلى أن الخطاب الثقافي العربي المعاصر ما زال ينتمي إلى عصور ما قبل الثورة العلمية وإرهاصاتها.
وإذا وضعنا في الاعتبار أن المهارات الحضارية ذات الأصول العربية التي ورثها المثقف العربي العادي ضامرة ومتصلبة ومتخلفة، ومن ضمنها القوالب اللغوية والفكرية والمفاهيم العلمية والفلسفية، فهي أضيق من أن تستوعب الفكر العالمي الحديث، وبخاصة الفكر العلمي والفلسفي، لتبين لنا مدى العبقرية اللغوية والفكرية والاتسام بطابع الحداثة اللذين تمتع بهما أمثال ابن رشد في تطويع اللغة العربية لتصير قادرة على التعبير العلمي والفلسفي بدقة بالغة في عصر سادت فيه الحضارة العربية والإسلامية العالم.
ونحن في أشد الحاجة الآن إلى عقلانية ابن رشد وأمثاله من فلاسفة الإسلام، الذين احتفوا بالعقل والعقلانية من أجل أن نقاوم تلك التيارات الدينية المتصلبة التي بدأت تستشري في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والتي أخذت بالفعل توسع من رقعة انتشارها وتستشري استشراء السرطان في الجسم المريض الذي فقد فاعلية جهازه المناعي الذاتي، فارضة خطابها الدغمائي بقوة السلاح، رافضة كل حوار وخلاف في الرأي أو تعدد في المذهب أو التوجه، وهذه سمة بارزة على هذه الاتجاهات التي تذكرنا بالروافض والخوارج القدامى، وهم جميعاً يجتمعون بدءاً من أحراش الجزائر وهضابها العليا وانتهاء بمرتفعات أفغانستان في أواسط آسيا، على رفض الآخر سواء أكان ينتمي إلى دين آخر أو إلى تجربة حضارية أخرى. فالشيء البارز عندهم هو التمسك المطلق بالنظرة الواحدة إلى العالم. ولذلك فلا تنمية ولا فكر ولا قانون ولا دولة ولا رأي إلا ما يدخل ضمن منظومة خطابهم الدوغمائي.
ومن لديه أفكار أو اجتهادات حول النصوص الكلاسيكية والتجارب الماضية  يبقى خارج دائرة وعيهم، وأي جهد تحديثي مرفوض ليس بسلاح الدوغمائية النظرية، بل بالسلاح الفعلي الذي يصل إلى حد الاغتيالات والتصفيات الجسدية.
ومن هنا فلا عاصم لنا من كل هذه الاتجاهات العاصفة والمدمرة إلا العقل نحتمي به ليكون معياراً أقصى لنا في مشكلات الحضارة وإشكالات العقيدة، والاجتهاد أسلوباً ومنهجاً لا غنى عنه للعيش في هذا العصر.