يوكيكو هاشيدا... أيقونة تسامح

يوكيكو هاشيدا... أيقونة تسامح

يُمكن اختصار ما قامت به السيدة يوكيكو أرملة الصحفي الياباني شينسوكي هاشيدا الذي قُتل في اعتداء مسلح في العراق، العام 2004، في سطرين، كخبر يفيد بقيامها بجمع 17 مليون دولار من التبرعات وإقناع حكومة بلدها بإنشاء مستشفى للأمهات والأطفال في الفلوجة «رداً» على مقتل زوجها، ونجحت في ذلك. 
غير أن واقعة كهذه تحمل من معاني التسامح وإطفاء روح الانتقام، وتحويل هذا الأخير إلى خير ومحبة وتصالح وغفران ما يجعل منها شيئاً ينتمي إلى المرويات الخيالية، خصوصاً في زمننا هذا الذي يشهد نشر أقسى صنوف العداء والكراهية والتناحر، ويختلق شتى الذرائع لترويجها وتنفيذها، عمل رحيم كهذا وإن كان ضائعاً في زحمة ما يحدث ويُذاع من فظائع ووحشية على امتداد العالم، يؤكد الأمل ويضاعف أهمية إشاعة ثقافة العطاء والتسامح، وفي الوقت نفسه يؤشر إلى الحاجة إلى تأمل واستقراء ما يقف وراء مبادرة كهذه من روح أو حالة ثقافية عموماً.

لذا سعيت، في محاولة للتقصي والاكتشاف، إلى التماس جذر ما قامت به السيدة يوكيكو هاشيدا، فهل يكمن الأمر في خلفية الشخصية اليابانية وطبيعتها التي يعتبر البعض أن فهمها يستلزم فهم أرض وطبيعة وجغرافيا اليابان، إضافة إلى التاريخ... هذا الفهم واحد من المفاتيح، أو أنه يكمن في روح الجماعة التي تحكم شخصية الياباني، وهو ما  ينشأ عليه منذ الصغر، اقتراناً بفضيلة التواضع المعروفة عنه، «ففي اليابان يتوقع من الفرد أن يكون متواضعاً إلى حد بعيد، فهو لا يرى ضيراً في أن يضع نفسه في الخلف والآخرين في الأمام» كما يذكر د.عبدالعزيز تركستاني، في كتابه «الشخصية اليابانــــية»، نقلاً عن جون ورنوف. 
وهل للمسألة صلة بالتزام الياباني بالنظام واحترامه وتقديسه العمل، أو هو الجذر السري الذي يصل الياباني بـ«طريق الآلهة»، وهو ما تعنيه كلمة «الشنتو»، الديانة الوطنية لليابان، وهي «الأقوى في قلوب اليابانيين» على الرغم من وجود البوذية والكونفوشيوسية والمسيحية. ورغم حضور الروح الدينية فإن الياباني لا يحفل بتصنيفه على أساس كهذا، مثل دولته التي ليس لها دين رسمي، وهو ما له علاقة، كما يبدو، بتاريخ اليابان. في هذا الشأن، يذكر فولتير في كتابه «رسالة في التسامح»: «لقد كان اليابانيون أكثر الناس تسامحاً، فقد تعايشتْ اثنتا عشرة ديانة بأمان في إمبراطوريتهم».
وأمضي في أسئلتي على أمل العثور على ما يعزّز هذه الومضات، للإضاءة أكثر على هذه الروح الكبيرة وفعلها الذي يبلغ مرتبة الرسولي، أي مبادرة السيدة هاشيدا. يروي الكاتب يوسف القعيد في كتابه المكرّس لرحلته اليابانية «مفاكهة الخلان في رحلة اليابان» أنه زار معبداً عجيباً هناك يضم ألف نسخة من تمثال بوذا لا يُشبه بعضها بعضاً، وحين سأل مستفسراً عن معنى ذلك أُجيب بأن كل مواطن عادي يمكن أن يصبح بوذا شرط أن يتصرف كما تصرف بوذا. 
إنها صناعة المثال وتربية الجمهور على التطلع إليه وبلوغه، والأسئلة لا تني تتوالد: هل لهذه الفدائية في التسامح والغفران من علاقة بروح «الساموراي» التي تعني «الذي يضع نفسه في الخدمة»، خدمة إلى حدّ الانتحار، كما يجري ذلك في طقوس احتفالية معروفة لدى هذه الطبقة من المحاربين؟ هل لفعل بهذا الحجم من تفسير في فن الهايكو المتآخي مع روح الطبيعة وكأنه جزء منها، والذي أصبح بمنزلة هوية اليابان الشعرية؟ هل السر في «سلوك الياباني الذي لا يشبهه سوى سلوك الأطفال» كما يرى الشاعر السوري محمد عضيمة في كتابه «غابة المرايا اليابانية»؟ هل هو في انتفاض اليابان على ماضيها العسكري وحروبها الطويلة، داخلياً وخارجياً، والتي كان آخرها ضد الولايات المتحدة، في أربعينيات القرن الماضي، ومن ثمّ استخلاص العبرة بعد هيروشيما وناكــــــازاكي بحيث تحوّلت الطاقات إلى البناء والسلام والتــــعايش والتســــامح؟ وثانية نعود إلى ديانة الياباني، متسائلين عن أثرها في تجربتهم، نظراً لأن الكثير ممن بحثوا في التجربة اليابانية أرجعوا الكثير من مظاهر تفوق اليابانيين إلى جـــذور دينية، كما في الروح الجماعية، مثلاً، التي تحكم الياباني في كلّ شيء، والتي هي واحدة من عوامل النجاح هناك، فأصول هذه النزعة تعزى إلى البوذية. بل إن الأمر يذهب إلى مديات قد لا يمكن تصورها في مجــتمع بلــــغ أقــــصى درجات التطوّر والتنظيم والتقدم التقني كالمجتمع الياباني، مثلاً «عندما تقرّر شركة إلكترونية كبرى في قمة التقدم التكنولوجي بناء مصنع جديد، فإن مراسم وضع حجر الأساس يرأسها كاهن شنتوي ينشد التعازيم والعبارات السحرية الموكل إليها تطهير الموقع الذي تمّ اختياره»، يخبرنا بذلك تقديم كتاب «سفينة الموت»... ديوان الشعر الياباني الحديث، ترجمة محمد عضيمة وكاورو ياماموتو. 
وما الالتزام بمظهر كهذا إلا لأنّ «يابان اليوم نتاج مصالحات بارعة من جميع الأنواع والأشكال بين القديم والحديث، سواء في الفن والسياسة أو على الصعيد الاجتماعي»، وفق «غابة المرايا اليابانية».
إذاً لابد أن في هذه المقدرة على التصالح والجمع بين الأمس واليوم، وبين ما هو روحي ومادي وبين ما هو تقني وما هو من أشكال ووسائل للعيش تنتمي إلى ما هو بسيط ومتواضع، في الوقت الذي بإمكان الياباني أن يسيّر فيه الروبوتات كخدم في مطابخ البيوت، إنه نوع من التسامح والتصالح أيضاً.
إن ما أنجزته السيدة يوكيكو هاشيدا بروحها ودأبها لهو بصمة إنسانية كبرى خاصة بها، تتمثل في إقامة هذا المستشفى،  وعلى الرغم من الأهمية العمَلية والفائدة المباشرة التي يقدمها هذا المرفق المتطور للناس، فإن القيمة الرمزية له أكبر بكثير مما هو عليه في الواقع، فالمثل الذي يقدمه في الإخاء الإنساني أكثر خلوداً وأثراً لا سيما في نفوس تعي رسالة وخطوة هائلة كهذه. إنجاز ينطوي على رسالة تشير إلى الحياة وقداستها، لا كما في هذا الشعار الذي يتردّد في أكثر جنبات منطقتنا المنكوبة: «الدم بالدم والهدم بالهدم»، هذا الشعار الذي ينطق عن ثقافة سوداء هي ثقافة الموت والضغينة والخراب. ثقافة لا تشق إلا أنهار الدم، ولا تخطط إلا لفساد البلاد والعباد، فيما الحياة بكل ازدهارها تتولّد من ثقافة التواضع والسلام وروح الجماعة والتفاني في العمل التي تسم المجتمع الياباني والتي اختصرها العالم، انبهاراً، في تسمية «المعجزة اليابانية»، هذه المعجزة التي تجلّى شيءٌ منها أو كلّها في الفلوجة على يد سيدة قادمة من بلاد الشمس المشرقة اسمها يوكيكو هاشيدا. هذا الاسم الذي لن يكون عابراً بأي حال في السجل الإنساني لما اقترن به من شجاعة نادرة وصنيع لا تتاح المقدرة على أدائه إلا لروح ممسوسة بنور إلهي.