في معنى الحوار... الأسس والشروط

في معنى الحوار... الأسس والشروط

لسنا بحاجة إلى كثير من الفطنة أو إلى مزيد من الملاحظة لندرك مدى حضور أشكال من التعصب ورفض الآخر وسيادة منطق الإقصاء المتبادل بين الأطراف المختلفة في المنطقة العربية بصورة أصبح معها العنف مستشرياً بين كل الفئات وتحت مختلف اللافتات والمسميّات، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن أسباب غياب الحوار، ولماذا يحل الانغلاق محل الانفتاح، والميل إلى الإلغاء عوضاً عن التواصل, وحجة القوة بديلاً عن قوة الحجة. ولعل هذا ما يجعل البحث في ماهية الحوار وشروطه والقواعد الأتيقية التي يقوم عليها من أهم المسائل التي ينبغي أن تضطلع النخب العربية (من مفكرين ورجال سياسة) بمعالجتها والبحث فيها لما لها من أهمية في عقلنة الخطاب العربي السائد وقطع مع ما يعتريه من ميل إلى التطرف والعنف.

إن الحوار في دلالته الأصلية يحيل إلى معنى النقاش وتبادل الآراء والتصوّرات من خلال الكلمات، بحيث لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال التواصل اللغوي يقوم على تبادل الرؤى والمواقف لتحقيق التوافق والتفاهم، إلا أن هذا اللفظ في مستواه المفهومي الفلسفي يرتقي إلى مرتبة الشرط المركزي لكل تفكير، بل هو التعبير الأسمى عن العقل الإنساني في سعيه الحثيث إلى الحقيقة، وهو أمر نلمسه في فلسفة أفلاطون، حيث يرد في محاورة ثياتات (Theetete) قوله «إني أطلق هذا الاسم (أي الحوار) على حديث النفس مع ذاتها، حول الأشياء التي تبحثها. فهكذا أتصور النفس في فعل التفكير. إن التفكير بالنسبة إليها ليس شيئاً آخر غير الحوار، وتوجهها لذاتها بالأسئلة والأجوبة، والمراوحة بين الإثبات والنفي». وقد تابع التقليد الفلسفي منذ اللحظة السقراطية التأكيد على أهمية الحوار بمنحه عمقاً أنطولوجياً أكبر ليصبح مع إيمانويل ليفيناس - مثلاً - تعبيراً عن اختيار وجودي يضع الذات بين اختيار الخطاب أو العنف، فالحوار هو دلالة على الرغبة في التوافق أو على الأقل التعايش المشترك ضمن فضاء عمومي واحد، وبالنظر إلى الوظيفة التي يؤديها الحوار في العلاقات الإنسانية بوصفه تعبيراً عن التفاعل بين البشر (سواء على المستويات البينذاتية أو على مستوى الحوار بين الحضارات)، وهو ما يقتضي إيضاح القواعد الأتيقية التي تضبط الحوار بوصفه أداة للتواصل ومعبّراً عن الفكر الحر في الوقت ذاته.

أتيقا الحوار
أ- الحوار والتفكير: إن العلاقة البنيوية بين الحوار والتفكير تجعل من الضروري وضع قواعد أساسية للتفكير السليم الذي يضمن إمكان التواصل بين الذوات ويمنع حالات سوء الفهم أو التنازع المفضية إلى الصراع العنيف، وفي كتابه «نقد ملكة الحكم» يضع الفيلسوف الألماني كانط قواعد ثلاث لضبط أتيقا التفكير، أولاها «أن نفكر بأنفسنا»، بمعنى ضرورة إعمال العقل بصورة فردية وباستقلالية عن كل أشكال الوهم أو استبداد العادة أو الخضوع لمنطق المحاكاة والاستسلام لهيمنة الجموع والتحرر من قيد الميل والرغبة، فالتفكير الذاتي يستلزم الإقرار بحرية العقل التامة في مقاربة كل المواضيع ومعالجة كل المشكلات، ومن ثم الخروج من حالة القصور والسلبية، وهذا القصور كما يقول كانط «سببه يكمن ليس في عيب في العقل، بل في الافتقار إلى القرار وإلى الشجاعة في استعماله دون إشراف الغير». وعلى هذا الأساس فإن القاعدة الأولى والمركزية لكل تفكير متناسق وسليم هي الجرأة على إعمال العقل بصورة فردية وبكل حرية. ثانياً: قاعدة التفكير المنفتح بمعنى أن نفكر لأنفسنا كما لو أننا نفكر للجميع. إنه الخروج من ضيق الفردية إلى كونية العقل، ولا يتعلق الأمر هنا بأداة التفكير بامتياز، التي هي العقل، وإنما بطريقة استخدامه بحيث يفكر الإنسان بصورة منفتحة على الآخر المغاير ولا يتم هذا إلا إذا كان الإنسان «قادراً على أن يعلو فوق الشروط الذاتية للحكم» فاستعمال العقل بصورة غائية تستهدف الكلي يستلزم حسن توظيف قوة الإصابة في الحكم، وكما يقول ديكارت «لا يكفي أن يكون الفكر جيداً وإنما المهم أن يطبّق تطبيقاً حسناً». ويمكن أن نلاحظ هنا أن هذه القاعدة الثانية ناتجة عن القاعدة الأولى وتترتب عليها. فمن يسمو فوق الميولات والأهواء ويتعقل الظواهر بحرية قادر على أن يؤسس لفكر كوني يخدم البشر في عمومهم ويتجاوز الفردية وضيق الأحادية نحو التنوع ورحابة التعدد والاختلاف. ثالثاً: قاعدة التفكير المنطقي، وهي القاعدة «الأعسر تطبيقاً» بنظر كانط، وهي تحيل إلى التعقل من حيث هو جمع بين صواب المعرفة ونبل الغايات، وبهذا المعنى فهي تفترض حرية العقل سبيلاً والمواطنة الكونية غاية، ولا يكون هذا إلا بنوع من التفكير العقلاني القائم على الحوار بوصفه شرطاً لإنسانية الإنسان باعتباره إجراء عقلياً هادفاً وغائياً، إذ هو يسعى إلى وضع حد لكل أشكال العنف وإرساء أسس الوفاق والتعايش السلمي.
ب- شروط الحوار: انطلاقاً من القواعد الأتيقية الآنفة الذكر يمكن القول إن الحوار هو منطق يسود عندما يغلب العقل على الغريزة، وتجنح الذوات الإنسانية نحو نوع من السلم الدائمة، والانسجام مع الذات والتوافق مع الآخر، فليس ثمة فارق في العقل بين الأفراد، وإنما تكمن هذه الفوارق في مستوى الوقائع، وإذا التزمنا بقواعد التفكير أمكن لنا تجاوز كل أشكال الصراع، ولا يكون ذلك إلا عبر الحوار وضمن الشروط العامة التي يمكن ضبطها على النحو التالي:
- أولاً: أن يكون الحوار حراً أي إنه لا يكون مقيداً بجملة من المحظورات أو خاضعاً لأشكال من الرقابة الذاتية، فالحوار الحقيقي كما يقول إيريك فآيل «هو الذي يحرر الإنسان من فرديته وهو الذي يهديه إلى ذاته»، والمقصود بالتحرر من الفردية هو شعور الإنسان بالانتماء وبالمواطنة، ولا يكون الحوار تعبيراً حقيقياً عن المواطنة إلا حينما يمتلك الفرد مصيره بيده و«عبر عما يستطيع كل امرئ أن يقوله وأن يرى قوله عليه واجباً»، وهذه الإرادة الحرة المعبّرة عن ذاتها توجب في حوارها مع الآخر أن تكون في وضع متكافئ معه، وهذا ما يقودنا إلى الشرط الثاني للحوار.
ثانياً: أن يكون الحوار متكافئاً، وذلك أن الحوار يقتضي الاعتراف بالآخر بوصفه طرفاً مساوياً، لأن أي عملية حوارية تتخذ من الحقيقة مقصداً تستلزم نقاشاً بين طرفين أو أكثر يتمتعان بالقيمة نفسها، وكلاهما في وضع متكافئ من أجل تجنب حالات الإخضاع بفعل لعبة السلطة، ذلك أن الخطاب يستبطن سلطة قاهرة وعنفاً تكون به قوة حجة ما هي التي تحدد إمكان الإذعان لها، حيث يستخلص جون فرنسوا ليوتار في كتابه «شروط ما بعد الحداثة» أن «التكلم من قبيل المبارزة بالمعنى الذي نعني به اللعب، وأن الأفعال اللغوية تنتمي إلى نظرية عامة في الحرب»، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الحوار المتكافئ هو علامة على المساواة الإنسانية، وكما يقول غادامار «إن ارتقاء الإنسان بحق إلى مستوى الإنسانية يبدو لي متمثلاً في أن يكون دائمًا وبصورة متجددة قادراً على الإصغاء إلى الآخر».
ثالثاً: أن يكون الحوار مثمراً، وإلا فما معنى أن يكون الحوار مجرد كلمات تقال لتمضي دون أثر، فالحوار في حد ذاته ليس غاية، وإن كان قوام كل لعبة تواصلية بين الذوات، وإنما يهدف إلى شكل من الوفاق البعيد عن منطق الإملاءات ودون إلغاء الاختلاف الذي يظل جوهرياً في كل الوجود الإنساني بمختلف مناحيه.

الحوار والتعصب
إن العنف يظل أكثر القضايا إلحاحاً لكل من يبحث في قضايا الحوار، بل إن الفلسفة السياسية ذاتها ليست إلا تفكيراً في العنف من أجل تفاديه وإلغائه، وكما يقول إيريك فايل «إن المشكل الذي يطرح نفسه على من يبحث في طبيعة الحوار ليس أي مشكل آخر غير مشكل العنف ومشكل نفي العنف»، لأن فهم العنف وتشخيص جذوره وأسبابه تمنحنا إمكانية البحث في مجاوزته، ومن ثم التأسيس لمنطق الحوار. إن أحد أخطر أسباب الميل إلى العنف ورفض الحوار هو التعصب. ولا نعني هنا كل أشكال العنف، فهناك جرائم تقترف لأسباب أخرى متعددة ولكننا نقصد هنا العنف المنظم الذي يجد أقصى صوره وأقساها في الحرب باعتبارها ممارسة للعنف بصورة شاملة لإبادة الخصم أو إخضاعه على الأقل.
ويمكن التأكيد هنا أن مختلف الحقب التاريخية تقريباً وفي كل أصقاع الدنيا قد شهدت متعصبين يرون أنفسهم على حق دون شك، وهذا الحضور الطاغي للتعصب بين الناس يعود في غالب الأحيان إلى ارتباطه بمنظومات فكرية أو دينية أو قيمية تعطيه أهمية لا يمكن إنكارها، وهو ما يجعل مجموعات بأكملها تنساق وراء التعصب وعلى حد قول راسل «التعصب هو أحد الأمراض الذهنية التي تصيب المجتمعات»، على أنه قد يبعث التعصب إلى شيء من الاحترام أو يدعو إلى نوع من الإعجاب الخفي، ويعود ذلك إلى أمرين:
أولاً: إن التعصب يمنح شعوراً مريحاً بالعمل المشترك، ويمكن أن نلاحظ هذا داخل المجموعات السياسية أو الطوائف الدينية والعرقية، وهذا الشعور المشترك بالارتياح يتفاعل مع ميولات الحقد على مجموعات أخرى، وهو ما يجعل المتعصب أكثر ميلاً إلى إقصاء الآخرين الذين لا يشاركونه رؤاه.
ثانياً: إن التعصب لعقيدة أو لفكرة يدفع نحو التضحية بالنفس وإنكار الذات، وهو ما يجعل من المتعصب رمزاً للبذل والعطاء دون انتظار أي جزاء، ولكن كل هذه العوامل ينبغي ألا تحجب عنا حقيقة التعصب، وكيف يتأسس على مستوى الفكر وماذا ينتج عنه على مستوى الممارسة.
إن الفكر المتعصب - بوصفه النقيض الموضوعي للحوار - لم يكن يدفع على الدوام إلا إلى العنف، ذلك أنه يفتقر إلى العقلانية والانفتاح على الآخر «فهو لا ينظر إلا إلى جهة واحدة ولا يفهم البتة فكر الآخرين» (آلان)، فالفكر المتعصب تغيب عنه القدرة على الشك والنقد والمراجعة، ومن ثم إعادة بناء الآراء والتصورات وفق أسس عقلية تبقى بدورها قابلة للنقاش، إنه أشبه بنوع من الهذيان الخارج عن حركة المجتمع والمغيب لمنطق التاريخ، بحيث لا يهتم بموقع الذوات الأخرى منه، فمآل الفكر المتعصب والتصورات المتحجرة أنها تفضي إلى عكس ما تدعو إليه وتطالب به (بوصفها امتداداً للمقدس أو لتصور عن العدالة أو عن الحرية) أي إنها تؤول إلى طعن الأصول التي قامت عليها والخروج على المعتقدات التي تدين بها مع زعم الثبات عندها والمحافظة عليها، لهذا يمكن أن نلاحظ وببساطة أن ذوي الأفكار المغلقة أشد سفكاً للدماء من غيرهم، فالإنسان في صورته العادية قد يقتل لسد حاجة أو لنيل مطلب أو لإرضاء نزوة، ولهذا فإن لقتاله حدوداً، أما المنغلق على ذاته، المتعصب لمعتقده فإنه قد يقتل كل الذين لا يتماهون مع فكره أو يمارس العنف بصورة عشوائية لمنزعه العنصري وسلوكه العصابي (لاحظ - مثلاً - العنف الذي رافق الثورة الفرنسية وكذلك البلشفية أو جرائم الخمير الحمر في كمبوديا والقاعدة وبعض الجماعات الدينية والسياسية في المنطقة العربية). إن الإعجاب الذي قد يثيره المتعصب بما يقدمه من تضحيات، إنما هو في الواقع يخفي وراءه أمراً خطيراً، وهو أن المثل العليا والشعارات النبيلة كثيراً ما شكّلت ذرائع لارتكاب المظالم وانتهاك الحقوق، واستخدمت لرمي الناس في أقبية السجون، ومن هنا تأتي أهمية الرهان على منطق الحوار والتسامح في العلاقة مع الآخر مهما كان حجم الاختلاف معه.

الحوار والتسامح
تتعدد أشكال الحوار وتتنوع، فمن الحوار بين الذوات الفردية إلى الحوار بين الكيانات الثقافية والحضارات والأطراف السياسية والاقتصادية، غير أن الجامع بين كل أنماط الحوار هو أنها جميعاً تفترض قدراً من الاختلاف بين المتحاورين قد يتراوح بين مجرد سوء الفهم، وصولاً إلى التقابل والتضاد، وهذا التنوع في الرؤى والمواقف قد يؤدي إلى الصراع في الحالات التي يكون فيها التعصب غالباً على الأذهان، والرغبة في الهيمنة هي الدافع إلى العلاقة مع الآخر، ولكن كل هذا قد يتلاشى متى استطعنا أن ندرك أهمية التسامح في بناء العلاقات الحوارية مع الآخرين.
إن التسامح في أساسه يقوم على «فهم للآخر في اختلافاته، وانتصار على التقابل، إنه علامة قوة لا علامة ضعف»، فهو لا يوجب على المرء التخلي عن معتقداته أو الامتناع عن إظهارها والدفاع عنها، بل يوجب عليه الامتناع عن نشر آرائه بالقوة والخداع، فليس ترك الناس وما هم عليه من عاداتهم واعتقاداتهم منة نجود بها عليهم، وإنما هو واجب أخلاقي ناشئ عن احترام الذات الإنسانية، وبهذا المعنى فإن التسامح يتجاوز كونه مجرد قيمة أخلاقية ليصبح شرطاً أساسياً لقيام الاجتماع الإنساني. إن توسيع معنى التسامح من مجرد الاعتراف بحق الإنسان في اعتناق الآراء التي يريد والتعبير عنها إلى احترام الاختلاف بشتى أنواعه وأشكاله، ومن ثم حل كل الخلافات عن طريق الحوار. ويمكن في هذا الإطار أن نستفيد من الدرس الأوربي، حيث تعلمت أوربا كيف تتسامح فيما بينها «بعد أن خاضت حروباً فيما بينها طوال قرون سادها الحقد والازدراء المتبادل»، أدرك بعدها الجميع أنه ينبغي أن يترك لكل إنسان حرية التعبير عن آرائه ومعتقداته، ويؤكد تودوروف أن هذا التعايش لم يقتض إلغاء التنوع والتعدد وإنما الاعتراف به بوصفه علامة ثراء «فلم تتلاش الاختلافات كما بسحر ساحر، ولكنها لم تعد مصدراً للعداوة، بل صار يمكن تثمين وجودها بحد ذاته». على أنه ينبغي أن نشير هنا إلى أن للتسامح حدوداً، فلا يمكن - مثلاً - التسامح مع المحتل أو مع المستبد، وكما يقول مونتسكيو «ما من شر أعظم وما من استتباعات أخطر من التسامح مع الاستبداد، إنه يؤبده»، ويجد هذا الموقف تبريره في أن المحتل والمستبد كليهما يستخدم العنف ويرفض الحوار. وصفوة القول أن الحوار يفترض الاختلاف ويتقوم به، ويستلزم التسامح ويستمر من خلاله، وليس من شيء أخطر عليه من العنف والتعصب.

الحوار أو العنف
ومما تقدم يمكن التأكيد أنه ليس أمام المجتمعات العربية سوى الحوار لفض النزاعات وحل مختلف مشكلاتها، سواء المتعلقة بالمسألة السياسية وسبل الوصول إلى السلطة والتداول عليها، أو قضايا الاختلاف الثقافي والفكري، وتظل الديمقراطية هي النظام الأمثل لتصريف كل الأزمات، ومنع الفئات المختلفة من الانجرار نحو العنف بالنظر إلى أنها تؤسس على أشكال من الحوار المتبادل والابتعاد عن كل صور النفي والإقصاء، فالديمقراطية «تنظم التناقضات وتعوّض المعارك المادية بمعارك بين الأفكار، فتحدد بواسطة الجدالات والانتخابات من سينتصر مؤقتاً من بين تلك الأفكار المتصارعة»، كما يقول إدغار موران. على أن الديمقراطية بوصفها أداة إجرائية لتنظيم الاختلافات تفترض أرضية ثقافية وفكرية لا غنى عنها لكل مجتمع متعدد، وهي سيادة ثقافة التسامح والقبول بالآخر المغاير والتأكيد على حكمة العيش المشترك في ظل وحدة تحفظ التنوّع ولا تلغيه. ويبقى العنف مشكلاً أساسياً يعوق كل محاولة لبناء مجتمع تعددي، ويمكن أن نلاحظ هنا أنه ليس سهلاً إلغاء العنف لأنه ظاهرة متأصلة في الوجود الاجتماعي الإنساني، ولأنه نتاج لتضارب في المصالح والرغبات، بل يمكن القول مع انفري إنه «ليس هناك العنيفون ومن ليسوا كذلك، بل هناك من يعلنون عنفهم، وهنالك من يخفونه ليسوقوا على نحو أنجح عالمهم»، بحيث يمكن القول إن أكثر المجتمعات ديمقراطية ذاتها لا تخلو من العنف، ولكن هناك فرقاً بين أن يكون العنف نهجاً وأداة لتحقيق الغايات وفرض الرؤى والتصورات، وبين أن يكون مجرد ظاهرة عرضية يمكن محاصرتها والتحكم فيها، وهو المطلوب لكل مجتمع يروم تحقيق الرقي والتقدم.

وأخيراً
حينما لا نشاطر الآخرين الرأي، فإنه ليس أمامنا سوى أحد أمرين، إما مصارعتهم إلى أن تنتفي إحدى الأطروحتين، وينتفي معها من دافع عنها مع ما يخلفه هذا الصراع من نتائج كارثية تهدد الوجود الإنساني ذاته، أو التحاور معهم وفتح السبيل أمام إمكانات جديدة للالتقاء الإنساني في ظل ثقافة التنوع والاختلاف الكونية، ويبقى الحوار هو الضامن الحقيقي لكل أشكال التواصل، وليس أمامنا من سبيل غيره لأننا لا نملك ترف الاختيار.