الطفولة المعذبة

الطفولة المعذبة

تستغل‭ ‬الحكومات‭ ‬طاقة‭ ‬الشبان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التجنيد‭ ‬الإجباري،‭ ‬وتقنعهم‭ ‬بشعاراتها،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬القانونية‭ ‬مقبولاً،‭ ‬ويمكن‭ ‬لأصحاب‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬تبريره‭ ‬بسهولة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تبريره،‭ ‬أو‭ ‬القبول‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬تجنيد‭ ‬الأطفال‭ ‬الصغار‭.‬

وطبقاً للمعاهدات والأعراف الدولية، فإن تجنيد واستخدام الأطفال للعمل بوصفهم جنوداً يُعد أمراً محظوراً، وهو بموجب القانون الدولي، وحسب المحكمة الجنائية الدولي «جريمة حرب»، ويُعلِن قانون حقوق الإنسان سن الثامنة عشرة بوصفها الحد الأدنى للعمر بالنسبة للتجنيد، وفي التقارير السنوية للأمم المتحدة، وضمن قوائم خاصة يصدرها الأمين العام توضع أطراف النزاع التي تجنِّد وتستخدِم الأطفال في قائمة تسمى «قائمة العار». وقد أدرجت الأمم المتحدة 52 طرفاً في لائحة العار السنوية للعام 2013. 

وفي مايو عام 2000، وقّعت أربع وتسعون دولة على بروتوكول اتفاقية الأمم المتحدة الخاص بحقوق الأطفال، والذي يمنع الحكومات والجماعات المتمردة من استخدام الأطفال في أي شكل من أشكال الصراع المسلح، ومع تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة للبروتوكول فقد صار إلزامياًّ، كما دعت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) لاعتماد يوم 12 فبراير يوماً لمناهضة تجنيد الأطفال.

وحسب إعلان مبادئ باريس، بشأن إشراك الأطفال في المنازعات المسلّحة (2007)، فإن الطفل المجند هو أي طفل دون الثامنة عشرة من عمره يرتبط بقوة أو بجماعة عسكرية، سواء كان مجنّداً مسلحاً، أو مُستخدَماً في أي صفة بما في ذلك استخدامه محارباً أو طاهياً أو حمّالاً أو جاسوساً أو لأغراض جنسية. 

وتقدر تقارير لمنظمات دولية متخصصة (منها اليونيسيف) عدد الأطفال المجندين الذين يشاركون في القتال حول العالم بحوالي 250 - 300 ألف طفل. وتضم إفريقيا أكبر عدد منهم، أكثرهم في بوروندي وإفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو ورواندا والصومال والسودان وأوغندا. أما في آسيا، فهناك أيضاً الآلاف من الأطفال الذين تم توريطهم في القتال، مثلاً «ميانمار»، البلد الوحيد في العالم الذي يجبر الأطفال بين الـ12 والـ18 عاماً على الانتماء إلى الجيش، وهناك أطفال جنود في أفغانستان وبنغلاديش والهند وإندونيسيا والنيبال والفلبين وتايلاند وسريلانكا، وكذلك في إيران والعراق وسورية وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة وفي اليمن. أما في أميركا اللاتينية، فهناك نحو 14 ألف طفل، ينتمون للقوات المسلحة المختلفة في كولومبيا. وأيضاً هناك أطفال ينتمون إلى فرق مسلحة في تركيا والشيشان.

وقد أصبح تجنيد واستخدام الأطفال الوسيلة الأسهل لكثير من الجماعات ‏المسلحة من أجل شن الحروب، نظراً لسهولة استمالتهم، ودفعهم لارتكاب العنف، ذلك لأنهم في هذا العمر يكونون ساذجين وسريعي الانقياد، ويسهل توجيههم. وسواء التحقوا بالجماعات العسكرية غصباً عنهم، أو طمعاً منهم، أو تم تضليلهم، فإن تلك الجماعات المسلحة تُخضعهم لعمليات غسيل دماغ، تمتد سنوات عديدة، يتعرضون خلالها لشتى صنوف القهر والإخضاع والترهيب، وإجبارهم على الطاعة العمياء، وجعلهم خائفين باستمرار على حياتهم؛ فيدركون بسرعة أن الطاعة والانقياد هما السبيل الوحيد لضمان بقائهم. وفي بعض الأحيان (كما في سيراليون) يجبرونهم على المشاركة في قتل أطفال آخرين أو أعضاء من أسرهم، وحتى على ارتكاب مجازر دموية، ومن بعدها يخبرونهم بأنه ليس هناك من سبيل أمامهم للعودة إلى ديارهم بعد ارتكابهم لمثل هذه الجرائم.

وبغض النظر عن كيفية تجنيدهم، وعن المهمات التي تُطلَب منهم؛ فإن هؤلاء الأطفال غالباً ما يقعون ضحايا نزاعات لا دخل لهم فيها، ويتعرضون لأشكال مهينة من الأذى الجسدي والنفسي، وكثير منهم يموتون من جراء ذلك، وفي جميع الأحوال فإنهم، بالإضافة لحرمانهم من عوائلهم، ومصادرة حقهم الطبيعي في العيش حياة طبيعية، وسرقة طفولتهم، واستغلالهم أبشع استغلال؛ يتعرضون لمعاناة نفسية خطيرة جداً، تترك آثارها المدمرة لأمد طويل، ويواجهون صعوبات بالغة في التكيف مع مجتمعاتهم، وأكثرهم يستبد به باليأس والشعور بضياع المستقبل.

في منطقة القبائل على الحدود بين باكستان وأفغانستان، تقوم جماعة «طالبان» بتجنيد الأطفال مبكراً وهم في سن الخامسة، من خلال دعوتهم للمسجد أولاً، وتحفيظهم آيات من القرآن الكريم، وتلقينهم دروساً دينية منتظمة إلى أن يبلغوا العاشرة؛ لتبدأ بعدها المرحلة الثانية، وهي تهيئتهم لتقبّل فكرة العمليات الانتحارية، من خلال تشريبهم مبادئ الجماعة وأيديولوجيتها المتشددة، ثم تدريبهم فعلياً على الأعمال القتالية، إلى أن يتم إرسال من يقع عليه الاختيار إلى أحد الأهداف ليفجّر نفسه هناك. 

وقد استغلت «طالبـــان» فقـــــر الأهالي وخوفهم من معارضتهم لهم؛ فبدأوا بخطف الأطفال من أُسَرهم، ولم  تجد تلك الأُسر، المغلوبة على أمرها، أمامها خياراً لتجنب العواقب سوى تسليمهم أبناءهم لمعسكرات «طالبان»، مقابل إطعامهم هُم وأسرهم، (وكذلك فعل تنظيم داعش).

في باكستان وحدها يوجد 18 مليون طفل، (عدا أفغانستان التي تعيش ظروفاً أسوأ)، وإذا ما وسعت «طالبان» دوائر حربها، وأحرزت مزيداً من المكاسب، وبسطت نفوذها هناك، فسيكون لديها مخزون من القنابل البشرية يكفي لإعادة مدن العالم وحواضره إلى زمن اكتشاف الزراعة.

ومن بين أكثر صور تجنيد الأطفال التي تستفز المشاعر الإنسانية، صورة أطفال إسرائيليين يوقّعون أسماءهم على صواريخ، على وشك أن يطلقها جيش الاحتلال لتدمر بيوت أناس آمنين في قطاع غزة، أو على جنوب لبنان، وسيكون من بين الضحايا أطفال في عمرهم، ذنبهم الوحيد أنهم وُلدوا في الجبهة المضادة، وهذه الصور تفضح الدعاية الزائفة التي تتبجح بها إسرائيل من أنها دولة متمدنة تنتمي للحضارة الغربية، وأنها تمثل القيم الإنسانية التحررية!!  

في فلسطين اعتقلت إسرائيل خلال عام 2014 نحو 600 طفل فلسطيني، منهم 200 مازالوا خلف القضبان، وهناك أيضاً أطفال غزة، الذين عجنتــــهم الحيــــاة بقسوة، واختبروا أشكالاً عنـــيفة للمــــوت، وشهدوا قبل أن يصِلوا إلى سن المراهقة أربع حروب إسرائيلية... شبُّوا وليـــس في مخيــلاتهـــــم سوى ذكــــريات القــصـــــف الذي باغتــهـــم مع انقطــــاع الكهــــرباء، واختبارات الخوف، وعجز الآباء عن حمايتهم، ومشاهد الدبابات وهم يقذفونها بحجارتهم الصغيرة.

 هؤلاء جرّدتهم الحروب من طفولتهم، وكبّرتهم بقفزات زمنية أسرع من أقرانهم، وسلبتهم أحلى سنين عمرهم... ومع ذلك دافعوا عن طفولتهم بكل بطولة، دون مساعدة من أحد، لكنهم خسروها. 

أولئك الذين يسوقون الأطفال إلى ساحة الحرب هدفهم تربيتهم على الكراهية، وتهيئتهم لأن يصبحوا قتلة، وزرع الفكر العنصري في عقولهم في هذه السن المبكرة، لكي ينظروا لغيرهم على أنهم لا يستحقون العيش، وأن قتلهم أمر بمنتهى البساطة، يشبه قتل الأعداء في ألعاب الفيديو!!

وإلى جانب الأطفال المجندين، هنالك الأطفال الذين يتم اختطافهم ضمن صفقات الاتجار بالبشر، لاستغلالهم جنسياًّ، أو للاتجار بأعضائهم، أو لاستغلالهم في أعمال شاقة، وكذلك الأطفال الذين فقدوا أهاليهم بالحروب. 

لنرحم الطفولة .

 

الرصاص‭ ‬يهين‭ ‬براءة‭ ‬الطفولة

آثار‭ ‬الأذى‭ ‬النفسي‭ ‬لا‭ ‬تزول

المعذبون‭ ‬في‭ ‬الأرض