الإبداع والتربية الإبداعية

الإبداع والتربية الإبداعية

يُعد‭ ‬الإبداع‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الأهداف‭ ‬التربوية‭ ‬التي‭ ‬تتوق‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الطموحة‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها،‭ ‬بل‭ ‬يظل‭ ‬لغة‭ ‬الانسان‭ ‬العليا،‭ ‬التي‭ ‬تنضج‭ ‬معها‭ ‬بالصقل،‭ ‬رغم‭ ‬الرأي‭ ‬القائل‭ ‬بفطرية‭ ‬وجبليّة‭ ‬الإبداع،‭ ‬فإن‭ ‬الفرد‭ ‬بذاته‭ ‬لا‭ ‬يولد‭ ‬مبدعاً‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬وهلة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬بذور‭ ‬أو‭ ‬اجيناتب‭ ‬الإبداع‭ ‬تولد‭ ‬معه،‭ ‬وقد‭ ‬تموت‭ ‬معه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬ساقياً‭ ‬ينمي‭ ‬جذورها‭ ‬ويفرع‭ ‬أغصانها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬بحاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إلى‭ ‬مخرجاته‭ ‬التنموية،‭ ‬وهي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬الاستدامة‭ ‬الفكرية‭ ‬والحضارية‭ ‬التي‭ ‬تتشارك‭ ‬فيها‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء‭. ‬

كما‭ ‬قــــال‭ ‬جـــون‭ ‬هولـــت‭ ‬John Holt‭ ‬اليـــــس‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نجعلَ‭ ‬البشرَ‭ ‬أذكياء،‭ ‬فهم‭ ‬يُخلقونَ‭ ‬كذلك،‭ ‬وكلُّ‭ ‬ما‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نفعلَه‭ ‬هو‭ ‬التــــوقّفُ‭ ‬عن‭ ‬ممارسةِ‭ ‬ما‭ ‬يجعلُهم‭ ‬أغبياءب‭. ‬

‭ ‬لذا،‭ ‬فـــــإن‭ ‬عـــلى‭ ‬التربية‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬متجددة‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجة‭ ‬ممكنة‭ ‬في‭ ‬أهدافها،‭ ‬ومناهجها،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنعزل‭ ‬عن‭ ‬مجريات‭ ‬الأحداث،‭ ‬وأن‭ ‬تحاول‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عناصرها‭ ‬ووسائطها‭ ‬المختلفة،‭ ‬بناء‭ ‬الشخصية‭ ‬المبدعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتابع‭ ‬الجديد‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تؤثر‭ ‬فيه‭ ‬وتجد‭ ‬لنفسها‭ ‬مكاناً‭ ‬فــي‭ ‬عالــــم‭ ‬الإبداع‭. ‬

  لذا تبرز مشكلة البحث في الإجابة عن الأسئلة التالية:

- ما المفاهيم المهيكلة للإبداع؟ وما التربية الإبداعية؟ وما  النظريات المفسرة لها؟

- ما سمات المتعلمين المبدعين؟ 

- ما العوامل المحفزة على الإبداع؟

- وما المعيقات التي تحول دون الإبداع؟

 

الإبداع‭ ‬والتربية‭ ‬الإبداعية

‭ ... ‬في‭ ‬إشكالية‭ ‬المصطلح‭:‬

الإبداع مصدر أبدع، وأبدع الشيء استخدمه وأخرجه على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {قُلْ‭ ‬مَا‭ ‬كُنْتُ‭ ‬بِدْعًا‭ ‬مِنَ‭ ‬الرُّسُلِ‭ ‬وَمَا‭ ‬أَدْرِي‭ ‬مَا‭ ‬يُفْعَلُ‭ ‬بِي‭ ‬وَلَا‭ ‬بِكُمْ‭ ‬إِنْ‭ ‬أَتَّبِعُ‭ ‬إِلَّا‭ ‬مَا‭ ‬يُوحَى‭ ‬إِلَيَّ‭ ‬وَمَا‭ ‬أَنَا‭ ‬إِلَّا‭ ‬نَذِيرٌ‭ ‬مُبِينٌ} (سورة الأحقاف: 9)

إن مقاربة الإشكالية الإبداعية تدفعنا دفعاً إلى تفكيك المفاهيم القريبة، ولعل من أبرزها: الاختراع والابتكار والكشف والموهبة... كما أن مفهوم الإبداع يختلف تناوله من باحث إلى آخر من خلال زاوية بحثه، إن على مستوى تحديد صفات الشخصية المبدعة أو حل المشكلات الطارئة أو البيئة الاجتماعية المبدعة.

- الإبداع وركائزه الأساسية: الإبداع هو امتلاك فكرة جديدة، وهناك أربعة معايير للفكرة الجديدة، إذ يجب أن تكون شخصية، أصيلة، ذات معنى ونافعة.

- الإبداع وحل المشكلات الطارئة بطريقة علمية: الإبداع هو القدرة على الخيال والتصور السريع لمختلف الحلول الأصلية، في مواجهة مشكلات. ويعرّف بول تورانس E.Paul Torrance الإبداع: «عملية تشبه البحث العلمي، فهو الإحساس بالمشاكل، والثغرات في المعلومات وتشكيل أفكار وفرضيات، ثم اختبار هذه الفرضيات وتعديلها حتى يتم الوصول إلى النتائج.

- الإبداع والبيئة المبدعة: الإبداع ظاهرة اجتماعية ذات محتوى ثقافي وحضاري، والفرد يصبح جديراً بصفة المبدع إذا تجاوز تأثيره على المجتمع حدود المعايير العادية، وبهذا المعنى يمكن النظر للإبداع باعتباره شكلاً من أشكال القيادة التي يمارس فيها المبدع تأثيراً شخصياً واضحاً على الآخرين.

أما التربية الإبداعية: أو بيداغوجيا الإبداع (la Pédagogie de la creativité): هي سيرورة أو عملية تعليمية - تعلمية، تضع المتعلم أمام وضعية– مشكلة، بحيث يضطر إلى استحضار موارده النظرية والمنهجية والمهارية ورؤيته الثاقبة لحلها، وعلى ضوء ذلك تظهر قدرة المتعلم على إنتاج أفكار جديدة خاصة نابعة من حسه الإبداعي.

لذا، فإن على التربية أن تكون متجددة إلى أقصى درجة ممكنة في أهدافها، ومناهجها، حتى لا تنعزل عن مجريات الطفرات النوعية التي يعرفها العالم المتقلب معرفياً وعلمياً وقيمياً...

 

إطلالة‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬نظريات‭ ‬الإبداع

مشكلة الإبداع ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، إنما تمتد جذورها إلى بواكير الفلسفة وإرهاصاتها الأولى المتغلغلة في أعماق التاريخ، فيحدثنا تاريخ الفلسفة أن هوميروس وهيراقليطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو كانوا أول من تحدثوا عن هذه المشكلة.

اختلفت النظريات إذن في تفسير الإبداع وتحديد معناه وتبيان معالمه، لكن هذه النظريات على تباينها أوضحت جوانب مهمة من جوانبه وأبعاده المتعددة، وسنحاول أن نعرض لبعضها في إيجاز: 

أ‭- ‬نظرية‭ ‬الإلهام‭ ‬أو‭ ‬العبقرية

تفترض هذه النظرية أن الأعمال الإبداعية تظهر بشكل فطري في لحظات إيحاء، بغض النظر عما أنجز سابقاً وبمعزل عن التجارب والخبرات المتوافرة عند المبدع. وبناء على ذلك، فإن المبدع حسب هذه النظرية يستحضر الخيال الخصب، لكن يستلزم التنظيم والتوجيه والقدرة  على الحكم.

ب‭ - ‬نظرية‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ (‬السيكولوجية‭)‬

هذه النظرية تزعَّمها «سيجموند فرويد»، وتهتم بدراسة الدوافع النفسية أي العوامل الداخلية (وليس الخارجية) التي تدفع بالمبدعين إلى إنجاز أعمالهم الإبداعية، وترتكز على أن الصراعات الداخلية للفرد، التي ظلت مكبوتة تولد عنده الإبداع في مرحلة معينة، وكأنه تفجير للمشاعر والأحاسيس والغرائز، وكأنه يحاول إشباع غرائزه بوساطة هذا الإبداع.

ت‭- ‬النظرية‭  ‬العقلية

تذهب هذه النظرية إلى أن الإبداع نتاج العقل ووليد الفكر، وأن أي عمل مبدع كائناً ما كان لا يمكن أن يرى النور إلا إذا مسّته عصا العقل البشري، وخضع لتأمل وروية وإرادة وتصميم.

ورأى «جيلفورد» J.P. Guilford وهو من أبرز أصحاب هذه النظرية أن الإبداع هو تنظيم يتكون من عدد من القدرات العقلية منها الطلاقة والمرونة والأصالة والحساسية تجاه المشكلات.

ث‭- ‬نظرية‭ ‬القياس‭ ‬النفسي

وتعتبر هذه النظرية امتداداً لحركة القياس النفسي، التي بدأت مع العالم الفرنسي «ألفرد بينيه» binet في تطوير أول اختبار لقياس الذكاء. وترتكز على قياس الذكاء وعلى وجود علاقة بين السلوك والذكاء والإبداع. وعلى أن الإبداع شأنه شأن الذكاء يجب أن يخضع للبحث التجريبي والقياس، وهو موجود لدى كل الأفراد بنسب متفاوتة ، لذا يمكن قياسه وتحديده.

ج‭ - ‬النظرية‭ ‬الاجتماعية

تؤكد هذه النظرية دور المناخ والوسط الاجتماعي في عملية الإبداع  وفي النتاج الإبداعي، وتأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للإبداع وكذلك تأثير العوامل التربوية.

لقد أشار «جيرارد» R.Girard بقوله: «إن تصوراتنا المبدعة بكاملها ليست نتاجاً لدماغ معزول، بل لدماغ كان مرتبطاً بالتفاعل مع الناس الآخرين وبتاريخ الحضارة بكاملها»، وصرح بالشيء نفسه جان بياجيه J.Piaget بقوله: «إن المجتمع وحدة عالية، أما الفرد فإنه لا يصل إلى ابتكاراته وأعماله العقلية إلا بمقدار ما يحتل مكاناً في تفاعل الجماعات، وبالتالي في إطار المجتمع ككل. إن كبار الناس الذين خطّوا اتجاهات جديدة، ولم تكن «اتجاهاتهم» إلا نتاج تفاعل وتركيب لأفكار أعدت في إطار تعاوني مستمر».

ح‭- ‬نظرية‭ ‬حل‭ ‬المشكلة‭ ‬بطريقة‭ ‬إبداعية

تفترض هذه النظرية أن العملية الإبداعية هي عملية إيجاد حل إبداعي لمشكلة غير عادية.وقد اعتُمد هذا الأسلوب في إجراء دراسة مكثفة حول طبيعة العملية الإبداعية وتعليم الإبداع وهذا انعكس بصورة إيجابية على تطوير برامج تربوية بهدف تقوية الإبداع لدى المتعلمين. وكان يعتقد أن تفعيل القدرة على التخيل هو المفتاح لعملية الحل الإبداعي لأي مشكلة. ومن الجدير ذكره أن المشكلة التي نتحدث عنها هي الأسلوب المتبع لحل يكمن في تراتب هذه الخطوات الأربع:

- عرض المشكلة. 

- عرض الحقائق والأفكار. 

- إيجاد الحل. 

- قبول الحل.

 

سمات‭ ‬المتعلمين‭ ‬المبدعين

توصل أحد الباحثين إلى أن من سمات وصفات المتعلم المبدع ما يلي:

أ- العقل المتسائل الخلاق: وهي صفة تولد مع الإنسان وتعززها التربية والتدريب المبكر، وهي صفة محيرة، لأنها لا تتوقف عند فُضُول الأسرة، حيث ينتمي شخصان إلى أسرة واحدة موحدة وسهلة، بل تتجاوز ذلك إلى البحث في الأعماق لإيجاد البدائل.

ب - القدرة على التحليل: وهي القدرة على الحصول على المعلومات وتحليلها أو تجميعها ثم تقويمها والاحتفاظ بها بشكل منظم من أجل استخدامها في مواضعها الصحيحة. 

ت - النشاط المتميز: وذلك بكثرة السؤال عما يدور حوله وامتلاك درجة عالية من الذكاء وإدراك الأشياء بطريقة تختلف عن إدراك الآخرين.

إن الإبداع قوة دافقة وطاقة خلاقة، وقدرة على التجديد والتغيير؛ كل ذلك إن لم يُبْنَ على أصول، تضمن سلامته وصلاحه واستمراريته ونماءه، انحرف إلى وجهة غير صحيحة وكانت له آثاره السلبية على الفرد والمجتمع، إذ نجد «إبداعاً» في الشغب والانحراف الأخلاقي.. وهذا يهدم أكثر مما يبني، لهذا علينا كمربين أن نشجع على الإبداع التربوي الهادف، الذي يُنمّي ويساهم في الارتقاء بالمنظومة التربوية. 

 

العوامل‭ ‬المحفزة‭ ‬على‭ ‬الإبداع

وهنا أقف عند بعضها:

- دعم روح المغامرة والابتكار لدى المتعلمين.

- اتباع طريقة الاكتشاف وبيداغوجيا حل المشكلات للانفتاح على الاهتمامات الخاصة واليومية للمتعلمين.

- تشجيع ما يسمى بدينامية الجماعات والعمل التعاوني لاكتشاف المواهب والطاقات المتعلمة - المبدعة.

- تكثيف التكوينات المستمرة للمدرسين من أجل تطوير استراتيجياتهم في التدريس وتنمية حس التواصل والعلاقات الإنسانية لديهم.

- احترام الآراء ووجهات النظر المختلفة باتباع طريقة «العصف الذهني» للخروج بتوجهات علمية دقيقة.

 

المعيقات‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬الإبداع

 إلى جانب العوامل المحفزة تقف مجموعة من المثبطات أمام تنمية الإبداع لدى المتعلمين، ولعل من أبرزها:

- البرنامج الدراسي الحامل للموارد المعرفية المكثفة التي لا تشجّع الإبداع.

- ضغط الحيز والزمن البيداغوجي ومدى ارتباطها بالامتحانات الإشهادية، ما يدفع المدرسين إلى اعتماد الطريقة الكلاسيكية في التدريس، المبنية على التلقين وإملاء الملخصات. 

- طريقة الاختبارات والتقويم الكلاسيكي: التي تتميز بمطالبة المتعلمين باستظهارها واسترجاع المعارف من دون الارتقاء إلى المستويات العليا من التفكير.

- الضغط النفسي والإخفاقات المتكررة التي لا تتبع بالدعم والمواكبة التربوية (Accompagnement pédagogique) لمعالجة الاختلالات والتعثرات والنقائص التي يعاني منها المتعلم.

وختاماً، فالإبداع والابتكار من الضرورات والعناصر الملحة والآنية، التي يتحتم توفيرها في المدرسة الحديثة، وذلك نتيجة لتزايد الطموحات، وتعدد الحاجات وتنوعها، إذ تعدّ العولمة بمختلف تجلياتها وما تمليه من تحديات في شتى نواحي الحياة ومجالاتها من أبرز النقاط الجوهرية التي تستدعي الأخذ بالإبداع التربوي في العملية التعليمية - التعلمية لإيجاد مدرسة العصر بكل مقوماتها النهضوية.