ماهيـة التوحـد

ماهيـة التوحـد

يعد‭ ‬التوحد‭ ‬Autism‭ ‬اضطراباً‭ ‬في‭ ‬النمو‭ ‬العصبي،‭ ‬يصيب‭ ‬الأطفال‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬ويؤثر‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬الطبيعي‭ ‬للدماغ،‭ ‬ويعود‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬إغريقية‭ ‬هي‭ ‬اأوتوسب‭ ‬Autous‭ ‬وتعني‭ ‬النفس‭ ‬أو‭ ‬الذات‭. ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬اتفاق‭ ‬على‭ ‬تعريب‭ ‬موحّد‭ ‬لهذا‭ ‬المصطلح‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬فالبعض‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬لفظ‭ ‬التوحد،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يترجمونه‭ ‬بالاجترارية،‭ ‬كما‭ ‬يسميه‭ ‬آخرون‭ ‬الذاتوية،‭ ‬وهذه‭ ‬المصطلحات‭ ‬الثلاثة‭ ‬تعد‭ ‬شائعة‭ ‬لدى‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفئات‭ ‬الخاصة‭. ‬

بداية‭ ‬ظهور‭ ‬التوحد‭ ‬

أول من أشار إلى هذا الاضطراب كان الطبيب النفسي «ليو كانر» Leo Kanner وذلك سنة 1943، حيث قام بفحص مجموعة من الأطفال المتأخرين عقلياً بجامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية. ولاحظ وجود أنماط سلوكية غير عادية لأحد عشر طفلاً كانوا مصنفين على أنهم متأخرون عقلياً، لكن سلوكياتهم لا تتشابه مع أي اضطرابات عرفت في ذاك الوقت، وأطلق على هذه الفئة من الأطفال مصطلح «التوحد الطفولي»، ووجد أنهم يعانون مشكلات عدة تشمل عدم القدرة على بناء علاقات اجتماعية مع الآخرين، وتأخراً في نمو واكتساب اللغة، ووجوه نشاط لعب متكررة ونمطية. 

 

معدلات‭ ‬الانتشار

يظهر التوحد في جميع أنحاء العالم وفي مختلف الجنسيات والطبقات الاجتماعية. وتوجد دراسات كثيرة في الدول الأجنبية عن معدلات انتشار التوحد. ولم تجر حتى الآن أي دراسات للكشف عن مدى انتشار التوحد في العالم العربي، ولكن توجد دلائل على أن مدى انتشار التوحد آخذ في التزايد. وتقدر نسبة حالات الإصابة باضطراب التوحد بين الذكور والإناث بأربعة ذكور مقابل أنثى واحدة. 

 

تعريف‭ ‬التوحد

تعرِّف الجمعية الأمريكية للتوحد هذا الاضطراب بأنه أحد الاضطرابات العصبية التي تؤثر على وظائف المخ وكل جوانب النمو، فتؤدي إلى صعوبات في التفاعل الاجتماعي وعقبات في التواصل اللفظي وغير اللفظي، وترجيح الاستجابة بشكل أكبر إلى الأشياء دون الأشخاص ومقاومة التغيير البيئي وتكرار دائم لحركات أو مقاطع الكلمات آلياً. 

 

أسباب‭ ‬التوحد‭ ‬

هناك عديد من النظريات التي حاولت إيجاد أسباب حدوث التوحد لدى الأطفال، حيث تشير النظريات الوراثية إلى وجود عامل وراثي وخلل في الجينات Genes يحدث خلال فترة الحمل، ويُعزى إليه السبب في ظهور هذا الاضطراب، ومع وجود أدلة على صحة هذه النظرية تظل صيغة الانتقال الجيني غير معروفة، في حين تشير النظريات العصبية إلى أن كبر حجم كل من الفص القفوي Occipital Lobe والفص، الجداري Parietal Lobe عند الطفل هو الذي يؤدي إلى ظهور هذا الاضطراب بمختلف أعراضه. 

كما تشير النظريات البيئية إلى أن اضطراب التوحد يحدث نتيجة مسببات بيئية خارجية تؤدي إلى حدوث خلل أو أذى في المخ في سياق مرحلتي الحمل والولادة والحوادث التي قد يتعرض لها الجنين والوليد، والتلوث البيئي الذي قد يتعرض له الطفل لاحقاً، بالإضافة إلى تعرض الأم أثناء فترة الحمل إلى الإشعاعات المختلفة وتناولها بعض الأدوية دون استشارة الطبيب أو إفراطها في التدخين وشربها الكحوليات، أو بسبب حملها بعد سن الخامسة والثلاثين، ويتضح من هذا العرض المختصر أن اضطراب التوحد قد لا يعود لسبب واحد، وإنما قد يرجع إلى عدة أسباب مجتمعة. 

 

أعراض‭ ‬التوحد‭ ‬

يعاني الطفل التوحدي من قصور في العلاقات الاجتماعية يتضح في عدم تأثر الطفل التوحدي بوجود الآخرين حوله، ورفضه للتلامس الجسدي، ومقاومته بشدة لمحاولة الوالدين حمله وتقبيله، وعدم رفع يده إلى من يريد حمله من المهد الذي ينام فيه، وتفضيله اللعب بمفرده عن اللعب مع الآخرين، والعزلة، وإزعاج المحيطين بنوبات البكاء والصراخ، والفشل في الاستجابة بشكل ملائم للتعليمات الموجهة إليه، وعدم الاستجابة لنداء الآخرين له. 

وتظهر لدى الطفل المصاب بالتوحّد سلوكيات نمطية متمثلة في الدوران حول نفسه دون الشعور بالدوخة، والسير على أطراف الأصابع، والنظر لفترات طويلة في اتجاه معين نحو مصدر الضوء أو الصوت، والميل إلى البقاء في الظلام، والإصرار على إطفاء الإضاءة، والإصرار على اللعب بالطريقة نفسها وباللعبة نفسها دائماً، وهز الرأس أو الرجلين أو الجزء العلوي من الجسم، والتصفيق باليدين، ومص الأصابع، وخاصة الإبهام، والإصرار على ارتداء الملابس نفسها وعدم إبداء أي رغبة في التغيير، والرفض الشديد لتغيير مكان أي قطعة من الأثاث المنزلي، والإصرار على عودتها إلى مكانها. 

وغالباً ما يقترن التوحد بظهور مجموعة من السلوكيات العدوانية وإيذاء الطفل لذاته، حيث يقوم بعضّ نفسه حتى يدمى ويلطم وجهه بكلتا اليدين أو إحداهما ويقترب ويمسك مصادر الكهرباء، ويستمر في حالة من الهياج الشديد، وهو دائم الجري والتنطيط على الأثاث ولا يستجيب لمحاولات منعه أو إيقافه، وقد ينزع خصلات من شعره، ويتلف الأشياء بسكبها على الأرض أو إلقاء بعض الأدوات من النوافذ. 

ويقوم الطفل التوحدي بمجموعة من السلوكيات الغريبة والشاذة، ومنها قيامه بتمزيق ملابسه، وارتداء الملابس الشتوية في الصيف، والتقاط الغبار من ضوء الشمس، ورصّ الأشياء في صفوف مستقيمة بشكل يعيق الحركة، وعدم تحمل أحزمة السيارات، وعدم ملاحظة الفرق بين الليل والنهار، فقد يطلب الذهاب إلى الحضانة في ساعة متأخرة من الليل، وينزعج بشدة من الصابون والعطور ويكاد يستحيل استحمامه، وقد نجده يتعلق بأشياء معينة عديمة القيمة إلى حد الهوس، ويصر على الذهاب بها إلى كل مكان ويبدي انزعاجاً شديداً ومقاومة إذا حاول أحد أخذها منه. 

 

العلاج

لا يــــمـــكن التــعـامل مع الأطفال التوحديين بـأسلوب متـمـاثل، لأنهم غـــير متــشابهيــن، فهم يختلفون في الأعراض والأسباب والشدة، لذلك لا توجد برامج تصلح لعلاج جميع الأطفال، ولهذا السبب غالباً ما توضع برامج علاجية تلبي احتياجات ومتطلبات كل طفل على حدة وفقاً لقدراته العقلية لأن اضطراب التوحد يعتبر اضطراباً ممتداً، فهو يستمر فترة طويلة، ويتوقف مستوى التحسن على عوامل  عدة، أهمها الذكاء والقدرة على اكتساب لغة التواصل، فنسبة قليلة من هؤلاء الأطفال يتحسنون بدرجة كبيرة ويعيشون حياة طبيعية، أو تكون حالاتهم متوسطة أما بقية الحالات، خاصة تلك التي يصاحبها تأخر عقلي، فإنهم يحتاجون إلى رعاية طوال حياتهم. 

ويؤكد أغلب المتخصصين في التعامل مع الأطفال التوحديين ضرورة إجراء تقويم شامل للطفل، وذلك لتحديد درجة وشدّة التوحد، وللوقوف على نقاط الضعف والقوة لديه، وذلك لتحديد البرامج التي تتناسب مع حالة الطفل ومحاولة توظيف نقاط القوة لديه لمساعدته حتى يستطيع تطوير مهاراته والتخفيف من حدة أعراض التوحد لديه، وخاصة في مجال التواصل واللغة وتقبل الغير والتخلص من السلوكيات الغريبة والشاذة والسلوكيات النمطية. 

ويتلقى الأطفال المصابون بالتوحّد الرعاية والتأهيل في مراكز متخصصة، ويشرف على تعليمهم متخصصون في مجال التعامل مع هذه الفئة، ولكن قد يحتاج الطفل قبل ذلك لعلاج دوائي يخفف من الاضطرابات السلوكية لديه مثل العدوان والنمطية وفرط الحركة وإيذاء الذات، ثم يأتي بعد ذلك في الأهمية تقديم جلسات إرشادية للوالدين لتقديم الدعم والمساندة والتوعية لهما لزيادة قدرتهما على تحمل ورعاية ابنهما التوحدي، بالإضافة إلى إخضاعهما لبرامج العلاج السلوكي لكي يتمكنا من مساعدة طفلهما أثناء وجوده معهما في المنزل. 

وانتشرت في الفترة الأخيرة الكثير من البرامج التي أثبتت فاعليتها في تدريب الطفل التوحدي، طوَّرها مجموعة من العلماء في الجامعات الأجنبية. وتهدف هذه البرامج كلها، حتى وإن اختلفت مسمياتها، إلى مساعدة الطفل التوحدي بالتدريب على المهارات المتعددة فترات طويلة تقدر بساعات عدة، بالإضافة إلى دمجه عدداً من الساعات مع الأطفال الأسوياء، سواء في مرحلة الروضة أو مراحل التعليم، وكذلك إشراك الوالدين في تدريب الأطفال مع مراعاة أن تكون المهام التي يتدرب عليها الطفل متدرجة من الأسهل إلى الأصعب.

 ونختتم هذا المقال بأن أفضل علاج للتوحد يتمثل في التقبل (ت) والوعي (و) والحب (ح) والدمج  (د) ومجموع هذه الحروف يشكّل هذا المصطلح توحد .